الغد-تحقيق حنان الكسواني- داخل مستودعات، تابعة لوزارة الصناعة والتجارة في الجويدة، شرق العاصمة عمان، تشتغل "خلية نحل"، من عمال من جنسيات مختلفة، أردنية وعربية وآسيوية، تتسابق، ليلا، لتغيير تواريخ صلاحية شحنات كبيرة من مادة "البسكويت" الغذائية، تابعة لبرنامج الأغذية العالمي، إحدى منظمات الأمم المتحدة،
وهي شحنات منتهية الصلاحية، وغير صالحة للاستهلاك البشري، مخصصة لطلبة المدارس في العراق، بعد أن بقي متحفظا عليها، إلى حين تم "فك التحفظ عليها في بداية الشهر الماضي".
هذه الشحنات، وحسب تحقيق لـ"الغد" بدأته منذ نحو أسبوعين، دخلت إلى الأردن في شهر حزيران (يونيو) الماضي، وقبل انتهاء مدة صلاحيتها، المحدد رسميا بتاريخ شهر أيلول (سبتمبر) 2013، وذلك حسب الضبوطات الرسمية، الصادرة عن مديرية الرقابة على الغذاء في المؤسسة العامة للغذاء والدواء، والتي نشير إلى "أن التزوير يمنح البسكويت صلاحية جديدة، مدتها عامان إضافيان ولغاية 2015". ورغم أن المؤسسة العامة للغذاء والدواء وأمانة عمان الكبرى والشرطة البيئية، ضبطت وتحفظت على الكميات، التي تقدر بـ 329 ألف كرتونة من البسكويت، القادم من أندونيسيا، ليخزن على الأراضي الأردنية، بناء على طلب من برنامج الأغذية العالمي، لأسباب أمنية، على أن يتم تصديرها الى الحكومة العراقية، وتحديدا لوزارة التربية والتعليم هناك، ضمن برنامج التغذية المدرسية، فقد طلبت وزارة الخارجية، من تلك الجهات الرقابية، "فك التحفظ" على هذه الكمية، و"ابلاغ الوزارة وشؤون المغتربين مستقبلا" بأي اجراءات بحق أي سفارة، أو منظمة دولية، تتمتع بالحصانات والامتيازات"، بحسب كتب رسمية حصلت عليها "الغد".
وزير الخارجية وشؤون المغتربين ناصر جودة أوضح في مذكرة رسمية، حصلت "الغد "على نسخة منها، وأرسلت إلى أمين عمان ووزير الداخلية (في 18 3) ان تلك المخازن والمستودعات، التابعة للبرنامج (مستأجرة من قبل البرنامج العالمي من وزارة الصناعة والتجارة)، تتمتع بالحصانات والامتيازات ، عملا باتفاقية الأمم المتحدة لسنة 1946".
جاءت هذه التحركات والمراسلات، بعد أن تحفظت المؤسسات الرقابية الرسمية المذكورة على كميات البسكويت، وإيقاف مسؤول المستودعات في برنامج الأمم المتحدة في عمان من قبل شرطة البيئة وموظفي امانة عمان، قبل شهرين، وتحديدا في منتصف شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، حسب المذكرات الرسمية ذاتها.
من جانبه، أرسلت الممثل والمدير القطري لبرنامج الاغذية العالمي مها أحمد تعهدا لمؤسسة الغذاء والدواء الأردنية، تقول فيه "نحن برنامج الأغذية العالمي، إحدى منظمات الأمم المتحدة، نتعهد فيه بعدم التصرف بمادة البسكويت، والبالغ كميتها 1920 طنا، داخل السوق المحلي، (وهي الكمية) التي تم التحفظ عليها من قبل أمانة عمان، وتم فك التحفظ عليها، بتاريخ 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، وذلك لحين تصديرها الى العراق، وسيتم تزويد المؤسسة العامة للغذاء والدواء ببيان التصدير".
