بسمالله الرحمن الرحيم
مفهومالديمقراطية
لايهمّنا سواء أكانت كلمة ”الديمقراطيّة“ حديثة العهد أو قديمته، أو إذا كانت كلمةمأخوذة عن لغة ساميّة أو غيرها؛ ما يهمنا هو ما تعنيه هذه الكلمة، أو بمعنى أدّق،ما أراده واضعوها منها.
ومهمايكن من أمر، فإنّ مُعظم الأدباء والسياسيين وغيرهم ممّن تمّسهم هذه الكلمة من قريبأو بعيد، يتفقون على أنّه ليس في مفهوم ”الديمقراطيّة“ ما يُعاب، إذا ما تعاملنامعه كما يجب. أمّا المقصود من عبارة (كما يجب) فهو التعامل مع ”الديمقراطية“بإخلاص، لأنّ مفهومها هو سلاح ذو حدّيْن - كما يُقال، إذ بإمكان أيّ حاكم طاغية أوديكتاتور مثلا، توظيفه ذلك المفهوم (إن صحّ التعبير)، أو إدخال بعض التعديلات المناسبة - بنظره - عليهليتناسب وأهواءه ورغباته، مع بقاء العنوان الرئيسيّ لورقة عمله، وهو”الديمقراطية“، وبذلك ينجو من لوم اللائمين، بل ولن تكون - بزعمه طبعاً - هناكأيّة حجّة بيد مُعارضيه يُمكنهم من خلالها الإعتراض على تصرّفاته أو مُقاضاته بها.وهذا بالفعل ما حصل في السابق، وما زال يحصل حتى في عصرنا الحاضر، عصر التطوّروالتكنولوجيا والإبداعات وغير ذلك من العناوين الطويلة والعريضة.
ولأنّمفهوم الديمقراطية أصبح شائعاً هذه الأيام، وقلـّما نجد من يجهلها بحقّ، فمنالأهميّة بمكان ملاحظة بعض الأسس التي تساعد على ولادة الديمقراطية ونموّهاوتطوّرها وبلوغها سنّ الرّشد، ثم تسليم الأمور - العائدة لها أصلاً - بيدها،لتتصرّف بحريّة، بعيداً عن أيّة قيود أو حدود، ولكن ضمن إطار المنطق والعُرف. فالديمقراطيةبدون الحريّة تصبح لفظاً لا معنى له، بل إنّ مَن يؤمن بذلك فإنّما يريد به السخريةوالإستهزاء بالآخرين، وتضليلهم، والازدراء بعقولهم وآراءهم، وإذا اضطررنا إلى التخفيفمن تلك الألفاظ والمُراعاة قليلاً، فسنكتفي بالخداع والسذاجة.
والتطوّرالحضاريّ ومن ثمّ العقليّ للبشر هما من بين الأسس التي تتوق إليها الديمقراطيةلتكون بيئة مناسبة لها. فالحضارة معناها بيئة صحيّة تعمل وتساعد على ولادةالديمقراطية، فهي (أي الحضارة) بمثابة رَحم تنمو داخله الديمقراطية وهي ما زالت جنيناً.إلا أنّ هذا الجنين لن يلبث أن يموت ما لم تؤمن الأمّ التي تحمله داخل رحمها بأنّ عليهاتسليم زمام الأمور لولدها عند بلوغه، وأنّ ذلك التسليم إنّما هو حقّ مسلـّم لذلكالمولود. إضافة إلى ذلك، على الأمّ أن تؤمن بقوّة أنّ بقاءها مرهون ببقاء ولدها،بمعنى أنّ الحضارة لا تعني بناء القصور وتشييد الصروح وتجييش الجيوش، وإزالة هذاوالإبقاء على ذاك، دون وجه حقّ.
