واقع الإمامة في الإسلام
هي محض نور يُقتبس منه كلّ نور.
هي ذروة النقاء وقمّة الصفاء الروحي.
هي هبة ربانيّة ونعمة إلهيّة، حلّت فيها البركة السماويّة ففجّرتها نبع عطاء سرمدي، لا يعرف نهاية ولا حدّاً.
يفيض بخيراته على البشر كلّهم، من الأوّلين والآخرين، العالمين بحقيقته والجاهلين.
هي الإمامة...
والتي تمثّل ـ بما تشغله من حيّز كبير من الأهميّة ـ محور الخلاف بين المسلمين على مرِّ العصور.
وقد ساهم هذا الاختلاف في خلق الأزمات والمشاكل، التي طالما عانت منها الأُمّة الإسلاميّة ولا زالت.
ولعلّ أكبر هذه المشاكل هي انقسام أُمّتنا الإسلاميّة إلى فئتين عظيمتين.
أُمّتنا التي قال تعالى فيها: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).
____________
1- الأنبياء (21): 92.
أهل السنّة ومفهوم الإمامة:
تضمّ هذه الفئة القسم الأكبر من أبناء الأُمّة الإسلاميّة، حيث ينظرون إلى الإمامة كمفهوم ضيّق ومحدود لا يتعدّى قيادة المجتمع وإدارة الشؤون السياسيّة، فتنحصر بهذا مهمة الإمام بالأُمور الدنيويّة فقط، كحفظ أمن الدولة، وحماية حدود البلاد، والفصل بين المتخاصمين، والضرب على أيدي المعتدين.
هذا، ولا إشكال فيما إذا تعدّى الإمام حدود التقوى وتلوّث بلوث الآثام والمعاصي، فإنّه يبقى إماماً مُطاعاً!
وبعبارة أُخرى:
إنّ هذه الفئة تقول بإمامة حتى الجائر والظالم، ولا ينخلع هذا الإمام بارتكابه المعاصي، بل إنّه بمجرّد استيلائه على هذا المنصب ـ بغض النظر عن الطريقة التي وصل بها إلى الحكم ـ فقد استحقّه.
ومن جهة أُخرى: يعتبرون مصدر تعيين الإمام واختياره هم الأفراد أنفسهم، فهم يختارونه بأنفسهم وينصبّونه عليهم!
إنّ هذه النظرة السطحيّة إلى الإمامة أدّت إلى تهميش هذا الأصل المهم وتفشّي الاعتقاد بفرعيّته.
الاتجاه الآخر:
أمّا القسم الثاني من أبناء الأُمّة هم ما يُسمّون بـ (الشيعة)، حيث تختلف نظرتها إلى الإمامة عن الفئة السابقة.
فتقول الشيعة: إنّ للإمامة مفهوماً أعمّ وأشمل من مجرّد كونها قيادة اجتماعيّة وسياسيّة فحسب.
بل إنّ الإمام هو مَن يُجسّد المرجعيّة الفكريّة والزعامة السياسيّة في الوقت نفسه، وهو مبلّغ قوانين وأنظمة وأحكام الإسلام بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عبر الزمان.
وهو النموذج للإنسان الكامل، وهو فقط مَن مِن حقّه أن يترأس الأُمّة ويقود مسيرتها، حيث يتمتّع بالعصمة التي تمكّنه من تأدية دوره في إرشاد البشر وهدايتهم، حيث تُتخذ سيرته منهجاً يجب أن ينتهجه كلّ الناس.
وخلاصة ما تقوله هذه الفئة:
إنّ هذا المزيج من القدرات والكفاءات على كافّة الصعد، والتي ستجتمع في شخص واحد، بالإضافة إلى العناية والرعاية الإلهيّة، سيؤدّي إلى تحقيق الرسالة، وهو جعل الأُمّة تسير وفق دستور حياتي خالد يضمن حياة سعيدة وآمنة لأفرادها.
إذاً، تنظر الشيعة إلى الإمامة كأصل ثابت من أُصول الاعتقاد، لا يكتمل الإيمان إلاّ باعتقادها عن تفكّر وتدبّر ذاتيين، والسؤال هو: كيف، وبأيّ دليل يرتفع مفهوم الإمامة إلى هذا المستوى الرفيع من الدين؟
سنعرف ذلك بعد الرجوع إلى القرآن الكريم، والسنّة الشريفة
وبعض كتب التفسير، ليتبيّن أنّ الإمامة هي استمرارية لرسالة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم القيامة، وبها يتحقّق الوعد الإلهيّ ويظهر الدين كلّه.
الفصل الأوّل
الإمامة منصب إلهي
إمامة إبراهيم:
ثمّة آية قرآنية تتعلّق بموضوع بحثنا، فلنرَ بماذا ستفيدنا هذه الآية الكريمة، يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(1).
تتحدّث هذه الآية عن واحدة من أعظم السّيَر العظيمة، والتي ظلّت بصمة شاهدة على أصالة التاريخ منذ فجره، ولسنا الآن بصدد دراسة سيرة سيّدنا إبراهيم (عليه السلام) ; لأنّها أعظم من أن تحيط بها هذه الصفحات القلائل.
إنّما ذكرنا هذه الآية لارتباطها الوثيق بمفهوم الإمامة كأصل دينيّ من جهة كونها منصباً إلهيّاً، لا شأن لغير اللّه باختيار من يشغله، كما أنّ نيله متعلّق بشروط ومؤهلات خاصّة، وليتسنّى فهم ذلك رأينا أن نفصّل الآية السابقة إلى مقاطع بحسب ما يمليه علينا سياقها.
أوّلاً: ابتلاءٌ فجزاء
في زمن أرهقت فيه الإنسانية لثقل حملها...
____________
1- البقرة (2): 124.
وانهكت تتأوّه لسوء حالها...
حيث اتّخذت الأصنام أرباباً معبودة، تسجد لها، وتعكف على عبادتها...
في هذا الخضم من الضلال والفوضى...
بُعث سيّدنا إبراهيم أبو الأنبياء (عليه السلام)...
لينتشل المجتمع البشري من بؤرة الوضاعة والانحطاط إلى أُفق الرقيّ والانضباط.
وحاله حال الأنبياء، فما أن تربّع على عرش النبوّة حتى أخذت المحن والابتلاءات الإلهيّة تتهافت عليه واحدة تلو الأُخرى، فكانت لا تزيده إلاّ صبراً وتسليماً.
يقول تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ}(1).
ومن الواضح أنّه ليس المراد من (كلمات) الواردة في هذه الآية مجرّد ألفاظ وتعابير تتألّف من أحرف هجائيّة وإن ذهب البعض إلى هذا المعنى.
لكن على الأكثر والأصح أنّ المراد من هذه الكلمات مجموعة أُمور وأحاديث واقعة، كما في قوله تعالى لمريم: {إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ}(2).
____________
1- البقرة (2): 124.
2- آل عمران (3): 45.
فكلمه اللّه في هذه الآية هو عيسى بن مريم نفسه (عليه السلام).
وعندما قال سبحانه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات} كان يريد من هذه الكلمات مجموعة الابتلاءات التي مرّ بها إبراهيم (عليه السلام) والتي حدّثنا القرآن الكريم عنها، فمنها:
1 ـ صموده (عليه السلام) أمام نمرود ومن لفّ لفّه، واستعداده لأن يُلقى في النار دون أن يؤثّر ذلك على إيمانه، بل على العكس كان يزداد تعلّقاً بربّه سبحانه.
2 ـ امتثاله لأمر ربّه حين أمره أن يأخذ زوجته ووليده إلى أرض الحجاز ويتركهما وحيدين في أرض قاحلة جدباء لا حول لهما فيها ولا قوّة، حيث قال مستودعهما اللّه: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع}(1).
3 ـ ومنها ما هو أعظم وأمضى; إذ أمره ربّه أن يذبح ابنه إسماعيل بيده! حيث تكرّر عليه هذا المنام في عالم الرؤيا عدّة مرّات، فأيقن أنّه الوحي الإلهي، ثمّ طرح هذا الأمر على ولده إسماعيل، فما كان من الابن إلاّ أن سلّم لأمر ربّه تسليماً، ومن دون تردّد قائلاً: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}(2).
ها هما..
____________
1- إبراهيم (14): 37 2- الصافات (37): 102.
الذابح والمذبوح...
كلاهما في ساحة الابتلاء، وعلى أُهبة الاستعداد لتنفيذ الأمر الإلهيّ بمنتهى الإيمان والصبر والتسليم.
