تعجبني من أقوال علماء الأمة الإسلامية في الوطنية ما قاله الشيخ الرئيس (رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) عبد الحميد بن باديس (1889ـ1940) في مقال نشر له في رجب 1356هـ الموافق سبتمبر 1937م، قال فيه:” من نواميس الخلقة حب الذات للمحافظة على البقاء، وفي البقاء عمارة الكون، فكل ما تشعر النفس بالحاجة إليه في بقائها فهو حبيب إليها، فالإنسان من طفولته يحب بيته وأهل بيته لما يرى من حاجته إليهم واستمداد بقائه منهم، وما البيت إلاّ الوطن الصغير”، ثم يبدأ بتوسيع الفكرة مع تقدّم العمر، فيذكر أن الإنسان” إذا تقدّم شيئا في سنّه اتّسع أفق حبّه، وأخذت تتّسع بقدر ذلك دائرة وطنه، فإذا دخل ميدان الحياة وعرف الذين يماثلونه في ماضيه وحاضره وما ينظر إليه في مستقبله، ووجد فيهم صورته بلسانه ووجدانه وأخلاقه ونوازعه ومنازعه- شعر نحوهم من الحب بمثل ما كان يشعر به لأهل بيته في طفولته لما فيه- كما تقدم- من غريزة حب الذات وطلب البقاء، وهؤلاء هم أهل وطنه الكبير، ومحبته لهم في العرف العام هي الوطنية”، وبمجرد تغذيته بالعلم الصحيح، يشعر بالحب لكلّ من يجد فيهم صورته الإنسانية، وكانت الأرض كلّها وطنا له، وهذا هو وطنه الأكبر، لهذا فالإنسان المرء مهما كان مذهبه وحركته، محب لذاته ووطنه وبني جلدته، ولا يشكك في ذلك عاقل، والمشكك في وطنية غيره، يريد أن يُفهم الناس الوطنية على وفق ما يحلو له، أي يريد أن يجعل حب الوطن آلة للفرز بالمقاول من الأقوال لا بالمقاول من المقاولة أي التعهّد والعمل الفعلي بالبذل للوطن، فالوطن عندهم محبوب بقدر ما تسلب منه مقدّراته لأشخاصهم أو عصبهم، حتى وإن كان الأمر على حساب الوطن نفسه، هؤلاء الذين يحبون الوطن بقدر ما ينالون منه العِوَض لا بقدر ما يبذلون له، هؤلاء عُبّاد ذواتهم بعنوان البذل للوطن، مثلهم كمثل شخص شعبي يساري اجتماعي يقبل أن ترهن مقدّرات الشعب على حساب الزحام السياسي أو الفصيل السياسي المنافس، فهؤلاء محبّون لذواتهم لا لأوطانهم، وهؤلاء لا يختلفون عن من يرضى بالحرية إذا أوصلته للحكم، ولكن يرفضها إن لم تصل به إلى الحكم، وارتضى هذا النمط من البشر أن يعود الاستبداد والاستعباد على حرية لا تنيله مرغوبه، هكذا شأن الناس مع “الوطن والوطنية”.
والإسلام دين الفطرة يخاطب الإنسان في فطرته، التي من مقتضياتها كما ذكرنا سالفا أن يحب المرء أهله وعشيرته وقومه ووطنه، فلا يمكن أن يكون الإسلام مصدرا لعدم حبّ الوطن فضلا عن بغضه وبغض أهله، لهذا فالمسلم وطني بكل معاني الوطنية ومستوياتها، مصلح لوطنه الأصغر الذي هو نفسه وروحه وقلبه، ووطنه الصغير الذي هو أسرته ومجتمعه، ووطنه الكبير الذي هو قومه وبلده، ووطنه الأكبر الذي هو الإنسانية، فيحب كلّ من اشترك معه فيها وعامله بمقتضاها، ويكره كلّ من مال عن التعامل معه بمقتضاها، والإسلام يجعل الناجح في الوطن الأصغر مهيّأً للنجاح في الوطن الصغير، ومن كان هذا شأنه فهو مؤهّل ليكون من بناة الوطن الكبير الذي نعرفه في أدبياتنا بالوطن، فيعمل بأريحية وتمام الرضا على خدمة مجتمعه الصغير والكبير والأكبر، لهذا لا يتصوّر إسلام بلا وطن، أو بلا وطنية لأنّها فطرة بشرية لا يميل عنها إلاّ من فقد فطرته السوية، او كان صاحب وعي مزيّف.
