إقتضت مشيئة الله أن تكون للإمام الحُجّة (عج) غيبتان الأُولى استمرّت 70 عاماً وانتهت بموت آخر سفرائه الأربعة السمَّري والثانية بعد ذلك التأريخ وتستمر إلى أن يأذن الله بخروجه بعد حاجة البشرية إليه.
وقد ورد في البحار قول علي بن موسى بن بابويه والد الصدوق عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أن الرسول (صلى الله عليه وآله) قال: مَن أنكر القائم مِن ولدي في زمان غيبته فقد مات ميتةً جاهلية
[1].
والغيبة عن الناس تقتضي وجود من ينوب عنه لأيصال أوامره وأخباره إلى شيعته. خصوصاً وأنَّ غيبته الصُغرى كانت في عهد الخلفاء العباسيين الذين أظهروا من ضروب القسوة بأن يقتلوا الإمام الحُجّة (عج) كي يقطعوا تيّار الرسالة الدافق المتمثل في أهل البيت (عليهم السلام) وإمامتهم للأمة بعد جدّهم العظيم (صلى الله عليه وآله) ولذا قيَّض الله للإمام الحُجّة (عج) أربعة من السفراء المؤمنين ليكونوا همزة الوصل بين الإمام وشيعته لينقلوا ما يأمرهم به إلى الشيعة المتواجدين في أماكن متعددة وأول السفراء بعد الغيبة الصغرى هو:
1/ عثمان بن سعيد العُمري: وهو المعروف بالسمّان لأنه كان (رحمه الله) يتاجر بالسمن وينتقل من مكان إلى آخر إخفاءً لمهمته العظيمة وهي تبليغ أوامر الإمام الحُجّة إلى شيعته وقبض الحقوق وصرفها في الوجوه التي يأمره الإمام بها.
وهو لم يكن سفيراً للإمام الحُجّة (عج) فحسب وإنّما تولى مهمة التبليغ لأبيه العسكري وجدّه الهادي (عليهما السلام) قبل سفارته للإمام الحُجّة (عج) أيضاً.
وقد قال الإمام الهادي (عليه السلام) بشأنه : إنّه الثقة الأمين ما قاله لكم فعنِّي وكذلك ما يؤديه. وبعد استشهاد الإمام الهادي (عليه السلام)، قال أحمد بن إسحاق القُمَّي دخلت على ولده الحسن العسكري (عليه السلام) وسألته عنه فقال العسكري (عليه السلام): هذا أبو عمر ـ يقصد عثمان بن سعيد ـ الثقة الأمين ثقة الماضي وثقتي في الحياة والممات ، فما قاله لكم فعنّي ما يقوله، وما أدّى اليكم فعنّي ما يؤديه
[2].
وفي رواية الشيخ الطوسي عن غيبة الإمام الحُجّة (عج) قال:
اجتمع أربعون شخصاً من الشيعة في مجلس الإمام العسكري (عليه السلام) وقام العمري يسأله عن الخليفة من بعده. فقال (عليه السلام) «جئتم تسألوني عن الحُجّة بعدي». قالوا: نعم. فأخرج لنا غلاماً هو أشبه الناس بالعسكري كأنه قمر، وقال:
«هذا إمامكم بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرقوا فتهلكوا في أديانكم ، ألا وإنكم لا ترونه بعد يومكم هذا. فاقبلوا من عثمان بن سعيد ما يقوله واقبلوا قوله، فهو خليفة إمامكم والأمر إليه». وقد ورد في رواية أخرى قال الإمام (عليه السلام): «أن إبنهُ محمد وكيل إبني مهديّكم».
وتوفى عثمان بن سعيد سنة 265هـ بعد أن استمرَّ في سفارته خمس سنوات وأقُبر في الجانب الغربي من مدينة السلام ـ بغداد ـ في شارع الميدان.
2/ محمد بن عثمان بن سعيد العَمري (أبو جعفر):