فلمّا أوشكا أن يبدأا ـ وما أعظمه من منظر! {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}(1) ـ جاءهما نداء ربّهما: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}(2) وهو الأمر بالتوقّف، إذ لم يكن الهدف هو ذبح إسماعيل أصلاً، إنّما كان الهدف هو ظهور التسليم والإذعان والطاعة منهما مهما كان الأمر الإلهيّ صعباً ومريراً، وليبقى هذا المشهد خالداً يصوّره القرآن الكريم على مرّ العصور، حيث يحكي حقيقة الارتباط باللّه، وحقيقة الإيمان الذي ملأ نفوساً حتى استغرقت بالروح الإلهيّة المقدّسة، فغاب عن مرآها كلّ شي دون اللّه.
بعد أن قطع إبراهيم كلّ الابتلاءات، وحقّق ما حقّقه من نجاح كبير، وأثبت ما أثبته من جدارة وكفاءة، أراد اللّه أن يهبه المنصب الجديد الذي استحقّه وصار أهلاً له، هذا المنصب هو الإمامة، حيث قال سبحانه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فصار إبراهيم بإرادة اللّه وجعله إماماً للناس أجمعين.
____________
1- الصافات (37): 103.
2- الصافات (37): 104 ـ 105.
مقام الإمامة:
قال الإمام الصادق (عليه السلام):
"إن اللّه اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً، واتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولا، واتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، واتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً"(1).
إنّ هذه المراتب التي أحرزها إبراهيم (عليه السلام) وهي: العبوديّة، النبوّة، الرسالة، الخلّة، الإمامة، حيث جاءت مرتّبة تصاعديّاً، فإنّها ترسم سُلّم الصعود والارتقاء إلى أعلى مرتبة يمكن أن يصل إليها الإنسان، وهي الدرجة العليا (الإمامة).
(فالعبوديّة) وهي الدرجة الأُولى ليست بمعنى الملوكيّة، إذ أنّ كلّ الناس عبيد اللّه، إنّما المراد منها هو الإخلاص والصدق في خطّ التعبّد، إذ أنّها (العبوديّة) منطلق الكمالات المعنويّة.
بعد العبوديّة تأتي (النبوّة) المختصّة بشخصه، ثمّ (الرسالة) حيث تعمّ كلّ الأُمّة، فتكون أعلى مرتبةً وأصعب مهمةً من النبوّة، إذ كلّ رسول نبيّ، وليس كلّ نبيّ رسول، ثمّ بعد الرسالة تأتي مرتبة (الخلّة)، والتي تفرّد بها إبراهيم (عليه السلام) من بين الأنبياء والمرسلين، فصار خليل اللّه.
بعد أن أحرز إبراهيم كلّ هذه المقامات، وأتمّ كلّ تلك
____________
1- الكافي 1: 175، حديث 2 و4، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام).
الابتلاءات، بحيث لم يصدر منه حتى ما يسمّى بترك الأولى الذي وقع فيه عدد من الأنبياء والرسل، بعد كلّ ذلك استحقّ إبراهيم (عليه السلام) مقام الإمامة، وهي المرتبة الأرقى كما أسلفنا.
كما يدلّ على أنّ منصب الإمامة جاء بعد كلّ تلك المناصب (وخاصّة النبوّة)، هو طلب إبراهيم (عليه السلام) الإمامة لذريّته إذ قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} فقوله هذا لا يخلو من احتمالين:
الأوّل: أنّه كان له ذريّة بين يديه عندما جُعل إماماً.
الثاني: أنّه كان يعلم أنّه سيكون له ذريّة فيما بعد.
وكلا الأمرين ـ الاحتمالين ـ حدثا في آخر حياته، أي في كبره، حيث يقول تعالى حاكياً مفاجأته بنبأ الذريّة: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلام عَلِيم * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ}(1).
كما يقول سبحانه في آية أُخرى: {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَيٌْ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ}(2).
____________
1- الحجر (15): 51 ـ 54.
2- هود (11): 71 ـ 73.
إذاً، تشير هذه الآيات إلى أنّ إبراهيم (عليه السلام) لم يرزق بذريّة، بل لم يعلم بذلك إلاّ بعد أن مسّه الكبر، وكلّ ذلك حدث وقت النبوّة، ومع ذلك لم يكن إماماً عندئذ إلاّ بعد أن صار أهلاً لها.
استمراريّة الإمامة:
لمّا ارتقى إبراهيم (عليه السلام) من النبوّة إلى الإمامة، لم يَغبْ عن ذهنه خطورة الفراغ الذي سيخلّفه بعد رحيله الأبدي والتحاقه بالرفيق الأعلى، وكان أمله أن يكون أئمة من ذريّته بعده كما كان هو.
ولعلوّ شأنّها ـ الإمامة ـ وسموّ مكانتها في عينه، حيث رأى ما لم يره ولم يطلع عليه أحد من البشر غيره خلال مسيرة حياته، سأل ربّه: أن يا ربّ هل ستجعل من أولادي وأحفادي أئمة من بعدي كما جعلتني {وَمِن ذُرِّيَّتِي}؟
يأتيه الجواب: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
يالَحكمة السماء...
ويالَبديع نظمها...
أُنظر إلى الردّ الإلهي...
كلمات معدودة صارت قانوناً جرى ويجري منذ بدء الخليقة إلى منتهاها...
{لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} جوابٌ ليس مقبولاً محضاً ولا رفضاً
مطلقاً، بل قسّم البشريّة إلى قسمين:
القسم الأوّل: غير الظالمين، وهم الذين سينالهم عهد اللّه.
القسم الثاني: الظالمون، وهم الذين حُرموا عهد اللّه.
الظالم مَن هو؟
إنّ الظالم في عرفنا: هو كلّ من يعتدي على حقوق الغير أو يسلبها في المجالات المختلفة، ولكنّ القرآن يعمّم هذا المفهوم ليشمل كلّ معتد على حقّ غيره أو حقّ نفسه.
فثمّة آيات كثيرة في القرآن الكريم تعرض صوراً لإلحاق الظلم بالنفس، مثل قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ}(1).
وقوله سبحانه: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ}(2).
وقوله عزّ وجلّ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}(3).
إذاً، كلّ من مارس الظلم بحقّ نفسه أو حقّ غيره فهو في نظر القرآن الكريم ظالم، وكلّ ظالم هو بعيد عن نيل عهد اللّه {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
____________
1- النساء (4): 110.
2- الكهف (18): 35.
3- البقرة (2): 54.
بقي في متناول الإمامة مَن لم يجترح عمليّة ظلم في حياته كلّها، وهم المعصومون طبعاً.
يقول العلاّمة الطباطبائي ـ صاحب تفسير الميزان ـ نقلاً عن أحد أساتذته حول طلب إبراهيم (عليه السلام) الإمامة لذريّته:
"إنّ مآل هذه الذريّة من حيث صلاحها وفسادها ينتهي إلى الفرضيّات التالية:
الأُولى: أن نفترض أنّ هذه الذريّة ظالمة على الدوام من أوّل عمرها إلى آخره.
الثانية: أن نفترض أنّها كانت ظالمة في أوّل عمرها ثمّ آلت إلى الصلاح آخر العمر.
الثالثة: أن تكون صالحة أوّل عمرها ثمّ آلت إلى الظلم بعد ذلك.
الرابعة: أنّها لم تكن ظالمة في أيّ وقت من الأوقات".
ثمّ يقول:
"من المحال أن يطلب إبراهيم (عليه السلام) الإمامة ـ وهي بهذا الشأن العظيم حيث وهبت إليه بعد النبوّة والرسالة ـ لمن كان ظالماً من ذريّته من أوّل حياته إلى آخرها.
كما من المحال أن يسألها لمن كان من ذريّته صالحاً في مبدأ حياته ثمّ آل إلى الظلم آخر عمره.
تبقى إذاً من ذريّة إبراهيم (عليه السلام) فئتان:
الأُولى: التي لزمت الصلاح من أوّل عمرها وبقيت على ذلك.
الثانية: التي كانت ظالمة في أوّل عمرها ثمّ آلت إلى الصلاح.
لكنّ الآية أخرجت الظالمين عن نطاق الإمامة بشكل مطلق ولم تحده ـ أي الظلم ـ بزمان دون آخر، وهو قيد تخرج فيه جميع الفئات من ذريّة إبراهيم (عليه السلام)، عدا الفئة التي لزمت الصلاح وعاشت العصمة منذ أوّل حياتها إلى نهايتها"(1).
نستنتج من كلّ هذا أنّ العصمة ـ والتي لا يرى الكثيرون ضرورتها ـ إنّما هي الشرط الأساسي لنيل الإمامة.