وخلال تبادل المراسلات بين الحكومتين الأردنية والعراقية والمنظمات الأممية، كانت مندوبة "الغد" تقتحم، عبر التنكر بصفة عاملة يومية، المستودع الضخم بالجويدة قبل نحو أسبوعين، لترصد "التلاعب" بتواريخ البسكويت، المخصص للأطفال في مدارس عراقية، وليتأكد لـ"الغد" ما ذهب إليه رئيس اللجنة الصحية في مجلس النواب الدكتور رائد حجازين، الذي أثار (في جلسة النواب أول من أمس الأحد) تساؤلات حول "حقيقة البسكويت الفاسد الذي تم التحفظ عليه من قبل الجهات المعنية". مستفسرا عما أسماه "تجاهل وزارة الخارجية الرد رسميا" على استفساره، بحسب ما أكد حجازين لـ"الغد" أمس.
عندما سجلت مندوبة "الغد" اسمها كعاملة، تحمل الجنسية السورية، بواسطة سمسار كان يجمع أسرا، أهلكها الفقر، أو تعد مخالفة لشروط الإقامة في المملكة، انضمت بذلك الى قائمة، فيها اكثر من 25 عاملا عراقيا وسوريا وأردنيا، نقلوا من عمان بعد العصر، في مهمة شبه "سرية"، يجهل كل من يذهب فيها، لأول مرة، طبيعة العمل في هذه "الهناجر" الضخمة، المتواجدة في مبنى الصوامع بالجويدة، التابع للصناعة والتجارة.
كانت نقطة التجمع تتم يوميا في منطقة الهاشمي الشمالي، بالقرب من دوار نقاوة، في تمام الساعة الثالثة والنصف عصرا، لتنطلق الباصات المستأجرة من احدى المدارس الخاصة، الى منطقة الجويدة، في الساعة الرابعة عصرا، وضمن برنامج منظم، من قبل السماسرة ومراقبي العمل، الذي ينتهي عند الواحدة صباحا تقريبا.
وفي الوقت، الذي كانت تتحرك فيه باصات العمال من منطقة الهاشمي الشمالي، كانت اخرى تنطلق أيضا من منطقة الوحدات، وتحمل عشرات العمال، من شباب وأطفال ونساء وكبار سن، مستعدين للعمل، على تغيير تواريخ، يعتقد أغلبهم، أن "هناك خطأ مطبعيا فقط في تواريخها، ولا بد من تصويبه، من أجل سلامة وصحة أجسام طلبة مدارس العراق، كون البسكويت مدعما بالفيتامينات، وليس مخصصا للبيع".
كل عامل كان ينظر إلى المبلغ، الذي سيتقاضاه نهاية الأسبوع، حتى ولو كان متواضعا، ويصل إلى 45 دينارا أردنيا، بواقع 6 دنانير لليوم الواحد، للجنسيات العربية والآسيوية، بينما يتقاضى الأردني 70 دينارا أسبوعيا، وحسب الاتفاقيات الشفوية المبرمة بين المراقب والسمسار والعامل.
وتبين عند دخول الموقع، أن الباصات تصل للموقع، وتصطف بجانب شاحنات ضخمة، عليها لوحة سوداء، مكتوب عليها "فحص مؤقت- العراق"، ومحملة بكميات كبيرة من الكرتون، مختوم ومعنون باسم الحكومة العراقية وبرنامج الأغذية العالمي، ليدخل العمال مطمئنين إلى مستودع، يزينه علم أزرق ضخم، يحمل شعار برنامج الأمم المتحدة (un).
يبدأ مراقبو العمل بتوزيع المهام على العمال القادمين، بتوزيع مادة طيارة، برائحة نفاذة، هي مادة "التنر"، واسفنجة صغيرة، على كل طاولة، بعد أن يتم فصل النساء عن الرجال العاملين، وأيضا فصل العمال من جنسيات آسيوية لوحدهم، في ظروف جوية، قارسة البرودة، وتشديدات أمنية داخلية، فيما تنتشر كاميرات تصوير، تراقب حركة كل عامل، وترصد من تسول له نفسه سرقة بسكويت "فاسد"، أو تهريب أي كميات منه، حتى وإن كان للاستخدام الشخصي، كما بدأ واضحا لـ"الغد" في تحقيقها.
