(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )
بعد عمر مبارك دام ثلاثاً وستّين سنة، منها أربعون سنة، راحت السماء خلالها تعدّه إعداداً خاصّاً لمهمّات كبيرة وخطيرة تنتظره، وما إن تكاملت شخصيّته، وتعاظمت خصائصه، حتّى صارت إناءً صالحاً لحمل أمانة السماء، وما أعظمها من أمانة، راح فيها رسول الله(صل الله عليه وآله وسلم) يقود حركة تغييرية شاملة لجميع نواحي مجتمعه، الذي تفشّت فيه وثنية قاتلة وجاهلية رعناء، وعادات فاسدة.. تنخر به، حتّى غدت راسخةً في ضمائر أبنائه ونفوسهم وقلوبهم رسوخ الجبال
في هكذا مجتمع كانت كلمة الكفر فيه هي السائدة، وكلمة الشرك فيه هي الغالبة وكانت قسوة زعمائه هي المتسلّطة... في مقابل نبيٍّ لا يملك من الأسباب التي يملكونها شيئاً يذكر.. إلاّ أنّه كان يركن إلى السماء وكفى بها ناصراً ومعيناً، وإلى خلق عال (وإنّك لعلى خلق عظيم) فكان خلقه هذا عاملاً مهمّاً في دعوته، فقد كان لصدقه وأمانته اللذين عرف بهما طيلة حياته الشريفة المباركة حتّى غدا زعماء قريش وساداتها فضلاً عن غيرهم، لا ينادونه إلاّ الصادق الأمين، كما كان لحكمته وصبره دور آخر في كدحه وكفاحه وجهاده
شمّر عن ساعديه وبدأ يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، حتّى إذا لم يجد إلاّ السيف حاكماً لاذ به ولجأ إلى قتالهم بعد أن أعيته السُبل الاُخرى، وبعد أن ركنوا إلى ترغيبه بدنياهم فلعلّه يركن إليهم ويترك دعوته ، ثمّ إلى السيف فلعلّه يدفع عنهم ويحفظ مصالحهم
وأرادوا أن يطفئوا نور الله، إلاّ أنّ السماء أبت إلاّ أن يتمّ هذا النور بفضل منه ورحمة ، وعبر كفاح مرير وجهاد طويل وكدح وتغيير قادها رسول الله(صل الله عليه وآله وسلم)طيلة عمره الشريف، وفتح لقومه وللناس جميعاً بوّابة تفضي بهم إلى خير الدُّنيا وثواب الآخرة، إلى عبادة الله تعالى ونبذ عبادة غيره أصناماً كانوا أو أشخاصاً أو أموالاً
حتّى تمّ نصر الله، فطويت صفحات الشرك في مكّة المكرّمة والجزيرة العربية وعادت الكعبة لله وحده، لا يعبد فيها غيره سبحانه ، ولا تقام فيها غير شعائره
ما قدّمه (صل الله عليه وآله وسلم) من أعمال ووصايا وخطب قبيل وفاته
فبعد ثلاث وعشرين سنة من العمل الدؤوب والجهاد المستمرّ ها هو موسم الحجّ من السنة العاشرة على الأبواب، وهاهو رسول الله قد علم أنّه سيلتحق بالرفيق الأعلى، فدعا رسول الله(صل الله عليه وآله وسلم) الناس إلى أداء الحجّ، وأعلمهم أنّه عازم على أداء الفريضة في عامه هذا، فتجهّز وأمر الناس من كلّ حدب وصوب من أنحاء الجزيرة كلّها حتّى تكاملوا مئة ألف أو يزيدون.. فسار رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بتلك الجموع الغفيرة، قاصداً بيت الله تعالى، وصحب معه أهل بيته، نساءه جميعاً وفاطمة(عليها السلام) ولم يتخلّف إلاّ علي(عليه السلام)، حيث كان رسول الله قد بعثه في مهمّة لليمن ، ليلتحق به بعد أداء مهمّته
