بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.


روي عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: «إذا صعدت روح المؤمن إلى السماء تعجبت الملائكة وقالت: عجباً كيف نجا من دار فسد فيها خيارنا؟»(1).


وهذا معناه أن المؤمن عملة نادرة. فالفرد يحاول أن يصبح إنساناً جيداً ولكنه لا يستطيع، وليس ذلك لضعفٍ في العطاء من الله تعالى، بل لتقصير من جانب الإنسان. فإن الشهوات تبلغ من الكثرة والقوة ما تتطلب جهداً إضافياً للسيطرة عليها. ونيل المعنويات والتغلب على الشهوات يتطلبان دائماً قوة أكثر وعزماً أكبر من المطلوب لنيل الشهوات، ولذلك ترى الناس عادة ما يبلغون شهواتهم أكثر مما يبلغون المعنويات. فلا خلاف في صعوبة المعنويات ولا خلاف أنه كلما أراد الإنسان أن يحتلّ مساحة أوسع من المعنويات كما هو الحال في الماديات كلّفه جهداً أكبر. فمعلوم أن كلفة شراء بيت سعته ألف متر مثلاً، أكثر من شراء بيت لا يسع أكثر من مائة متر. ناهيك عن حاجته إلى فرش أكثر، وكون تنظيفه يستغرق وقتاً أطول، إضافة إلى مستلزمات أكثر في كلّ المجالات مثل التنوير والتدفئة والتبريد. وهكذا الحال في المعنويات حيث إن الماديات تثقل الإنسان، وتجرّه نحوها كالمغناطيس الذي يجذب نحوه الحديد

:. الشيخ الأنصاري والشيخ خنفر رحمهما الله


هذه القصة موجودة في «أعيان الشيعة» وفي «أعلام الشيعة»، وتعود إلى أيام الشيخ الأنصاري (رحمه الله) أي إلى ما قبل زهاء مائة وأربعين سنة. وكان الشيخ الأنصاري طالب علم مثلنا ثم أصبح مدرساً فمرجعاً عاماً للتقليد يرجع إليه الملايين من المسلمين، وعندما مات لم تزد تركته على السبعين توماناً مع أنه كان عنده زوجة وأطفال وكانت أمه تعيش معه، كما كانت تأتيه الضيوف، فلم يكن يوم مات طالب علم عادي بل كان مرجعاً تجبى إليه الأموال الكثيرة جداً. وكانت عمدة الأموال يومذاك الذهب والفضة وكانت تجبى له بالأكياس الكبيرة (الگواني باللهجة العراقية). وكان هناك عالم اسمه الشيخ محسن خنفر وكان أكبر سناً من الشيخ الأنصاري وإن كان أقلّ منه علماً، فمرض أخريات أيام حياته وبقي في البيت، وأُخبر الشيخ الأنصاري بأن الشيخ خنفر محتاج إلى المال فأرسل له بكيس من الذهب لكي يأخذ حاجته منه، ولكن الشيخ خنفر لم يأخذ أكثر من دينار وثلاثة أرباع الدينار أي مثقالاً من الذهب وثلاثة أرباع المثقال، وأرجع الباقي وقال: أبلغوا شكري للشيخ مرتضى وأخبروه أنني أخذت كفايتي. وتوفي الشيخ خنفر بعد مدة وجيزة وتبيّن أن ما أخذه كان بمقدار حاجته لما تبقّى من حياته.


فإذا كانت كل تلك الأموال الضخمة ترد الشيخ الأنصاري ولكنه لم يترك أكثر من سبعين توماناً، فإن هذا يعني أن الشيخ قد ارتقى درجات من أكمل الإيمان. وهذا يتطلب عملاً كثيراً وتوكلاً على الله تعالى، لأن المغريات والشهوات ليست بالقليلة، فهناك شهوة النساء والجنس وشهوة المال والجمع وشهوة الرئاسة والحكم وشهوة التفوق والظهور، وشهوة الكلام والتظاهر بالعلم. نعم، قد يجب على الإنسان أحياناً أن يُظهر علمه ولا يجوز له السكوت كما «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه فإن لم يفعل سُلب نور الإيمان»(2) ولا كلام في هذا، ولكن ما أكثر الحالات التي ليس هناك وجوب ولكن الفرد لا يستطيع أن يملك نفسه عن التحدث رغبة في إظهار ما يملك من معلومات؟!

إذن فلنتوجه إلى الله ونطلب منه أن يبلّغ بإيماننا أكمل الإيمان، ولنا في العلماء والأتقياء خير عبرة؛ فإنهم لم يبلغوا تلك المرتبة الرفيعة دفعة واحدة ومنذ اليوم الأول من حياتهم بل طلبوا أن يبلّغ الله بإيمانهم أكمل الإيمان، وأعانهم الله تعالى وأخذ بيدهم، وهو سبحانه باسط اليدين بالعطية(3) .

فإذا كان الله لا يمنعنا عطاءه، وإذا كان خلقنا ليرحمنا، لا ليمنعنا، فلماذا لا نسعى ونهتمّ قليلاً ثم نضاعف سعينا لكي يشملنا فيض الله تعالى ونكون من الذين بلّغ بإيمانهم أكمل الإيمان. وأول شروط الإيمان الكامل هو الالتزام بالواجبات والمحرمات. وهناك درجات عليا فوق هذه الدرجة.


----------------------
(1) غرر الحكم، ص143 ح 2555، ص 142 في ذمّ الدنيا.

(2) وسائل الشيعة: 16/ 271
(3) إن هذه الكلمات قد عبّرت عن كرم الله تعالى بما لم أره في غيرها من الكلمات. فإن اليد رمز القدرة عند الإنسان، ففيها قدرته البدنية في الأخذ والعطاء والقبض والمنع، والأدعية والخطابات الدينية لما كانت موجّهة للبشر فهي تراعي وتحاكي حالاتهم وأفهامهم؛ فكأن المعنى أن كلّ قدرة الله تعالى هي في الإعطاء. ولا شك أن المراد هو المعنى المجازي، وكما قيل عن المعاني بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى: «خذ الغايات واترك المباني». فهذا العنوان باعتباره مبدأً ليس بصحيح ولكنه كناية ويراد منه المعنى المجازي.