الإمامة عهد اللّه:
صغيرة في لفظها...
كبيرة في مدلولها...
فما معنى أن تنال الإمامة وتصير إماماً؟
معناه أن ينالك عهد اللّه، معناه أن تعيش مع اللّه وللّه; لتبلغ حدّاً يطلق عليك فيه مصطلح (الإنسان الكامل).
وتكون قائداً وأُسوة للبشريّة جمعاء في عقيدتك... وتفكيرك... وجميع تحرّكاتك...
فهل تستطيع؟
____________
1- الميزان في تفسير القرآن 1: 274، والنقل بالمعنى.
لو اطّلعنا على سِيَر جميع القادة والحاكمين والرؤساء والمشايخ و... و... فضلاً عن الناس العاديين، لوجدناها لا تخلو من عمل يتعارض مع الأوامر والتوجيهات الإلهيّة، بغض النظر عن كون هذا العمل كبيراً أو صغيراً، هذا إن لم يعمل بعضهم عكسها متعمداً!
إلاّ من وقع عليه الاختيار الإلهيّ، وحمّله مسؤوليّة قيادة مسيرة البشر، فهؤلاء وما أدراك ما هؤلاء؟!
هؤلاء هم القادة الربّانيون والزعماء الإلهيّون، سفراء اللّه في أرضه وحججه على خلقه.
هؤلاء هم الذين عبدوا اللّه حقّ عبادته، وأطاعوه ولم يعصوه طرفة عين، حيث عاشوا العصمة بأسمى معانيها وأبهى تجلّياتها.
كيف لا، وهم الذين نالهم عهد اللّه ـ الامامة ـ بمعناه القيادي الشامل دون غيرهم؟!
في الحقيقة إنّ ما نريد قوله: إنّ اختيار الإمام أمر محصور بالإرادة والقدرة الإلهيّة وحسب; لأنّ البشر غير قادرين على اختيار الأفضل والأجدر لهذا المنصب، وذلك لسطحيّتهم وعدم قدرتهم على الاطلاّع على ضمائر وسرائر بعضهم، إلاّ أن يحدّده اللّه ويعيّنه بذاته.
وما يدلّنا على ذلك في الآية جواب الباري عزّ وجلّ عندما سأله إبراهيم (عليه السلام) الإمامة لذريّته، فقد اقترن الجواب بضمير ياء المتكلّم
في كلمة (عهدي) حين قال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، الأمر الذي يعني تخصّصها وانحصارها باللّه سبحانه، فلم يقل (عهدكم) مثلاً، أو (عهد البشر)، بل قال: (عهدي) أي عهدي وحسب.
فالإمامة إذاً عهد اللّه ولا شأن لغير اللّه فيها.
وآية أُخرى...
يقول اللّه تعالى حاكياً طلب موسى (عليه السلام): {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}(1).
لمّا أمر اللّه سبحانه كليمه موسى (عليه السلام) بالذهاب إلى فرعون الطاغي، لم يتردّد موسى (عليه السلام)، ولكنّه شعر بالحاجة إلى مساعد وموآزر وشريك ليسانده في أمره، فتوجّه إلى ربّه في طلبه:
{وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي}.
ثمّ يأتيه جواب ربّه: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}(2)، ولم يأمره أن يتشاور مع أصحابه وأتباعه ليختاروا وزيراً وشريكاً له من بينهم.
____________
1- طه (20): 29 ـ 31.
2- طه (20): 36.
الفصل الثاني
إمامة أهل البيت (عليهم السلام) في القرآن الكريم
أوّلاً: آية التطهير
وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(1).
أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة زوجة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت:
خرج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليه مُرْطٌ مُرَحَّل(2) من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثمّ جاء الحسين فدخل معه، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء عليّ فأدخله، ثمّ قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}"(3).
كما أخرج الترمذي حديثاً عن أُمّ سلمة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي المعروفة بالتقوى والفضل، قالت: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) جلّل الحسن
____________
1- الأحزاب (33): 33.
2- المُرْط: كساء من صوف، وربما كان من شعر، وربما كان من خزّ، والمُرَحَّل: الذي نُقش فيه تصاوير الرحال، أو هو الذي فيه علم، انظر غريب الحديث لابن قتيبة 2: 160. والنهاية في غريب الحديث 2: 210، لسان العرب 11: 278 (مرط).
3- صحيح مسلم 7: 130، باب فضائل أهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
والحسين وعليّ وفاطمة كساءً ثمّ قال: "اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً"، فقالت أُمّ سلمة: وأنا معهم يا رسول اللّه؟ قال: "إنّكِ إلى خير"(1).
يظهر لنا من خلال حديث زوجَتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ عائشة وأُمّ سلمة ـ أنّ المعنيين في آية التطهير هم أهل بيت النبيّ وهم: عليّ وفاطمة وولدهما الحسن والحسين (عليهما السلام).
ولكنّ البعض يقول غير ذلك!
على مائدة البحث:
1 ـ مصداق الآية
يعتقد البعض أنّ هذه الآية ـ آية التطهير ـ نزلت في نساء النبيّ; بحجّة وقوعها في سياق الآيات التي يخاطب اللّه بها زوجات نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في سورة الأحزاب.
فيقول سبحانه: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ
____________
1- سنن الترمذي 5: 360، حديث 3963.
اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيرًا}(1).
صحيح أنّ آية التطهير وقعت ضمن الآيات المخاطبة لنساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن لا يعني هذا اختصاصها بهنّ; وذلك لعدّة أسباب، نذكر منها:
1 ـ تعتبر آية التطهير إحدى الآيات التي تثبت عصمة أهل البيت، كما سيأتي لاحقاً، وعليه يلزم القول بعصمة نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، في حين لم يقلْ أحد بعصمتهن، بل على العكس، فلو راجعنا التاريخ لوجدنا أنّ منهنّ من ارتكبت ما ينافي صفة العصمة تماماً.
2 ـ في الآيات التي تتقدّم على آية التطهير كان الخطاب موجّه لنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بضمير التأنيث وهو (نون النسوة) كما في: (لستن، اتقيتن، تخضعن...)، بينما يتحوّل الخطاب في آية التطهير إلى علامة التذكير وهي (الميم) كما في: (عنكم، ويطهّركم)، فلو كانت الآية تخاطب نساء النبيّ فلا حاجة للتغيير في ضمائر الخطاب من نون النسوة إلى ميم الجمع، ولكنّ التغيير موجود، فاختلاف المعنى وبالتالي اختلاف المخاطبين موجود أيضاً.
3 ـ إنّ نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنفسهنّ يروين اختصاص آية التطهير، بأهل البيت (عليهم السلام)، ويصرّحن برفض النبيّ طلبهنّ في الدخول معهم تحت الكساء، إذ كأنّه يقول: لا تقربي.. إنّك على خير... إلخ فلماذا
____________
1- الأحزاب (33): 32 ـ 34.
ننسب لهنّ ما لم يدّعينه لأنفسهن؟!.
4 ـ بسبب قلّة من شهد حديث الكساء، فقد حرص النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)على انتشار هذا الخبر بين المسلمين; ليعلموا مكانة أهل البيت (عليهم السلام) وموقعهم من اللّه ورسوله.
حيث روى أنس بن مالك: أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقي لمدّة ستّة أشهر يمرّ بباب فاطمة (عليها السلام) عند خروجه لصلاة الفجر ويقول: "الصلاة يا أهل البيت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}"(1).
5 ـ أمّا بالنسبة للاحتجاج بوحدة السياق الذي أوجب الاعتقاد بنزولها في نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا قيمة له; وذلك أنّ هناك الكثير من الآيات التي تتضمّن موضوعاً معيّناً ثمّ يدخل عليه ومن دون فاصل موضوع آخر يختلف تماماً عن الموضوع السابق، ومن ثمّ يُتابَع الموضوع الأوّل بحيث يكون الموضوع المقحم بمثابة جملة اعتراضيّة يختلف مضمونها عمّا قبلها وبعدها.
ومثال ذلك قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ
____________
1- مسند أحمد 3: 259 و285، في مسند أنس بن مالك، سنن الترمذي 5: 31، حديث 3259، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 3: 158.
وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَة غَيْرَ مُتَجَانِف لإِثْم فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).