قام أبو جعفر مقام أبيه محمد العمري بنصٍّ من أبيه بناء على أمر الإمام الحُجّة (عج). وقال عبد الله بن جعفر: خرج التوقيع إلى أبي جعفر محمد بن عثمان في التعزية بأبيه قول الحُجّة : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون تسليماً لأمره ورضاءً بقضائه ، عاش أبوك سعيداً ومات حميداً فرحمهُ الله وألحَقَهُ بأوليائه. وفي فصل آخر قال الحُجّة (عج) مخاطباً إبن العُمري : «أجزل الله لك الثواب وأحسن لك العزاء ، رُزيت ورُزينا وأوحشك فراقه وأوحشنا فسرَّهُ الله في منقلبه. وكان من كمال سعادته أن رزقه الله ولداً مثلك يخلفه من بعده ويترحّم عليهُ، أعانَكَ الله ووفقك وكان لك وليّاً وحافظاً.
ثم تولّى السفارة بعد أبيه وبعد دعاء الإمام لهُ بنصِّ مِن الإمام العسكري حينما قال الإمام : إشهدوا عليَّ أن عثمان بن سعيد وكيلي ، وأن أبنه محمد وكيل ابني مهديكُم ، وكذلك نص أبيه على سفارته بناء على أمر الإمام المهدي (عج) يجري محمد عندنا مجرى أبيه ويسدُّ مسدّه، وعن أمرنا يأمر الأبن وبه يعمل. فكانت التوقيعات من الإمام الحُجّة تخرج على يده كما كانت تخرج في عهد أبيه العمـري واستمرَّ بمسؤوليتـه أكثر من اربعين عامـاً حتى توفى عام 305هـ
[3].
فهو أطول السفراء الاربعة خدمة في تنفيذ أوامر الحُجّة (عج). وكان يعلم بوقت وفاته كما أخبره الإمام المهدي (عج) فأعدَّ لنفسه قبراً وزينهُ بآيات من القرآن الكريم وأسماء أئمة الهُدى (عليهم السلام) وكان ينزل إليه ويقرأ القرآن ولما حلّ اليوم الذي حدده الإمام الحُجّة لوفاته فاُقبر في القبر المذكور والمعروف بالخلاني في ساحة الخلاني وقد أوصى قبل وفاته بأنّ السفارة من بعده ستكون للحسين بن روح السفير الثالث.
3/ الحسين بن روح النوبختي (أبو القاسم):
هو السفير الثالث الذي استمرَّت سفارته ونيابته للإمام الحُجّة (عج) حوالي عشرين عاماً حتى وفاته سنة 326هـ وهو وكيل لأبي جعفر أيضاً في أملاكه. وقد أوصى أبو جعفر بسفارته من بعده فقال: هو السفير بينكم وبين الحُجّة والقائم مقامي والوكيل والثقة الأمين فأرجعوا إليه في أموركم وعوُّلوا عليه في مهماتكم فبذلك أُمرت وقد بلَّغت.
وكان الحسين عالماً جليلاً ذا حيطةٍ وقدرةٍ على التقيّة، وقيل يدخل عليه عشرة أشخاص تسعة منهم يلعنونه وواحد يشكك فيه، فيخرجون منه تسعة منهم يتقربون إلى الله بمحبته وواحد واقف لأنه ذو لباقةٍ وسعة إطلاع.
وفي سفارته تولّى الحملة الرئيسية للمنحرفين عن خط الإمامة والذين إدَّعو سفارتهم للإمام الحُجّة (عج) زوراً وبُهتاناً. فقد أبلغ القواعد الشعبية للشيعة بزور إدعائهم وتبليغ أوامر الإمام الحُجّة بشأنهم، وبقى لا يُهادن أولئك المنـحرفين حتى لحق بدار حقّه في عام 326هـ.
ودُفن في النوبختيّه التي كانت داراً لعلي بن أحمد النوبختي في بغداد . وقد يفد الزّوار إلى قبره.
4/ السفير الرابع علي بن محمد السمري (أبو الحسن)[4] :
وهو شيخ جليل ، وأحد اصحاب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) . ثم تولّى السفارة في عهد الإمام الحُجّة بعد رحيل الشيخ حسين بن روح إلى جوار ربِّه ، وقد أبلغ الشيخ ابن روح وصيَّة الحُجّة (عج) بشأنه بأنه السفير الرابع من بعده.
وهو آخر السفراء الأربعة إذ بموته بدأت الغيبة الكبرى للإمام الحُجّة ولا يخرج حتى يأذن الله له. وقد تولى السفارة في عام 326هـ واتجهت إليه أنظار الشيعة فيما يبلغهم أوامر الإمام المنتظر (عج). وقد استمرّت سفارته ثلاث سنوات من عام 326هـ إلى عام 329هـ التي تُوفي فيها في النصف من شعبان . كما أن فتره سفارته القصيرة لم تتُح له القيام بفعّاليات واسعة كما قام أسلافه، إلاّ أن الإعتقاد بجلالة قدره أكسبتهُ ثقة الجميع.