هذامن جهة، أمّا من الجهة الأخرى، فإنّ كلاً من ”الحضارة“ و”الديمقراطية“ تستلزمان بدورهماوجود أرضيّة قويّة وصلبة وتربة خصبة لتترعرعا فيهما دون أيّة مشاكل. وما الأرضيّةالقويّة إلا العقل البشريّ الذي يطمح للكمال، وما التربة الخصبة إلا صاحب العقلالبشري ذاك. وببساطة، فهما الناس وعقولهم، على اختلافها وتباينها. فهل يمكن مثلاًإقامة حضارة أو إرساء ديمقراطية في مجتمع جاهل ساذج لا يعرف أبسط حقوقه، أو يرفضأبسط معايير العيش كبشر مسالم، إلى جانب مجتمع أو مجتمعات أخرى؟ أو، هل يحقّ لناحرمان مجتمع متعلـّم مُدرك يتوق إلى مَنحه أبسط حقوقه ليتمكن من العيش كبشر مسالمإلى جانب مجتمع أو مجتمعات أخرى؟
لاهذا ولا ذاك طبعاً؛ فالحضارة والديمقراطية ملازمتان للثقافة والإدراك، لكنّ الجهل والظلمةلا يعيشان إلا في الغاب.
فسيّدناعلي(رضي الله تعالى عنه وأرضاه) كان حضارياً وديمقراطياً بكل ما تمتلكه الكلمتانمن مَعنى، وكان يغمره شوق كبير إلى خلق مجتمع حضاريّ وديمقراطيّ، تقوم أسسه علىالديمقراطية الإلهيّة السماويّة - وأقصد الإسلام - وينأى بنفسه عن كلّ فحشاء ومنكر،سواء بالمفهوم الدينيّ أو العلمانيّ، لكنه بالرّغم من كلّ هذا لم ينجح في إقامة ذلكالمجتمع، فهل يا ترى كان العيب فيه أم في المجتمع الذي كان يعيش فيه؟ الجواب متروكلأولي الألباب.
و(هتلر)كان يعيش في مجتمع حضاريّ ومثقف إلى حدّ كبير، لكنه قاد ذلك المجتمع إلى الهاوية،ولولا العقول المدبّرة والضمائر اليقظة في مجتمعه، لما قامت للألمان قائمة بعدذلك.
ماالذي كان سيحدث بنظرك لو أنّ سيّدنا علي(رضي الله تعالى عنه) كان حاكماً على مجتمعمثل مجتمع الألمان أو الإنجليز أو الأمريكان؟
والآن،لماذا يخشى مُعظمنا - وبالتحديد رؤساؤنا وقادة بلداننا، وولاة أمورنا، كما يحلوللبعض تسمية أنفسهم بذلك- منطق الديمقراطية؟ هل يتضمّن منطق الديمقراطية أومفهومها ما يُخيف؟
ببساطة،وببساطة شديدة، إنّها معادلة بسيطة وسهلة؛ فقد راجع أولئك الرؤساء وقادة البلدانوولاة الأمور حساباتهم، وفكروا في الأمر ملياً، مُستندين في ذلك إلى الشواهدوالعِبر التأريخية، وتداولوا المسألة فيما بينهم، فتوصلوا إلى نتيجة مفادها أنّهمإمّا أن يعيشوا ويموت الآخرون، أو العكس. فأجمعوا على أنّ ”العكس“ لن يكون، فهمأحقّ - باعتقادهم - بالعيش من غيرهم، بل أنّ الله سبحانه إنّما خلق هذه الدنياليملكوها هم ونظرائهم وذراريهم، وأنّهم خـُلقوا ليكونوا أسياداً، ويكون الآخرونلهم إماءاً وعبيداً!
هذاببساطة منطق تلك الشريحة من أيّ مجتمع، وهذا كلّ ما يفهمونه من ”الديمقراطية“، بل أنّالكثير منهم يؤمن بأنّ كلمة (الديمقراطية) هي تحريف للكلمة الأصلية وهي(الديكتاقراطية!!!)، وما (الديمقراطية) إلا كلمة ابتدعها واختلقها أعدائهم لتكون حجّةوذريعة بيدهم لمحاربتهم وسلبهم سلطانهم الذي أودعه الله سبحانه فيهم ووضعه فيعهدتهم.