تتحدّث هذه الآية في صدرها وذيلها عمّا يحرم وما يحلّ أكله، بينما أُقحمت في وسطها آية ليس لها أيّة علاقة بقضية الأكل حلاله وحرامه، بل إنّها تتحدّث عن يأس الكفّار من دين الإسلام وإكمال اللّه لهذا الدين وإتمام النعمة على المسلمين... فلو اقتطعنا هذا المقطع (اليوم يئس..... ورضيت لكم الإسلام ديناً) لبقي صدر الآية وذيلها متلائمين تماماً كأن لم يحدث شيء، وهذا النمط يطلق عليه علماء اللغة العربية اسم (الجملة الاعتراضية).
وإنّ الكلام السابق نفسه ينطبق على آية التطهير وما قبلها وما بعدها من الآيات حيث أُقحمت إقحاماً بينها، مع أنّها تحمل موضوعاً مختلفاً وتعني أشخاصاً غير نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
إذاً، نزلت آية التطهير بحقّ أهل بيت النبيّ وهم: علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وليس نساءه.
فقد جاء في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال:... فقلنا: مَن أهل
____________
1- المائدة (5): 3.
بيته، نساؤه؟ قال: لا، وأيم اللّه إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حُرموا الصدقة بعده(1).
ثانياً: آية الطاعة
وهي قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}(2) توجّه هذه الآية نداءً للمسلمين بأنّ:
أوّلاً: {أَطِيعُواْ اللّهَ} حيث تبدأ بإصدار أمر الطاعة ـ أوّلاً ـ للّه سبحانه والإذعان لأوامره، إذ إنّه مُوجد هذا الكون ومدبّره، وأنّ القيادات كلّها منه وإليه، وهو سبحانه المنظّم والمشرّع لهذا الكون.
ثانياً: {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} تضيف الآية أمراً ثانياً لكنّه من سنخ الأوّل، وهو أمر بطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو سفير اللّه في أرضه ومبلّغ رسالته، وواسطته مع خلقه، والذي أمره أمر اللّه ونهيه نهي اللّه، المعصوم من كلّ خطأ وزلل، حتى قال تعالى فيه: {وَمَا يَنطِقُ
____________
1- صحيح مسلم 7: 123، باب فضائل علي (عليه السلام).
2- النساء (4): 59.
عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}(1).
إنّ طاعة الرسول واجبة حيث تكتسب وجوبها من كونه رسولاً للّه، وكون اللّه أمرَ بطاعته، إذ قال: {... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا...}(2).
وبهذا تكون طاعته طاعةً للّه، ومخالفته مخالفةً للّه، يقول سبحانه: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً}(3).
ثالثاً: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} يأتي الأمر الثالث، وهو أيضاً من سنخ الأوّل والثاني، وهو الأمر بطاعة أُولي الأمر الذين جاء ترتيبهم في الآية بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبهذا يتعيّن المرجع الحقيقي للمؤمنين بعد رسول اللّه، وهم أُولوا الأمر الذين أمر اللّه بطاعتهم.
وجوب عصمة أُولي الأمر:
هل تعتقد أنّ كلّ من استطاع الاستيلاء على مركز القيادة والإمساك بزمام الأُمور، بغض النظر عن الوسيلة، وبغض النظر عن الصفات التي يتمتّع بها، هل تعتقد أنّه أصبح من أُولي الأمر الذين
____________
1- النجم (53): 3 ـ 4.
2- الحشر (59): 7.
3- النساء (4): 80.
أوجب اللّه طاعتهم في الآية السابقة؟
بالتأكيد لا...
على الرغم من تفشّي هذا المفهوم في أواسط المسلمين!
لكنّنا إن قلنا بهذا المفهوم للزم من قولنا هذا حصول التناقض في الآية نفسها.
كيف؟
ذلك فيما إذا أصدر الحاكم (أي وليّ الأمر) أمراً يخالف شريعة اللّه وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكثيراً ما يحدث، فإنّ منشأ التعارض سيكون كما يلي:
أوّلاً: تقول الآية في بدايتها: {أَطِيعُواْ اللّهَ} وهو أمر بوجوب طاعة اللّه سبحانه.
ثانياً: وتقول في ذيلها: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} وهو أمر إلهي بوجوب طاعة أُولي الأمر مطلقاً.
ولكنّ وليّ الأمر أصدر أمراً مخالفاً لأمر اللّه، فأيّهما نلتزم؟
أنلتزم أمر اللّه ونعصي أُولي الأمر المخالفين لأمر اللّه؟ ومع ذلك فلن تتحقّق الطاعة المفروضة من اللّه; لأنّه أمرَنا بطاعة أُولي الأمر مطلقاً.
أم نلتزم أمر أُولي الأمر المخالفين لأمر اللّه ونعصيه؟ فنكون بذلك قد جوّزنا فعل المعصية برخصة من اللّه تعالى; لأنّه أمرنا بطاعة أُولي
الأمر، وهذا ما لا يقبله العقل!
إذاً، لم يبق أمامنا إلاّ القول بأنّ اللّه عندما قرن طاعة أُولي الأمر بطاعته وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عنى أشخاصاً مميّزين ومحدّدين، يستحيل عليهم أن يأمروا بما يخالف أمر اللّه بأيّ شكل من الأشكال; لأنّ أمر اللّه وأمرهم هو في الحقيقة أمر واحد لا اختلاف ولا تناقض بينهما، وإلاّ لوقعنا بشبهة التناقض التي تكلّمنا عنها آنفاً.
وبهذا تثبت عصمة أُولي الأمر ووجوب طاعتهم.
من هم أُولوا الأمر؟
إنّ العصمة هي قوّة باطنيّة تحول دون وقوع المعصوم في المعاصي أو الأخطاء مع الالتفات إلى قدرته على فعلها، إذ أنّها ليست قوّة جبريّة تمنعه من ارتكاب المعاصي، بل إنّه يجتنب المعاصي بمحض إرادته، ذلك أنّ العصمة نابعة من معرفته باللّه وإطّلاعه على نتائج ارتكابه لأيّ فعل، سواء كان صالحاً أو طالحاً، لذلك فإنّ الشيعة يرون العصمة شرطاً أساسيّاً لولاية أُمور المسلمين.
وهذا الشرط ـ العصمة ـ لم يتوفّر إلاّ في أهل البيت (عليهم السلام) حيث عرفوا اللّه واطّلعوا على واقعية الأُمور وحقائقها وسيظهروا على أنفسهم بشكل كامل، وبلغوا مرتبة العصمة.
إذاً، فأولو الأمر الذين ثبت وجوب عصمتهم وطاعتهم هم أهل البيت (عليهم السلام) الذي ثبتت عصمتهم.
ثالثاً: آية الولاية
وهي قوله عزّ وجلّ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(1).
لقد اتفق علماء اللغة على أنّ (إنّما) تفيد الحصر، بل هي من أقوى أدوات الحصر.
وعليه فإنّ ولاية المسلمين انحصرت في الثلاثة المتسلسلين في الآية حسب الأولويّة، وهم: اللّه جلّ وعلا، ثمّ رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.
أمّا بالنسبة لولاية (اللّه) فهو خالقنا وبارئنا ومصوّرنا في الأرحام، وهو مدبّر أُمورنا، ومرشدنا، فكيف لا يكون أولى بأنفسنا منّا؟!
وأمّا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو هادينا وقائدنا، وهو أيضاً أولى منّا بأنفسنا، وذلك لقوله عزّ من قائل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}(2).
ولكن يبقى الكلام حول الأولياء الذين جاء ترتيبهم بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واقترنت ولايتهم بولاية اللّه ورسوله، وعرّفتهم الآية ـ آية الولاية ـ بإيتائهم الزكاة وهم في حالة الركوع، حيث قال سبحانه: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}.
فمن هؤلاء؟
____________
1- المائدة (5): 55.
2- الأحزاب (33): 6.
ماذا قال العلماء والمفسّرون؟
1 ـ روى الفخر الرازي في تفسيره: رُوي عن عطاء، عن ابن عباس: أنّها ـ آية الولاية ـ نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام)، روي أنّ عبد اللّه بن سلام قال: لمّا نزلت هذه الآية قلت: يا رسول اللّه أنا رأيت عليّاً تصدّق بخاتمه على محتاج وهو راكع، فنحن نتولاّه(1).
2 ـ وجاء في الكشّاف للزمخشري قال:... وإنّما نزلت في علي كرّم اللّه وجهه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه كأن كان مرجاً (أي غير مستعص) في خنصره، فلم يتكلّف لخلعه كثير عمل تفسد به الصلاة...(2).
3 ـ قال السيوطي في الدر المنثور: أخرج الخطيب في المتفق عن ابن عباس، قال: تصدّق علي بخاتمه وهو راكع، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "من أعطاك هذا الخاتم؟" فقال: "ذاك الراكع".
