يقول تعالى:
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾


أ- أهمية الخشوع:

إن لكل عبادة جسداً وروحاً، وروح العبادة الإخلاص وهو ما لا يتحقق دون حضور القلب وخشوعه حيث أن المدار عليه وهو الرئيس في هذه المملكة وسائر الجوارح تابعة له خاضعة لأوامره لذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أما أنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه"2 حينما رأى رجلاً يعبث في صلاته وما من شك أن هذا الظاهر غير المقبول هو انعكاس للباطن وحاكٍ عنه بما يتضمن من آفات ومشكلات وهذا مراد الحديث المتقدم في الربط والتأثير بين القلب والجوارح وتبعيّتها له، وبإمكاننا القول إن الصلاة التي لا ترفع هي من هذا القبيل حيث يكون المصلي
في حركاته الظاهرية قائماً بين يدي اللَّه تعالى لكنه في قلبه مشغول بسواه يفكّر في تجارته أو ممتلكاته أو زوجته أو سائر أمور دنياه، أو أنه قد شطت أفكاره إلى حيث قاده طائر الخيال بعيداً عن كعبة مقصوده ليفرغ من صلاته وهو غير ملتفت في أي وقت بدأها، غير متذكر لشيء قام بأدائه من أركانها أو أجزائها يقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم أن التفرغ للعبادة يحصل من تكريس الوقت والقلب لها والعبادة من دون حضور القلب غير مجدية وما يبعث على حضور القلب أمران: أحدهما تفريغ القلب والوقت للعبادة

وثانيهما: إفهام القلب أهمية العبادة"

ينبغي للمصلي إحضار قلبه في تمام الصلاة أقوالها وأفعالها فإنه لا يحسب للعبد من صلاته إلا ما أقبل عليه ومعناه الالتفات التام إليها وإلى ما يقول فيها والتوجه الكامل نحو حضرة المعبود جلّ جلاله واستشعار عظمته وجلال هيبته وتفريغ قلبه عما عداه4.


ب- كيف نحضر القلب؟

عرفنا أن إحضار القلب في العبادة يمثل روحها وهو أمر لا غنى عنه لكن ما هو الطريق إلى ذلك؟

يذكر علماء الأخلاق ثلاثة أمور تساعد على ذلك وهي:
الأول: أن يفرّغ نفسه قبل الدخول في الصلاة من الأفكار والهموم الدنيوية أو المعضلات العلمية وسائر ما يشغله عن التوجه إلى المقصود
الحقيقي حتى وإن كانت المسألة المطلوب حلها أخروية كما لو كان يبحث عن دليل شرعي على مسألة ما وبقي البحث يشغل ذهنه إلى أن دخل في صلاته وانتهى وهو يفكّر ويعمل جهده في طلب الحل، فإن هذا مما لا يجتمع قطعاً مع حضور القلب وإنما الواجب هو الانتهاء من حل تلك المسألة قبل الدخول في الصلاة حتى لا يكون في قلبه سوى اللَّه تعالى.

الثاني: إفهام القلب أهمية العبادة في ظاهرها وباطنها وشكلها ومضمونها بما تمثّله من صلة بين الخالق والمخلوق وغاية في الخلق والبعث وذلك كمقدمة لحضور القلب قبل الابتداء بالصلاة.

الثالث: وهو وظيفة مختلفة عن الأمرين الأولين حيث هما مطلوبان قبل الشروع بالعبادة بينما هنا المطلوب هو أثناءها بأن يتأمل في معاني ما يقوله في صلاته وأن يتابعها بتأنٍ وإمعان لا لقلقة لسان دون معرفة المعاني كالذي يلهج بذكر: سبحان ربي الأعلى وبحمده وفي نفس الوقت يكون ذهنه منشغلاً في حساب الأرباح اليومية لمبيعات متجره. ويشير إلى ضرورة التأمل والتفكر في معانيها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في وصاياه لأبي ذر رضي الله عنه: "يا أبا ذر ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساهٍ"5.


ج- صلاة الخاشعين:

إن هناك فرقاً شاسعاً بين صلاة الخاشعين وغيرهم نفهمه من
خلال القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾6 فإن من يصلي بهدف التخلص من مسؤولية الوجوب وليس بدافع خشوعه القلبي للَّه واستغراقه في ذاته سبحانه، يحسّ بثقل الصلاة وكأنها مشكلة له ويتمنى في أثناء صلاته بين آونة وأخرى أن تنتهي بسرعة كي لا تشغله عن متابعة أعماله ويرى بأنها قد زاحمت أشغاله واعترضت سيره، فيأتي بها باعتقاد وجوبها مع الإحساس بمشقتها كأنه يغفل عن مرور الزمن عليه حال الصلاة، فلا نتصور أن تكون الصلاة الموصوفة بهذا الوصف أي أنها كبيرة إلا على الخاشعين عبارة عن صلواتنا التي قد تكون نقراً كنقر الغراب ولذلك كان الجزاء كبيراً لمن قدر على حدود الصلاة كما حدّثنا عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: "من صلى ركعتين لم يحدّث فيها نفسه بشيء من الدنيا غفر له ما تقدم من ذنبه"7 وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "إذا قام العبد إلى صلاته وكان هواه وقلبه إلى اللَّه انصرف كيوم ولدته أمه.


د- خشوع أهل البيت عليهم السلام:

إن الحالات التي وصل إليها أهل العصمة والطهارة عليهم السلام بدءً من جدهم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وختماً بالوصي القائم عليه السلام لم يصل إليها نبي مرسل ولا ملك مقرب كما جاء صريحاً عنهم فكيف كان خشوعهم في الصلاة؟!
1- خشوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
في الحديث: "كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة تربد وجهه خوفاً من اللَّه تعالى.

2- خشوع أمير المؤمنين عليه السلام:
عن مولانا الصادق عليه السلام: "كان علي إذا قام إلى الصلاة فقال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض تغيّر لونه حتى يعرف ذلك في وجهه.

3- خشوع الصديقة الزهراء عليها السلام:
عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "أما ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.. متى قامت في محرابها بين يدي ربها جلّ حلاله زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض يقول اللَّه عزّ وجلّ لملائكته: يا ملائكتي انظروا إلى أمتي فاطمة سيدة إمائي قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي وقد أقبلت بقلبها على عبادتي


هـ - كيف نعلم بقبول صلاتنا؟
ربما يبدو وللوهلة الأولى أن الجواب صعب لكنه على العكس تماماً فإن الحصول عليه ممكن قبل يوم الحساب ووضع الأعمال في الميزان وذلك ما أشار إليه مولانا الصادق عليه السلام قائلاً: "من أحب أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعت صلاته عن الفحشاء والمنكر فبقدر ما منعته قبلت منهفالصلاة التي تحمل هذا الأثر تكتب وترفع وأما الفاقدة له فتردّ ويضرب بها وجه صاحبها.


و- حق الصلاة:
في رسالة الحقوق لسيد الساجدين علي بن الحسين عليه السلام: "وحق الصلاة أن تعلم أنها وفادة إلى اللَّه تعالى، فإذا علمت ذلك قمت مقام الذليل الحقير الراغب والراهب الراجي الخائف المسكين المتضرع لمن كان بين يديه بالسكون والوقار، وتقبل عليها بقلبك وتقيمها بحدودها وحقوقها مع الإطراق وخشوع الأطراف ولين الجناح وحسن المناجاة له في نفسه والرغبة إليه في فكاك رقبتك التي أحاطت بها خطيئتك واستهلكتها ذنوبك .

-- منقول --