ايذانا ببدء العمل، يصرخ المراقب بصوت عال: "ابدأوا العمل"، دون توزيع قفازات، أو كمامات، تقيهم من رائحة "التنر"، التي تسبب مشاكل تنفسية لكثير من العمال، وبالذات للأطفال منهم، الذين تزيد أعمارهم على 9 أعوام.
فريق يفرغ الكرتون، منتهي الصلاحية، ويضعه على طاولات "المسح"، ليبدأ مسح التاريخ القديم، باللون الأسود، وهو (شهر أيلول 2013)، بوزن 50 غراما، ليرسل إلى الفريق الثاني، الذي يعمل على آلة خاصة، تطبع التاريخ الجديد وهو العام 2015.
أما الفريق الثالث يقوم بترتيب البسكويت الجديد في الكرتون ذاته، وإعادة وضع لاصق جديد عليه، وتغليفه بإحكام، ليصار إلى تحميله على ظهر شاحنات متوجهة للعراق. في غضون ذلك يقوم فريق آخر، بتنظيف أي أوراق أو نفايات من مكان العمل، ليتم فرمها في سيارة خاصة، فيما يبدوا أنه لإخفاء أي أثر للعمل المخالف للقانون.
أم عمر (اسم مستعار)، وهي إحدى العاملات، من جنسية عربية، قالت "إنها تعمل منذ أسابيع" على تغيير تاريخ البسكويت، لتحسين وضعها المالي، وتأمين قوت أطفالها، الصغار، بعد أن توفي زوجها.
أما الشاب حمادة (20 عاما)، من سكان الهاشمي الشمالي، فأشار إلى أنه كان يجهل طبيعة العمل، بيد أنه استمر في عمله، حتى يحصل على مبلغ 70 دينارا، ينفقها على احتياجاته الشخصية، لافتا إلى أن "التعامل قاس جدا، إذ يتفنن المراقب بالصراخ، والتلفظ بألفاظ غير مناسبة بحق العمال".
الغد" حاولت على مدى الأسبوعين الماضيين، أخذ تصريحات وتعليقات رسمية من مؤسسة الغذاء والدواء وأمانة عمان، لكن الجهتين رفضتا التصريح او الحديث حول القضية، أو العلم بها.
وبعد أن أثار القضية النائب رائد حجازين أول من أمس تحت القبة، صرح مصدر حكومي أمس لـ"الغد" بأن "المؤسسة العامة للغذاء والدواء أوقفت شحنة بسكويت، متوجهة للعراق، بسبب انتهاء مدة الصلاحية، وتغيير "ليبل" المنشأ في صوامع تابعة لوزارة الصناعة والتجارة بمنطقة الجويدة".
وأضاف المصدر، الذي فضل عدم ذكر اسمه، أن "المؤسسة خاطبت بدورها وزارة الخارجية، لتخاطب بدورها برنامج الأمم المتحدة للغذاء، للالتزام بالشروط الصحية والقوانين الاردنية، الخاصة بإدخال المنتجات الغذائية، حيث وجدت فرق التفتيش التابعة للمؤسسة ممانعة من قبل دبلوماسيين دوليين رفضوا الكشف على الشحنة".
بيد أن المؤسسة، حسب المصدر، بادرت لتطبيق اجراءاتها وفقا للقانون بالتحفظ على الشحنة، بناء على بلاغ وشكوى من النائب هند الفايز، حيث تم التحفظ على الشحنة، وكميتها 1600 طن، من مادة البسكويت منشأ أندونيسي".