فأنزل اللّه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}"(3).
هذا، وقد ذكر العلاّمة الأميني في موسوعته (الغدير) أسماء ستّة وستّين عالماً من علماء أهل السنّة قالوا بنزول هذه الآية في الإمام علي (عليه السلام)، ولكن بطرق وألفاظ متعدّدة، فراجع(4).
____________
1- التفسير الكبير للفخر الرازي 12: 26.
2- الكشّاف 1: 682.
3- الدر المنثور 2: 293.
4- الغدير 3: 156.
تساؤل:
ثمّة تساؤل قد يقع في ذهن القارئ الكريم، وهو:
طالما نزلت هذه الآية في الإمام علي (عليه السلام) فلماذا جاءت بصيغة الجمع، بينما المخاطَب هو فرد واحد؟
يجيبنا العلاّمة الزمخشري على هذا التساؤل فيقول:
فإنّ قلت: كيف صحّ أن يكون لعليّ رضي اللّه عنه واللفظ جماعة؟
قلت: جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلٌ واحدٌ ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه...(1).
ونقول أيضاً:
إنّ أهل اللغة يعدّون مخاطبة الفرد بصيغة الجمع لغرض التفخيم والتعظيم.
فقد ذكر الطبرسي في تفسيره: إنّ النكتة من إطلاق لفظ الجمع على أمير المؤمنين (عليه السلام) تفخيمه وتعظيمه، ذلك أنّ أهل اللغة يعبّرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التعظيم، وقال: وذلك أشهر في كلامهم من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه(2).
كما أنّه قد نزل الكثير من الآيات الكريمة بصيغة الجمع على
____________
1- الكشّاف 1: 682.
2- مجمع البيان 3: 364.
لسان اللّه سبحانه، مع أنّنا جميعاً نؤمن ونقرّ أنّه واحد لا شريك له.
ومثال ذلك قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(1).
وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء}(2).
وقوله عزّ وجلّ: {اِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}(3).
فمَن نزّل الذكر؟ ومَن الذي حفظه؟ ومَن الذي أنزل من السماء ماء؟ و.. و.. سوى اللّه وحده.
الخلاصة:
بعد أن ثبت نزول آية الولاية في الإمام علي (عليه السلام)، وأنّه وليّ المؤمنين بعد رسول اللّه، بقي أن نقول: إنّه لا يخفى على القارئ الكريم أن معنى (الولاية) في هذه الآية هو الأولويّة بالتصرّف، وليس المحبّة والنصرة وإن كانت تأتي بهذا المعنى ولكن في غير هذا الموضع.
وذلك أنّ الولاية هنا قد انحصرت في (اللّه ورسوله والإمام علي) بينما تأتي بمعنى المحبّة والنصرة بشكل عامّ ولا يختصّ بها أحد دون الآخر، كقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض}(4).
____________
1- الحجر (15): 9.
2- ق (50): 9.
3- الكوثر (108): 1.
4- التوبة (9): 71.
مقام الإمامة:
قال الإمام الصادق (عليه السلام):
"إن اللّه اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً، واتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولا، واتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، واتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً"(1).
إنّ هذه المراتب التي أحرزها إبراهيم (عليه السلام) وهي: العبوديّة، النبوّة، الرسالة، الخلّة، الإمامة، حيث جاءت مرتّبة تصاعديّاً، فإنّها ترسم سُلّم الصعود والارتقاء إلى أعلى مرتبة يمكن أن يصل إليها الإنسان، وهي الدرجة العليا (الإمامة).
(فالعبوديّة) وهي الدرجة الأُولى ليست بمعنى الملوكيّة، إذ أنّ كلّ الناس عبيد اللّه، إنّما المراد منها هو الإخلاص والصدق في خطّ التعبّد، إذ أنّها (العبوديّة) منطلق الكمالات المعنويّة.
بعد العبوديّة تأتي (النبوّة) المختصّة بشخصه، ثمّ (الرسالة) حيث تعمّ كلّ الأُمّة، فتكون أعلى مرتبةً وأصعب مهمةً من النبوّة، إذ كلّ رسول نبيّ، وليس كلّ نبيّ رسول، ثمّ بعد الرسالة تأتي مرتبة (الخلّة)، والتي تفرّد بها إبراهيم (عليه السلام) من بين الأنبياء والمرسلين، فصار خليل اللّه.
بعد أن أحرز إبراهيم كلّ هذه المقامات، وأتمّ كلّ تلك
____________
1- الكافي 1: 175، حديث 2 و4، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام).
الابتلاءات، بحيث لم يصدر منه حتى ما يسمّى بترك الأولى الذي وقع فيه عدد من الأنبياء والرسل، بعد كلّ ذلك استحقّ إبراهيم (عليه السلام) مقام الإمامة، وهي المرتبة الأرقى كما أسلفنا.
كما يدلّ على أنّ منصب الإمامة جاء بعد كلّ تلك المناصب (وخاصّة النبوّة)، هو طلب إبراهيم (عليه السلام) الإمامة لذريّته إذ قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} فقوله هذا لا يخلو من احتمالين:
الأوّل: أنّه كان له ذريّة بين يديه عندما جُعل إماماً.
الثاني: أنّه كان يعلم أنّه سيكون له ذريّة فيما بعد.
وكلا الأمرين ـ الاحتمالين ـ حدثا في آخر حياته، أي في كبره، حيث يقول تعالى حاكياً مفاجأته بنبأ الذريّة: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلام عَلِيم * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ}(1).
كما يقول سبحانه في آية أُخرى: {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَيٌْ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ}(2).
____________
1- الحجر (15): 51 ـ 54.
2- هود (11): 71 ـ 73.
إذاً، تشير هذه الآيات إلى أنّ إبراهيم (عليه السلام) لم يرزق بذريّة، بل لم يعلم بذلك إلاّ بعد أن مسّه الكبر، وكلّ ذلك حدث وقت النبوّة، ومع ذلك لم يكن إماماً عندئذ إلاّ بعد أن صار أهلاً لها.
استمراريّة الإمامة:
لمّا ارتقى إبراهيم (عليه السلام) من النبوّة إلى الإمامة، لم يَغبْ عن ذهنه خطورة الفراغ الذي سيخلّفه بعد رحيله الأبدي والتحاقه بالرفيق الأعلى، وكان أمله أن يكون أئمة من ذريّته بعده كما كان هو.
ولعلوّ شأنّها ـ الإمامة ـ وسموّ مكانتها في عينه، حيث رأى ما لم يره ولم يطلع عليه أحد من البشر غيره خلال مسيرة حياته، سأل ربّه: أن يا ربّ هل ستجعل من أولادي وأحفادي أئمة من بعدي كما جعلتني {وَمِن ذُرِّيَّتِي}؟
يأتيه الجواب: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
يالَحكمة السماء...
ويالَبديع نظمها...
أُنظر إلى الردّ الإلهي...
كلمات معدودة صارت قانوناً جرى ويجري منذ بدء الخليقة إلى منتهاها...
{لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} جوابٌ ليس مقبولاً محضاً ولا رفضاً
مطلقاً، بل قسّم البشريّة إلى قسمين:
القسم الأوّل: غير الظالمين، وهم الذين سينالهم عهد اللّه.
القسم الثاني: الظالمون، وهم الذين حُرموا عهد اللّه.
الظالم مَن هو؟
إنّ الظالم في عرفنا: هو كلّ من يعتدي على حقوق الغير أو يسلبها في المجالات المختلفة، ولكنّ القرآن يعمّم هذا المفهوم ليشمل كلّ معتد على حقّ غيره أو حقّ نفسه.
فثمّة آيات كثيرة في القرآن الكريم تعرض صوراً لإلحاق الظلم بالنفس، مثل قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ}(1).
وقوله سبحانه: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ}(2).
وقوله عزّ وجلّ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}(3).
إذاً، كلّ من مارس الظلم بحقّ نفسه أو حقّ غيره فهو في نظر القرآن الكريم ظالم، وكلّ ظالم هو بعيد عن نيل عهد اللّه {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
____________
1- النساء (4): 110.
2- الكهف (18): 35.
3- البقرة (2): 54.
بقي في متناول الإمامة مَن لم يجترح عمليّة ظلم في حياته كلّها، وهم المعصومون طبعاً.
يقول العلاّمة الطباطبائي ـ صاحب تفسير الميزان ـ نقلاً عن أحد أساتذته حول طلب إبراهيم (عليه السلام) الإمامة لذريّته:
"إنّ مآل هذه الذريّة من حيث صلاحها وفسادها ينتهي إلى الفرضيّات التالية:
الأُولى: أن نفترض أنّ هذه الذريّة ظالمة على الدوام من أوّل عمرها إلى آخره.