وعلى مقربة من مكّة، التحق عليّ(عليه السلام) برسول الله(صل الله عليه وآله وسلم); ليؤدّي مناسك الحجّ معه. ودخل المسلمون بجموعهم الكبيرة مكّة المكرّمة بقيادة رسول الله(صل الله عليه وآله وسلم)ليؤدّوا مناسك الحج، حسب ما بيّنه رسول الله(صل الله عليه وآله وسلم)... حتّى إذا جمعتهم عرفة وقف بينهم رسول الله(صل الله عليه وآله وسلم) على راحلته .. وراح يلقي خطبته الشهيرة الأولى في جمعهم الهائل هذا
وبعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه قال:
أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثّكم على العمل بطاعته، وأستفتح الله بالذي هو خير
ثمّ قال: أمّا بعد أيّها الناس.. اسمعوا منّي، ما أبيّن لكم، فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم، بعد عامي هذا، في موقفي هذا.. ثمّ راح(صل الله عليه وآله وسلم) يوصيهم بوصاياه، وبعد أن بيّن لهم جمعاً من الأحكام الشرعية... قال:
أيّها الناس (إنّما المؤمنون إخوة)، ولا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلاّ عن طيب نفس منه. ألا هل بلّغت؟ اللّهمَّ اشهد... وحذرهم من الاختلاف والتنازع، ووضع لهم ما يمنعهم من التناحر، لا ترجعن كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإنّي قد تركتُ فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي.. ألا هل بلّغت؟ اللّهمَّ اشهد
أيّها الناس: إنّ ربّكم واحد وإنّ أباكم واحد، كلّكم لآدم وآدم من تراب
(إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)وليس لعربي على أعجمي فضل إلاّ بالتقوى.. ألا هل بلّغت؟
قالوا: نعم. قال: فليبلّغ الشاهد الغائب
ولمّا أتمّ رسول الله(صل الله عليه وآله وسلم) حجّه قَفَلَ راجعاً إلى المدينة، تحيطه تلك الحشود الكبيرة من المسلمين، وإذ هو في غدير خمّ نزل عليه وحي السماء، يدعوه إلى أمر آخر ألا وهو إمامة ابن عمّه عليّ بن أبي طالب; ليتمّ المسيرة من بعده، ويحمل راية الحقّ ليوصلهم تحتها إلى حيث الأمان، ويمنع عنهم الفرقة والتشتّت، ويحفظ لهذا الدين وجوده وبقاءَه
لقد استوقفهم رسول الله(صل الله عليه وآله وسلم) في هذا المكان ليسمعوا نداء السماء وبيانها ثمّ إنّه يعلم بأنّه قد لا يراهم بعد هذا أبداً، بيان رسول الله(صل الله عليه وآله وسلم) هذا الذي جاء تلبية (بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وقد جعلته يعدل الرسالة بكاملها (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)... وإن كنت خائفاً منهم متردّداً... { والله يعصمك من الناس}
فوقف رسول الله(صل الله عليه وآله وسلم) على رحال جمعت له حتّى يراه الناس جميعاً، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قال:
أيّها الناس، يوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي مسؤولٌ وإنّكم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟
قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت وجاهدت ونصحت، فجزاك الله خيراً
فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ، وأنّ ناره حقّ، وأنّ الموت حقّ، وأنّ البعث حقّ بعد الموت، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور؟!