واتفق المصدر الحكومي مع النائب حجازين على أن "أي جهة كانت تتمتع بالحصانة يتم التفتيش على محتويات مستودعاتها، للتأكد من سلامة الغذاء، الذي يمر بأراضي المملكة"، إلا أن ذلك ما لم يجر قبل مبادرة المؤسسة العامة للغذاء والدواء أخيرا للتحرك بناء على شكوى النائب الفايز.
ومن المقرر أن تجتمع اليوم اللجنة الصحية في مجلس النواب لمناقشة تفاصيل الشحنة، بحسب حجازين، الذي طالب بـ"محاسبة أي جهة تورطت بإطعام أطفال العراق، بسكويتا منتهي الصلاحية، حتى ولو كانت جهة تتمتع بالحصانة الدبلوماسية".
من جهته، اعتبر المحامي نسيم المجالي، ردا على استفسار “الغد” حول حصانة مستودعات منظمة أممية في الأردن، وتقوم بتغيير صلاحية مواد غذائية منتهية، أن مثل هذا الفعل “جريمة من اختصاص المحاكم الأردنية، على مبدأ الجريمة التي تقع داخل الإقليم، وعليه يتم تحويل مرتكب الفعل إلى المحاكم الأردنية بناء على قانون العقوبات الأردنية”.
برنامج الأغذية العالمي يؤكد أن العملية قانونية ومتفق عليها مع العراق
إلى ذلك أكد مصدر رسمي في برنامج الأغذية العالمي- فرع الأردن، في تعليق رسمي له لـ”الغد” حول قضية البسكويت، أن البرنامج، ولأسباب أمنية، لم يتمكن من إرسال شحنة البسكويت (محل القضية) إلى العراق، وقام بتخزينها في عمان، ما أدى إلى تجاوز تاريخ الصلاحية، المذكور في المستندات الخاصة بالبيانات على العبوة الخارجية للمادة.
وأقر المصدر، الذي فضل عدم ذكر اسمه، ان البرنامج اتفق مع شركة أردنية محلية، لتوظيف عمال من مختلف الجنسيات، للتسريع بعمل تغيير تواريخ صلاحية شحنة البسكويت، المخزنة في مستودعات الجويدة، والمستأجرة رسميا من وزارة الصناعة والتجارة.
وأكد أن الشحنة القادمة من بلد المنشأ أندونيسيا صالحة الاستهلاك لمدة 24 شهرا، أي من شهر كانون الثاني (يناير) 2013 إلى 2015، بحسب الأوراق الرسمية للشحنة، “لكن وبناء على طلب من الحكومة العراقية، التزم البرنامج، بوضع تاريخ لمدة تسعة شهور، من شهر كانون الثاني (يناير) 2013 ولغاية شهر أيلول (سبتمبر) 2013”.
ثم عاد البرنامج، وفق المصدر، الى تغيير تاريخ الصلاحية (تسعة اشهر) الى التاريخ الاصلي (الى عام 2015)، بعد أن تأخر تصدير الكمية إلى العراق.
وأشار إلى أن البرنامج “لديه شهادات مخبرية من المؤسسة العامة للغذاء والدواء الاردنية، بأن البسكويت المدعم بالفيتامينات ضمن مشروع التغذية المدرسية للعراق، صالح للاستهلاك البشري، وكذلك شهادة مخبرية أخرى من الحكومة العراقية تؤكد صلاحيته”.
ورفض المصدر ما يثار بأن العمل يتم بسرية، وقال “العمل يتم في ضوء النهار، اذ ان العمل يتم وفق نظام دوريات “شفتات”، صباحية ومسائية، وعلى مدار الساعة”. لافتا الى ان “موظفي البرنامج يقومون بالإشراف على عمل الشركة لإنهاء الكميات المتراكمة في المستودعات”.
واشار الى أن الكميات المتبقية في المستودعات 1300 طن، من أصل 1920 طنا هي الكمية المستوردة، إذ تم تصدير ما يقرب 600 طن إلى العراق، ليصار إلى توزيعها لطلبة المدارس، ضمن مشروع التغذية المدرسية تحت إشراف وزارة التربية والتعليم العراقية
كاردينيا