الثانية: أن نفترض أنّها كانت ظالمة في أوّل عمرها ثمّ آلت إلى الصلاح آخر العمر.
الثالثة: أن تكون صالحة أوّل عمرها ثمّ آلت إلى الظلم بعد ذلك.
الرابعة: أنّها لم تكن ظالمة في أيّ وقت من الأوقات".
ثمّ يقول:
"من المحال أن يطلب إبراهيم (عليه السلام) الإمامة ـ وهي بهذا الشأن العظيم حيث وهبت إليه بعد النبوّة والرسالة ـ لمن كان ظالماً من ذريّته من أوّل حياته إلى آخرها.
كما من المحال أن يسألها لمن كان من ذريّته صالحاً في مبدأ حياته ثمّ آل إلى الظلم آخر عمره.
تبقى إذاً من ذريّة إبراهيم (عليه السلام) فئتان:
الأُولى: التي لزمت الصلاح من أوّل عمرها وبقيت على ذلك.
الثانية: التي كانت ظالمة في أوّل عمرها ثمّ آلت إلى الصلاح.
لكنّ الآية أخرجت الظالمين عن نطاق الإمامة بشكل مطلق ولم تحده ـ أي الظلم ـ بزمان دون آخر، وهو قيد تخرج فيه جميع الفئات من ذريّة إبراهيم (عليه السلام)، عدا الفئة التي لزمت الصلاح وعاشت العصمة منذ أوّل حياتها إلى نهايتها"(1).
نستنتج من كلّ هذا أنّ العصمة ـ والتي لا يرى الكثيرون ضرورتها ـ إنّما هي الشرط الأساسي لنيل الإمامة.
الإمامة عهد اللّه:
صغيرة في لفظها...
كبيرة في مدلولها...
فما معنى أن تنال الإمامة وتصير إماماً؟
معناه أن ينالك عهد اللّه، معناه أن تعيش مع اللّه وللّه; لتبلغ حدّاً يطلق عليك فيه مصطلح (الإنسان الكامل).
وتكون قائداً وأُسوة للبشريّة جمعاء في عقيدتك... وتفكيرك... وجميع تحرّكاتك...
فهل تستطيع؟
____________
1- الميزان في تفسير القرآن 1: 274، والنقل بالمعنى.
لو اطّلعنا على سِيَر جميع القادة والحاكمين والرؤساء والمشايخ و... و... فضلاً عن الناس العاديين، لوجدناها لا تخلو من عمل يتعارض مع الأوامر والتوجيهات الإلهيّة، بغض النظر عن كون هذا العمل كبيراً أو صغيراً، هذا إن لم يعمل بعضهم عكسها متعمداً!
إلاّ من وقع عليه الاختيار الإلهيّ، وحمّله مسؤوليّة قيادة مسيرة البشر، فهؤلاء وما أدراك ما هؤلاء؟!
هؤلاء هم القادة الربّانيون والزعماء الإلهيّون، سفراء اللّه في أرضه وحججه على خلقه.
هؤلاء هم الذين عبدوا اللّه حقّ عبادته، وأطاعوه ولم يعصوه طرفة عين، حيث عاشوا العصمة بأسمى معانيها وأبهى تجلّياتها.
كيف لا، وهم الذين نالهم عهد اللّه ـ الامامة ـ بمعناه القيادي الشامل دون غيرهم؟!
في الحقيقة إنّ ما نريد قوله: إنّ اختيار الإمام أمر محصور بالإرادة والقدرة الإلهيّة وحسب; لأنّ البشر غير قادرين على اختيار الأفضل والأجدر لهذا المنصب، وذلك لسطحيّتهم وعدم قدرتهم على الاطلاّع على ضمائر وسرائر بعضهم، إلاّ أن يحدّده اللّه ويعيّنه بذاته.
وما يدلّنا على ذلك في الآية جواب الباري عزّ وجلّ عندما سأله إبراهيم (عليه السلام) الإمامة لذريّته، فقد اقترن الجواب بضمير ياء المتكلّم
في كلمة (عهدي) حين قال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، الأمر الذي يعني تخصّصها وانحصارها باللّه سبحانه، فلم يقل (عهدكم) مثلاً، أو (عهد البشر)، بل قال: (عهدي) أي عهدي وحسب.
فالإمامة إذاً عهد اللّه ولا شأن لغير اللّه فيها.
وآية أُخرى...
يقول اللّه تعالى حاكياً طلب موسى (عليه السلام): {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}(1).
لمّا أمر اللّه سبحانه كليمه موسى (عليه السلام) بالذهاب إلى فرعون الطاغي، لم يتردّد موسى (عليه السلام)، ولكنّه شعر بالحاجة إلى مساعد وموآزر وشريك ليسانده في أمره، فتوجّه إلى ربّه في طلبه:
{وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي}.
ثمّ يأتيه جواب ربّه: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}(2)، ولم يأمره أن يتشاور مع أصحابه وأتباعه ليختاروا وزيراً وشريكاً له من بينهم.
____________
1- طه (20): 29 ـ 31.
2- طه (20): 36.
الفصل الثالث
إمامة أهل البيت (عليهم السلام) في السنّة
من وحي السنّة:
السنّة: هي قول المعصوم وفعله وتقريره:
وبما أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو مبلّغ القرآن، وسنّته تشرح القرآن، فلابدّ أن يكونا متطابقين تماماً إلاّ من جهة الإجمال والتفصيل.
إذ أنّ القرآن يضمّ كلّ التعاليم والقوانين الإسلاميّة مجملةً، لتأخذ السنّة دورها في شرحه وتبيانه دون زيادة أو نقصان، يقول سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى}(1).
وبهذا تكون السنّة معصومة كما القرآن، هذا في عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولكن، هل بقيت السنّة على عصمتها؟
بالطبع لا، وأقوى دليل على ذلك ما نصطدم به من أحاديث متناقضة وموضوعة!
وكفى بحديث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهداً على ذلك إذ قال:
"أيّها الناس...
ستكثر عليّ الكذّابة..
____________
1- النجم (53): 3 ـ 4.
فمن كذب عليّ متعمداً..
فليتبوأ مقعده من النار"(1).
والسؤال هنا:
هل كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم ويؤكّد أنّ سنّته ستطولها أيدي التحريف والتزييف، ولم يخطّط لحفظها؟!
وهو الذي كان لا يخرج من المدينة إلاّ أن يعيّن خليفةً ريثما يعود!
فكيف إذا كان الخروج أبديّاً، حيث لا رجعة؟
كيف لنا أن نصدّق أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو الإنسان العاقل الحكيم الأوّل في البشريّة، أنّه يترك أُمّته هكذا هملاً، لاسيّما أنّهم كانوا حديثي عهد بالجاهليّة، وخطر العدوان الثلاثي (الروم، الفرس، والمنافقين) لا زال محدقاً بالإسلام، يتربّص سنوح الفرصة ليصبّ حقده عليه، ويهدم هذا الصرح العظيم!
بلى، لقد خطّط رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لحفظ أُمّته التي طالما عانى وجاهد من أجل بنائها بناءً إسلاميّاً على قواعد متينة وثابتة.
وذلك يكون من خلال تعيين الخليفة والقائد الذي يكون حريصاً
____________
1- مسند أحمد 1: 78، في مسند علي بن أبي طالب (عليه السلام)، صحيح البخاري 2: 81، باب ما يكره من النياحة على الميت، المستدرك على الصحيحين 3: 262.
على الإسلام كحرص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخليقاً به كي يستطيع أن يملأ الفراغ الذي تركه رسول اللّه بعد رحيله.
وبالفعل، فقد عمل الرسول ذلك، وعيّن خليفةً ضمن أحاديث بيّنها في مواقع وظروف مختلفة نذكر منها:
أوّلاً: حديث الثقلين
إنّ حديث الثقلين من أكثر الأحاديث النبويّة شهرةً وأقواها سنداً، وقد ورد هذا الحديث في مصادر متعدّدة وبتعابير مختلفة، إلاّ أنّها متّحدة المضمون.
أمّا نصّه فالتالي:
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّي تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، كتاب اللّه... وعترتي أهل بيتي ولقد أنبأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"(1).
____________
1- مسند أحمد 3: 14 و17 و26 و59، في مسند أبي سعيد الخدري، صحيح مسلم 7: 123، باب من فضائل علي (عليه السلام)، سنن الترمذي 5: 327، حديث 3874.