قالوا: نشهد بذلك. قال: اللّهمَّ اشهد
ثمّ قال: أيّها الناس، إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللّهمَّ والِ مَن والاه، وعادِ من عاداه
ثمّ واصل (صل الله عليه وآله وسلم) خطبته قائلاً:
أيّها الناس، إنّي فرطكم، وإنّكم واردون على الحوض
وإنّي سائلكم حين تردون عليَّ، عن الثقلين كيف تخلّفوني فيهما، الثقل الأكبر، كتاب الله عزّوجلّ، سبب طرفه بيد الله تعالى، وطرفه بأيديكم، فاستمسكوا به، لا تضلّوا ولا تبدّلوا. وعترتي أهل بيتي، فإنّه نبأني اللطيف الخبير أنّهما لن ينقضيا حتّى يردا عليَّ الحوض
ثمّ نزل(صل الله عليه وآله وسلم) وصلّى ركعتين، فأذّن مؤذِّنه للظهر، فصلّى بالمسلمين، ثمّ جلس في خيمته، وأمر عليّاً أن يجلس في خيمة له... ثمّ أمر المسلمين ببيعته بالخلافة
وهكذا مارس رسول الله (صل الله عليه وآله وسلم) ما من شأنه أن يحفظ مستقبل الرسالة الإسلامية
وعاد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة; ليواصل مسيرة بناء الدولة والمجتمع.. باتجاه الفضيلة والتقوى والعمل الصالح، التي رسمت الشريعة المقدّسة أبعادها وحدودها وغاياتها
وكانت أولى مهامه بعد عودته(صل الله عليه وآله وسلم) من حجّه أن يجهّز جيشاً ضخماً لغزو الروم.. وقد ضمّ إلى هذا الجيش شيوخ المهاجرين والأنصار. وقد جعل على قيادة هذا الجيش اُسامة بن زيد بن حارثة وهو صحابي شاب
إلاّ أنّ رسول الله(صل الله عليه وآله وسلم) وهو يوشك أن يبعث هذا الجيش إلى بلاد الروم ، تعرّض(صل الله عليه وآله وسلم) لمرض شديد. وكم هو عظيم وكبير ما قام به رسول الله(صل الله عليه وآله وسلم) من أعمال وما قدّمه من وصايا... لحفظ مستقبل هذا الدِّين! إلاّ أنّه وفي مرضه الذي فاجأه، ظلّ القلق يراوده، وقرّر أن لا يكتفي بذلك كلّه، فبادر في إحدى الليالي، ونادى (صل الله عليه وآله وسلم) عليّاً وجماعة من أصحابه، وخرج بهم إلى البقيع، قائلاً لمن اتّبعه: إنّي قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فخاطب موتى المؤمنين بقوله: «السلام عليكم يا أهل القبور، ليهنئكم ما أصبحتم فيه، ممّا فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أوّلها آخرها
ثمّ راح(صل الله عليه وآله وسلم) يستغفر لهم طويلاً، ونعى نفسه لمن كان حاضراً من المؤمنين، واشتدّ به المرض، ومع ساعات هذا المرض العصيبة لم ينسَ جيش أُسامة ، فراح يؤكّد على تسييره، وعدم التخلّف عنه، ومع أنّه كان يلحّ عليهم بتسييره والانضمام إليه، إلاّ أنّ كبارهم اعتذروا عن تنفيذ طلب النبيّ(صل الله عليه وآله وسلم)بحجّة أنّهم لا يرغبون في مفارقة الرسول(صل الله عليه وآله وسلم) وهو يعاني من المرض
ورأى أن لابدّ له من وصيّة أخيرة أخرى، ويبدو أنّه قرّر في هذه المرّة أن لا يكتفي بالقول ، فأمرهم بقوله: ائتوني بدواة وكتف; لأكتب إليكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً.. وقد أُغمي عليه من شدّة الألم
حتّى قال أحد الحاضرين: إنّ الرجل ليهجر.. وبعد أن أفاق(صل الله عليه وآله وسلم) قال القوم.. ألا نأتيك بدواة وكتف؟ ففضب الرسول(صل الله عليه وآله وسلم) قائلاً: أبعد الذي قلتم؟ ولكنّي أوصيكم بأهل بيتي خيراً
ولمّا قرب أجله، أوصى عليّاً(عليه السلام) بجميع وصاياه.. ثمّ فاضت نفسه الطاهرة في حجر عليٍّ(عليه السلام). وقد تولى عليٌّ ع وأهله بيته تجهيز النبي(صل الله عليه وآله) ثم صلّوا عليه. وبعدها أمر عليٌّ المسلمين بالدخول على رسول الله(صل الله عليه وآله) للصلاة عليه ، وإلقاء آخر نظرة لهم عليه. ثم بادر عليٌّ ع والهاشميون وجمع من الصحابة إلى دفنه في الحجرة نفسها ، وهي التي فارق الحياة فيها
فما رأوا يوماً كان أكثر باكياً ولا باكية من ذلك اليوم
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها
وغاب مذ غبت عنا الوحي والكتب
وكنت بدراً ونوراً يستضاء به
عليك تنزل من ذي العزة الكتب
وكان جبريل بالآيات يؤنسنا
فقد فقدت وكل الخير محتـجب
فليت قبلك كان الموت صادفنا
لما مضيت وحالت دونك الكثب
إنا رزئنا بما لم يرز ذو شجن
من البرية لاعجم ولا عُـرب
فسلام عليك يا أباالقاسم يوم ولدت و يوم مت و يوم تبعث حيّا