كما أنّ بعض المستشرقين ومنهم (رودلسن) في كتابه (عقيدة الشيعة) لم يدركوا الدور الخطير الذي كان يمثله السمري في أبلاغ الملايين من قواعد الشيعة بأوامر الإمام الحُجّة (عج).
كما أن فترة سفارته أشتدَّ فيها الظلم وسفك الدماء واستهداف الظالمين للشيعة كي يقضوا على الإمام المنتظر مما جعل السمَّري يقلل من نشاطه تقيَّة لأجل الحفاظ على حياته ويبعد عيون السلطة عن قواعد الشيعة وأماكنهم وإمامهم.
كما أنّ ذات الأمر جعل الإمام ينقطع ويغيب الغيبة الكبرى التي لازالت مستمرة ولذا نجد السمرَّي يُخرج للناس توقيعاً من الإمام الحُجّة يُعلن فيه وفاته بعد أيام ونفس التوقيع يحمل انتهاء الغيبه الصُغرى ، وانقطاع سفارة وكلاء الإمام حيث أمره الإمام أن لا يوصي لأحد من بعده. بموجب نص الكتاب الآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
[5]:
يا علي بن محمد السمَّري أعظَّم الله أجر إخوانك فيك فأنَّكَ ميّت بعد ستة ايام، فاجمع أمرك ولا توصِ لأحد بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبةُ التامّة، فلا ظهور إلاّ بإذن الله تعالى، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الارض جوراً. وسيأتي لشيعتي مَن يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة ، فهو كذّابٌ مفترٍ. ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.
وهذا آخر خطاب ظهر من الحُجّة المنتظر لسفيره السمّري وأبلغه للشيعة وهو آخر ارتباط بين الإمام المنتظر وبين الناس في الغيبة الصغرى. وفي اليوم السادس الذي أشار إليه الإمام جاء الشيعة إلى بيت السمّري فوجدوه يجود بنفسه، وسألوه من هو الوصي من بعدك؟
فأجابهم: (للهِ أمرٌ هو بالغهُ). أي لا وصي من بعدي للإمام الحُجّة المنتظر ثم أُودع السمري في قبره بعد وفاته وقبره في الشارع المسمى بشارع الخلنجي قريب من شاطىء نهر أبي عقاب حيث مزاره الان في بغداد معروف.
وأمّا فيما يخص الغيبة الصغرى : فقد استمرَّت تسعة وستين عاماً ونصف العام شغل منها السفير الأول عثمان بن سعيد العمري حوالي خمسة أعوام في نهاية خلافة المعتمد العبّاسي.
وشغل السفير الثاني محمد بن عثمان حوالي أربعين عاماً بقية خلافة المعتمد ثم المعتضد والمكتفي ، وعشر سنوات من خلافة المقُتدر ثم توفّى عام 305هـ.
وأمّا السفير الثالث الحسين بن روح فقد استمرّت سفارته حوالي واحد وعشرين عاماً عاصر فيها بقيّة خلافة المقتدر وقسماً من خلافة الراضي.
ثم السفير الرابع علي بن محمد السمري حيث دامت سفارته ثلاث سنوات وتوفى عام وفاة الراضي بعد أن عاش خمسة أشهر من خلافة المتّقي.
والسفراء الأربعة قاموا بدور التبليغ عمّا يصدر من الإمام لشيعته ، ومتابعة تنفيذ تلك الأوامر والتنقل من مكان لآخر مع التحفّظ والسريّة التامة في تنقلهم.



[1] ج51 ص 73/ بحار الأنوار : للمجلسي.

[2] ج2 ص540/ سيرة الأئمة الاثني عشر/ لهاشم معروف الحسني.

[3] ص410/ تاريخ الغيبة الصغرى: محمد الصدر.

[4] ص 414/ تاريخ الغيبة الصغرى/ للسيد محمد الصدر.

[5] ص415/ تاريخ الغيبة الصغرى/ للسيد محمد الصدر.