أضواء على الحديث:
1 ـ "إنّي تاركٌ فيكم الثقلين".
إنّ هذه العبارة تبيّن شعور النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بدنوّ أجله، لذلك فقد قال هذا الحديث ليكون بمثابة وصيّة من نبيّ الرحمة إلى المسلمين، تضمن لهم كلّ الخير والصلاح من بعده.
2 ـ "ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً".
أمّا في هذه العبارة فقد بيّن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ التمسّك بهذين الثقلين هو شرط لعدم الضلال على مدى الزمان.
3 ـ "ولقد أنبأني اللطيف الخبير".
وأيّ نبأ أصدق من نبأ اللطيف الخبير عالم الغيب؟
4 ـ "أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".
أي أنّهما متلازمان لا ينفكان، في كلّ زمان ومكان، وتحت أيّ ظرف، وفي أيّ موقع إلى أن يردا على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحوضَ يوم القيامة.
عصمة الثقلين:
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيم حَمِيد}(1).
____________
1- فصّلت (41): 41 ـ 42.
إنّ هذه الآية وغيرها تدلّ على عصمة القرآن الكريم، وصيانة اللّه المطلقة له.
وفي المقابل يقول رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث السابق: "كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي"، فقد قرن الرسول عترته بكتاب اللّه المعصوم، كما أكّد على تلازمهما واستحالة افتراقهما في قوله: "أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض" وهذا دليل على العصمة المطلقة لعترة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم); لاقترانهم بالقرآن الكريم.
وذلك أنّ أيّ مخالفة لأحكام القرآن يعدّ افتراقاً وابتعاداً عنه، ولكنّ الرسول بيّن تلازمهما بشكل مطلق.
فلو جاز الخطأ منهم لما صحّ الأمر بالتمسّك بهم إلى جانب القرآن الكريم، ولعدَّ إخبار النبيّ عن عدم افتراقهما كذباً ورجماً بالغيب، وأعوذ باللّه من هذا القول.
إنّ حديث الثقلين إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أحقيّة أهل البيت (عليهم السلام) في قيادة الأُمّة الإسلاميّة وخلافة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ذلك أنّهم يتمتّعون بصفة العصمة التي لم يبلغها أحدٌ من أتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سواهم وإن بلغ الغاية من الإيمان والصلاح.
فكيف يصحّ تقديم المفضول على الفاضل؟
أجبْ باللّه عليك!
ثانياً: حديث الغدير
في كلّ عام، وفي الثامن عشر من ذي الحجّة، يحتفل الشيعة بعيد اسمه (عيد الغدير).
حيث يقيمون الاحتفالات، ويتبادلون التهاني، بمجرّد حلول هذا العيد.
فما قصته؟
ومن أين جاءت تسميته؟
في السنّة الأخيرة من عمر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان قد نوى الذهاب إلى الحجّ ولآخر مرّة في حياته، حيث سمّيت هذه الحجّة بحجّة الوداع، وأدّى انتشار هذا الخبر إلى توافد الناس من مختلف البلدان إلى المدينة المنوّرة ليحصلوا على شرف الخروج مع رسول اللّه والمشاركة معه (صلى الله عليه وآله وسلم).
في الطريق:
بعد أن أنهى النبيّ ومن معه جميع مناسك الحجّ، وفي طريق العودة في مكان يُدعى (غدير خمّ)، وتحت أشعة الشمس المحرقة وفوق الرمال اللاهبة، نزل الأمين جبريل (عليه السلام) على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الآية: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ
وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(1).
عندها توقّف الرسول عن المسير في تلك الأرض الجدباء، وأمر من تأخّر عنه فليلحق به، ومن تقدّم فليرجع إليه، حتى اجتمع الناس في مكان واحد، فأدركتهم صلاة الظهر فصلّوها، ثمّ أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تُوضع أقتاب الإبل فوق بعضها حتى صارت كالمنبر، فصعد الرسول عليها خطيباً بالناس، بكلماته العذبة الصادقة، وبصوته الذي ملأ الصحراء فسمعه القاصي والداني.
ماذا قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
بدأ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خطبته كعادته بحمد اللّه والثناء عليه، ثمّ أخذ يُعدّ الناس إعداداً روحيّاً لتقبّل خبر مهم للغاية، وكان من جملة ما قال:
"أيّها الناس...
يوشك أن أُدعى فأُجيب، وأنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون"؟
فتعالت الأصوات من كلّ جانب: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجاهدت فجزاك اللّه خيرا...
ثمّ أخذ يُذكّر بأُصول الدين، قال:
____________
1- المائدة (5): 67.
"ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ، وناره حقّ، وأنّ الموت حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللّه يبعث من في القبور"؟
قالوا: بلى نشهد.
فقال: "اللهمّ اشهد"، ثمّ قرأ الآية التي نزلت عليه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}.
ثمّ أخذ بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام) ورفعها حتى رأى الناس بياض إبطيهما، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "أيها الناس...
من أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟
قالوا: اللّه ورسوله أعلم.
قال: "إنّ اللّه مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم...
فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه"، قالها ثلاثاً "اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وابغض من بغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدرِ الحقّ معه حيثما دار، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب".
ثمّ لم يتفرّقوا حتى نزلت هذه الآية:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلاَمَ دِيناً}(1).
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "اللّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي والولاية لعليّ من بعدي".
ثمّ أمر القوم بأن يسلّموا على عليّ (عليه السلام) بإمرة المؤمنين، وكان في مقدّمة من هنّأه وبايع على هذا المنصب الشيخان (أبو بكر، وعمر بن الخطّاب) حيث قالا له:
بخ، بخ يابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة، فقال ابن عباس: وجبت واللّه في أعناق القوم.
ثمّ استأذن الشاعر حسّان بن ثابت رسولَ اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول أبياتاً يسمعهن في هذه المناسبة، فقال له الرسول: "قل على بركة اللّه"، فأنشأ حسّان يقول:
يُناديهم يـوم الغدير نبيّهم
وقال فمن مَولاكم ووليّكم(بـخمّ) فـاسـمع بالنـبيّ مـناديا
إلهك مولانا وأنـت وليّنافقـالوا ولـم يـبدوا هناك التعاميا
فقال له: قُمْ يا عليّ فإنّنيولا تجدنّ في الخلق للأمر عاصيا
فمن كنتُ مولاه فهذا وليّهرضيـتك مـن بعدي إماماً وهاديا
فكونوا لـه أنصار صدق مواليا(2)
____________
1- المائدة (5): 3.
2- راجع الغدير للعلاّمة الأميني 1: 10 ـ 11.
موضع اختلاف:
لقد بلغ حديث الغدير حدّ التواتر، حيث رواه ما يقارب الـ (110) صحابي، و(89) تابعي، و(350) عالم ومحدّث(1).
ممّا لا يدع أيّ شكّ في صحّة هذا الحديث، ولكن الاختلاف وقع في المقصود من كلمة (مولى) في قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "من كنت مولاه فعليّ مولاه".
فمنهم من قال: إنّ المراد بها فقط معنى (المحبّ والناظر)!
ومنهم من أعطاها مفهوماً أعمّ وأشمل، أي معنى (الأولويّة في التصرّف).
فلنرَ أيّ المعنيين هو الصواب.
شهادة القرائن:
إنّ في حديث الغدير مجموعة من القرائن تدلّ على أنّ المراد من كلمة (مولى) في قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المعنى الثاني، أي الأولويّة في التصرّف والقيادة والرئاسة العامة.
ومن هذه القرائن:
1 ـ عندما بدأ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خطبته بدأها بالتركيز بأُصول الدين الثلاثة وهي:
____________
1- انظر الغدير للعلاّمة الأميني 1: 14 ـ 151.
التوحيد حين قال: "ألستم تشهدون أنّه لا إله إلاّ اللّه".
والنبوّة حين قال: "وأنّ محمّداً عبده ورسوله".
والمعاد حين قال: "أنّ جنّته حقّ، وناره حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها...".
فقد أراد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُضيف إلى هذه الأُصول أصلاً رابعاً أيضاً، وهو الإمامة، إمامة علي (عليه السلام)، إذ قال: "إنّي مسؤول وأنتم مسؤولون".
2 ـ قبل أن يذكّر (صلى الله عليه وآله وسلم) نعى نفسه للمسلمين، فقال: "أيّها الناس، يوشك أن أُدعى فأُجيب..." ممّا يدلّ على أنّ هناك أمراً هامّاً يجب أن يبلّغه قبل رحيله، وهو بلا شكّ أمر قيادة المسلمين التي أوكلها إلى علي (عليه السلام) من بعده.
