الدقة القرأنية
عندما نريد حساب المسافات الصغيرة فإننا نأتي بالمتر ونبدأ بالقياس. فنقول أن المسافة بين هذه الزاوية وتلك في هذه الغرفة خمسة أمتار، أو نقول أن طول هذا العمود هو 20 مترا. وإذا أردنا أن نعلم المسافة التي قطعتها السيارة فنبدأ بحسابها بعدد اللفات التي يصنعها دولاب السيارة ومن هذه اللفات نستخرج المسافة التي قطعت بالكيلومتر أو ما شابه. وإذا أردنا أن نعلم بعد قاع المحيط عن سطح الماء أطلقنا موجة صوتية من سطح الماء إلى القاع ومن ثم تنعكس هذه الموجة إلى الجهاز وتعلمه الوقت الذي استغرقته ومنه ومن سرعة الصوت نستخرج المسافة.
ولكن عندما نريد معرفة بعد النجوم عن الأرض أو المجرات عن بعضها فإننا نستعمل مقياساً آخر. هذا المقياس يسمى بالسنة الضوئية. السنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في خلال سنة واحدة. ومن المعروف أن سرعة الضوء هي 300,000 كيلومتراً في الثانية تقريباً هذا يعني أن في زمن قدره ثانية واحدة سيكون الضوء قد رحل مسافة قدرها 300,000 كيلومتراً، وفي زمن قدره 8 دقائق فإن الضوء سيرحل مسافة قدرها 144,000,000 كيلومترا (الشمس تبعد عنا مسافة ثمانية دقائق ضوئية تقريبا). وإن رحل الضوء لمدة قدرها سنة كاملة فإنه سيقطع مسافة قدرها 9,460,800,000,000 كيلومتراً تقريبا، وهذه المسافة هائلة جدا مع العلم أن هناك ما يبعد عن مجرتنا ملايين السنين الضوئية.
نفهم من هذا الكلام أنه إذا ما أردنا أن نقيس المسافات الهائلة فإننا نستخدم الزمن كوحدة قياس بدلا من المتر أو الكيلومتر أو ما شابه من وحدات قياس. فإذا أردنا أن نخبر أحداً عن المسافة بين مجرتنا وأقرب مجرة لها فإننا نقول أنها تبعد عنا مسافة 180,000 سنة ضوئية. وتبعد المجرة اللولبية M83 عن مجرتنا مسافة 10 ملايين سنة ضوئية، وهكذا.
بعد أن تعرفنا على وحدة قياس المسافات الضخمة نقف عند القرآن الكريم. لنتعرف على الدقة القرآنية التي يصف فيها الله عز وجل موقف الإنسان من الأعمال السيئة. يقول الله سبحانه وتعالى: "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذَّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالعِبَادِ"
(آل عمران - 30) وسأتكلم هنا عن وحدة القياس التي استخدمها الله سبحانه، وتعرف هذه المسافة بالأمد. يقول العلامة السيد الطباطبائي في الميزان في تفسير القرآن:
والأمد يفيد معنى الفاصلة الزمانية، قال الراغب في مفردات القرآن: الأمد والأبد يتقاربان، ولكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود، ولا يتقيد... والأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق...
ويقول أية الله السيد الشيرازي في تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان:
" أَمَداً بَعِيداً أي مكاناً بعيداً" واختلفت التفاسير في ما إذا كانت الفاصلة بين النفس العاصية وما عملته من سوء هي مسافة مكانية أو أنها مسافة زمانية. سواءً أكانت هذه الفاصلة زمانية أم مكانية فإن القرآن عبر عن هذه المسافة بكلمة الأمد البعيد. فالأمد إنما هي كلمة تدل على الزمن وإن كان المقصود في الآية الكريمة الفاصل المكاني. وكما ذكرنا قبل قليل أنه إذا أردنا أن نقوم بقياس المسافات الطويلة والتي تقدر بملايين الكيلومترات فإن وحدة القياس تكون زمانية. لذلك فإن كلمة الأمد أبلغ في التعبير وأدق.
كثيراً ما كنت أقرأ هذه الآية وكانت تتبادر إلى ذهني فكرة أن الإنسان بطبيعة الحال ستكون لديه الرغبة القصوى في أن تكون هناك بينه وبين معاصيه فاصلة، كالذي إذا مر عند مكان رمي الأوساخ فإنه يريد الابتعاد عنها لما يشتمه من رائحتها المنتنة. ولكن لم أتصور قدر هذه الرغبة حتى ربطت الفكرة الفيزيائية مع كلمة الأمد في الآية المباركة، وحتى نفهم خطورة هذه الذنوب عبر الله عن هذه الفاصلة بالأمد البعيد، ولو كانت المسافة التي يتمناها الإنسان بعيداً عن ذنوبه معرّفة بكلمة "الأمد" فقط لكفى (لأن الأمد كلمة تدل على الفاصلة الزمانية البعيدة وإن كانت محدودة) ولكن أضاف الله سبحانه كلمة "بعيدا" ليعرفنا عن مدى إستيائنا من ذنوبنا يوم القيامة.
غفر الله لنا ولكم كل ذنوبنا.