لكنلا شكّ في أنّ العقول النيّرة لا زالت تؤآخذ الشعب الألمانيّ مثلاً على سماحه لفردأو مجموعة أفراد مثل (هتلر) بأن يحكمه، وبهذا الشكل الذي لا يتناسب ومكانة الأمّةالألمانية. ولا ريب كذلك في أنّ مُعظم الألمان مُستاءون وساخطون على التاريخلكتابته تلك الصفحات السوداء المُشعرة بالخجل لهم - على الأقلّ - في سجلّ أمّـتهمالذي لم يكونوا بالتأكيد يرغبون بتلطيخه بما يُسيء إلى سمعتهم ويخدش حياءهم ويثيراشمئزاز الآخرين ضدّهم.
ولوأمعنا النظر في الحدود القائمة مثلاً بين الدول في الوقت الحاضر، لوجدنا أنّها منصـُنع تلك المجموعات أو الفئات القليلة، الحاقدة على مجتمعها أولاً، وعلى الشعوبكافة ثانياً.
أليسمن العار على مجتمع مكوّن من آلاف الأشخاص أو مئات الآلاف أو الملايين، أن يسمحلفئة قليلة - ضالة في أغلب الأحايين - بأن تحكمه كما يحلو لها؟ أليس من العار علىذلك المجتمع أن ينام على الضيم؟ أليس من العار عليه أن يعتقد - أو يؤمن أحياناً -بأنّه يعيش بسلام وأمان وحريّة ووئام، طالما أنّه يأكل طعامه ويشرب شرابه ويلبسلباسه، ويفرض الأوامر على أطفاله وزوجته وجاره؟ أهذا هو طموح الإنسان الذي فضـّلهالله على الملائكة؟ أهذا مبلغه من العلم وقد حباه الله عقلاً حرّمه سبحانه على ملائكتهودوابه؟ أهذا كلّ ما يرغب فيه رجل حرّ، غيور، شهم؛ الطعام والشراب واللباسوالتسلـّط على من هو أضعف منه؟ إنّه لعمري ما ترغب فيه الوحوش والبهائم كذلك.
ومنالناس مَن فكـّر وفكـّر وفكـّر، وأرهق نفسه في التفكير وتدبـّر، فأولد فكرة هيأنجع علاجاً، وأسهل وسيلة، وأقلّ خسارة، يمكنهم بواسطتها فرض حكمهم على أيّ مجتمعمهما كـَبُر، والقضاء على أيّ مشكل مهما صغـُر، ألا وهي فكرة التلبّس بلباسالدّين، وترويج أفكارهم ومناهجهم على أنّها نابعة من كتاب الله المبين، أو أيّكتاب سماويّ أو أرضيّ. فجرّوا ورائهم الكثير من السفهاء، وممّن باعوا أنفسهموضمائرهم بثمن بخس، فاشتروا بها بضاعة مزجاة، وفرحوا بما لديهم.
وهناكذلك، لا يقع اللوم إلا على ذلك المجتمع الذي يسمح لنفسه بالهبوط إلى ذلك المهبط،والإنحدار نحو تلك الهاوية، راضياً بالذلّ، قانعاً بالهوان، متسامحاً مع غاصبه،خانعاً لحاكمه؛ أمواله تـُنهـَب وهو مُبتسم غير مبال ولا عارف بما يجري من حوله،وحقـّه يُسلـَب وهو يتلذذ بما يرى ويسمع من التلفاز أو المذياع ويُصدّق كلّ حرفيُـقال. إنّه مؤمن بغيره، مُـنكر لذاته، فيا له من مُضحّ مخلص غير خؤون!
ونستنتجمن كلّ ما قيل، أنّنا إذا أردنا ديمقراطية حقـّة في أيّ مجتمع، فلا بدّ لنا من أن نكيّفأنفسنا لقبولها، وأن لا نسمح لكائن من كان بالتلاعب بمفهومها أو تبديل معانيها أوالتأثير عليها سلباً. وقد صدق الله سبحانه حين قال: إِنَّاللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.
وللقصّةبقية...