3 ـ قبل أن يعلن (صلى الله عليه وآله وسلم) إمامة علي (عليه السلام) ذكّر بولاية اللّه وولايته على المؤمنين، إذ أنّهما أولى منهم بأنفسهم، فقد قال: "اللّه مولاي، وإنّي مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم" ثمّ أعلن ولاية علي (عليه السلام)، الأمر الذي دلّ على أنّ الإمام علي (عليه السلام) له الولاية ذاتها التي كانت لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على المسلمين، حيث قال الرسول: "من كنت مولاه فعليّ مولاه"، ثمّ دعا ربه: "اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله...".
4 ـ كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حريصاً على أن يصل هذا الخبر إلى
جميع الناس، فأمر الحاضرين أن ينقلوا هذا الحادثة إلى الغائبين، فقال: "ألا فليبلغ الشاهدُ الغائبَ".
دلالة الآيات:
لقد أسلفنا الذكر بأنّ هناك آيتين نزلتا في هذه الواقعة هما آية التبليغ، وآية إكمال الدين.
وكلا هاتين الآيتين تكتنف قرينة تدلّ على أنّ المراد من كلمة (مولى) الأولويّة بالتصرّف والقيادة.
1 ـ آية التبليغ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(1).
فما هذا الشيء الذي أُنزل على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي يساوي كلّ ما جاء به وعاناه منذ بداية البعثة، بحيث إن كتمه فكأنّه لم يأتِ بشيء؟
بالتأكيد هو ليس إظهار محبّة ونصرة علي (عليه السلام) والأمر بهما; لأنّ وجوب محبّة جميع المؤمنين ونصرتهم أمر مفروغ منه.
إنّما هو التبليغ بإمامته (عليه السلام) وأهليّته لهذا المنصب.
2 ـ آية إكمال الدين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
____________
1- المائدة (5): 65.
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(1).
إنّ نزول هذه الآية بعد تبليغ ما أمر به رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يدلّ على عظمة هذا البلاغ وأهميّته، فبه اكتمل الدين وتمّت النعمة ورضي اللّه الإسلام للمسلمين ديناً.
ولا يعقل أن يكون هذا الأمر وهو بهذه الأهميّة مجرّد ذكر محبّة عليّ ونصرته (عليه السلام).
ثمّ لماذا عليّ بالذات، مع أنّ الرسول لم يأل جهداً في التذكير والحثّ على محبّة المسلمين بعضهم لبعض في كلّ موقع؟
وأخيراً نقول:
لقد قدّمنا من القرائن والشواهد ما يكفي لإثبات أنّ معنى كلمة (مولى) في إبلاغ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الأولى بالتصرّف والقيادة، وليس مجرّد المحبّة والنصرة، وإن كانت تأتي بهذا المعنى ولكن في مواضع أُخرى.
وإليك ـ أيها القارئ الكريم ـ يعود الحكم.
____________
1- المائدة (5): 3.
الفصل الرابع
إمامة أهل البيت (عليهم السلام) في العقل
الإمامة في العقل:
الإنسان...
هذا المخلوق العجيب...
الذي أكرمه اللّه بأن أودع في فطرته كلّ مقوّمات الكمال، وأرشده إلى طريق السعادة.
ومن جهة أُخرى بصّره بأعدائه على طول مسيرته إلى الكمال، والتي من ألدّها ما انطوى عليه كيانه من غرائز وأهواء.
حيث تحوّل دون وصوله إلى غاية وجوده، وكيف سيصل وأعين الضلال والشرّ تتربّصان به؟
من هنا، نشأت ضرورة البعثة، والحاجة إلى الرسل.
لأنّ الإنسان مع ما يحيط به من أخطار، وبالأخصّ نفسه الأمارة بالسوء، لا يستطيع أن يصل إلى هدفه لوحده، إلاّ أن يمدّه اللّه عزّ وجلّ بمن يأخذ بيده ويرشده إلى الطريق الصحيح، وهم الأنبياء والرسل (صلوات اللّه وسلامه عليهم)، وهذه إحدى وسائل الهداية الإلهيّة إلى الكمال.
فيكون الأنبياء والرسل في هذه الحالة ممثّلي اللّه في أرضه وحججه على خلقه، ولهذا فيجب أن لا تخلو الأرض من المرشد الحجّة.
ولكن نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان خاتم الأنبياء، حيث انتقل إلى الرفيق الأعلى سنة 11 هـ.
كان يهدي الناس إلى صلاحهم...
يُبلّغهم أحكام اللّه...
يُبشّرهم بالجنّة...
ويُنذرهم من النار...
وبوفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) توقّف كلّ هذا.
وانقطع الوحي.
وجفّ نبع العطاء المتدفّق.
الذي طالما أفاض وأجاد على البشريّة.
ونهض بها إلى قمّة الطهارة والنبل.
وهنا لنا أن نتساءل:
ماذا بشأن الأُمّة من بعده (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
أليست بحاجة إلى الخليفة القائد; ليملأ الثغرات التي تولّدت عن فقد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأُمّته لا تزال حديثة عهد بالتحرّر من الجاهلية؟
أليست بحاجة إلى مَن يصون ويحفظ هذا الصرح الإسلامي العظيم، الذي أفنى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في تشييده وبنائه عمره كلّه؟
بلى واللّه... ولكن ليس أيّ قائد ولا أيّ خليفة.
إنّما القائد الذي يختاره رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر من ربّه سبحانه; لأنّ {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(1).
إذ أنّ تعيين القائد والخليفة أمرٌ يختصّ بالذات الإلهيّة المقدّسة وحسب; لأنّ اللّه وحده مطّلع على الضمائر والسرائر، والأعلم بمستوى تقوى وقابليّة هذا القائد.
أمّا نحن البشر، فلا يحقّ لنا أن نختار خليفةً; لأنّنا غير مطّلعين على ما تكنّه صدورهم، إنّما لنا الظاهر وحسب، وشتّان ما بين الظاهر والباطن!
ومن جهة أُخرى فإنّ الخليفة المختار، لابدّ أن يعمل على مل الفراغ الذي تركه رسول اللّه، ولهذا فلابدّ أن يتمتّع بكلّ ما كان يتمتّع به رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ عدا الوحي طبعاً ـ ولا سيّما ملكة العصمة.
فإن لم يكن هذا الخليفة معصوماً، فإنّنا نحتمل وقوعه في أيّ وقت في المعصيّة، وإن وقع قائدنا في معصية فأمامنا خياران:
الأوّل: أن نتّبعه.
الثاني: أن لا نتّبعه.
____________
1- الأنعام (6): 124.
فإن اتّبعناه على معصيّته فقد جوّزنا فعل المعصيّة بأمر من اللّه تعالى; لأنّه أمرنا بطاعة أُولي الأمر.
وإن لم نتّبعه، فقد ذهب معنى القيادة; لأنّها فقدت أهمّ عنصر وهو الطاعة والاتّباع.
فلم يبقَ أمامنا إلاّ القول بوجوب عصمة الخليفة الذي سيقود مسيرة الأُمّة من بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) دون أيّ خلل أو اضطراب.
أمّا العصمة، فلم تثبت لأحد من بعد رسول اللّه، إلاّ لأهل بيته (عليهم السلام) بشهادة القرآن والسنّة والتاريخ.
وبهذا يكون أهل البيت (عليهم السلام) هم الخلفاء والأئمة الذين فرض اللّه إمامتهم وطاعتهم على لسان نبيّه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث ثبتت أفضليّتهم نقلاً وعقلاً.
وأخيراً:
إنّ آخر ما أودّ قوله في نهاية المطاف: إنّ ما كتبته هنا هو ليس من نتاجي الخاصّ، بل إنّه مجرّد ملخّص لما درسته وبحثته واقتنعت به من أصل الإمامة.
كما أتوجّه إلى الأخ القارىء الذي اعترضته أيّ ملاحظة أو تعليق خلال مطالعته لهذا الكتيّب أن يتفضّل به علينا، علّنا نصل سويّة إلى خدمة الحقّ وأهله.
وكما قال الإمام الصادق (عليه السلام): "أحبّ إخواني إليّ من أهدى إليّ عيوبي"(1).
والحمد للّه رب العالمين...
____________
1- الكافي 2: 639، حديث 5، باب من يجب مصادقته ومصاحبته.
تم خدف المصادر ومحتفظ بها لمن يطلبهامصادر الكتاب
الموضوع منقول بتصرف الكاتب امثتال الحبس