هذه المقدّمة المنهجية تحيلنا على ما ورد على لسان منفّذ الانقلاب على إرادة الشعب في مصر مع جريدة الواشنطن بوست، حيث رمى جماعة الإخوان المسلمين، بعدم الإخلاص للوطن والقوم، والإخلاص للعقيدة الإسلامية، وفي الحوار توظيف لما جادت به قرائح “الإخوة” الإماراتيين في موقفهم من الجماعة نفسها، وفيه أيضا استجداء للغرب من باب خفي، مفاده أنّ هؤلاء خطر على السلام العالمي، لأنّ حضورهم واسع في العالم، وفي ذلك تحريض للأجنبي على الوطني، فأي وطنية بقيت بعد تحريض الأجنبي على أهلك؟، والتحريض على استقواء بالأجنبي على أهل الدار، ليس جديدا، فكلّ المجموعات الفاشلة سياسيا هذا مسلكها منذ أبد الآبدين إلى يوم الناس هذا، ومن قَبِل بهذا الدور، فقد وافق التحليل والدور التشويهي الإسرائيلي” عدو العرب الاستراتيجي”- وبالتالي الإمارات- والولايات المتحدة ويخدم إيران عدوهم “العقدي”، كأنّ الإمارات والسعودية جمعيات خيرية، وليست دولا لها خططها ومصالحها، وإغداق الأموال الخليجية على المصريين في الوضع الحالي، يجعلنا نفكّر بجد في حقيقة هذه المعونات ومآلاتها.
أتساءل مع قادة المؤسسة العسكرية والأمنية بصفة عامة، وأُلْحِقُ بهم في المساءلة الوطنيين الشرفاء واليساريين النزهاء والديمقراطيين المخلصين لوطنهم ومجتمعهم، هل يعقل أنْ نراهن على التحرير والاستقلال واستعادة الاستقلال والوطن بالارتهان للأجنبي، حتى وإن كان هذا الأجنبي عربيا؟
عندما يراهن مشروع الثورة المعبّر عن الأغلبية الساحقة من الغلابة والمستضعفين على تفعيل الاستقلال الوطني التام، بينما يراهن مشروع الثورة المضادة على الإجهاز على الخصم السياسي الوطني ولو أفضى الأمر إلى تضييع الأمل في استقلال وطني تام، وإلاّ كيف نفسّر السكوت المطبق للتسرُّع المريب في وقف مشروع المستقبل المصري الزاهر بتنمية منطقة قناة السويس، وتسليمه لقمة سائغة لجمعية خيرية تسمى” الإمارات العربية المتّحدة” ومنحها حق امتياز أراضي المشروع، والواقع أنّ هذا يؤكّد ما قاله الأمريكي نعوم تشومسكي غير مرّة، حيث أكّد أن منطقة السويس تأسيس حقيق لاستقلال مصر، وتزاحم لموقعها المميّز موانئ دبي، بالتالي فالمشروع ليس إلاّ استحواذا على مشاريع الاستقلال والإبقاء على الارتهان للأجنبي، وهو ما يفسّر استعجال الإجهاز على المشروع، كما يؤكّد هو نفسه – وهذا مما كتبته قبل عشرية في غير ما موضع وفي أكثر من مناسبة- أنّ الولايات المتّحدة ضد الديمقراطية ما لم تكن وسيلة لوصول أتباعها ومريديها للحكم، أي مالم يكن المشروع السياسي الناجح مؤكّدا للتبعية مانعا من الاستقلال الحقيقي، أما إن وصل غيرهم فلا يهم بعدها إن قضي عليهم بالانقلابات الهمجية أو الناعمة وعاد الاستبداد والدولة البوليسية من جديد، لهذا فالولايات المتّحدة مصلحتها ومصلحة مدللها إسرائيل قبل كلّ شيء، ثم مصالح من توافقت مصالحهم مع مصالحها، وعلى رأسهم بعض الدول التي لا تفكّر في غير مصلحتها ومصالح الجهات المشوبهة المرتبطة بها من العرب وغيرهم، لهذا شجّعت المصريين بالتمويل للتقاتل بينهم، لأنّ القاتل مصري والمقتول مصري، ووفق التحليل الجهنمي- أسأل العلي القدير أن يحقن دماء أهلنا في مصر- إن نجح القسم الأول فلا مكان للآخر، والعكس صحيح أيضا، المهم بالنسبة إليهم أنْ يدخلوا الشعب المصري العظيم في دوامةٍ الرابح فيها خاسر بكلّ المعايير، ومن ثمّ يضيع مشروع الاستقلال الوطني الحقيقي كما أرادته ثورة 25 من يناير 2011، وامتداداته في ثورة مجابهة الثورة المضادة(30/06) ما بعد الانقلاب على إرادة الشعب المنبعثة من روح مشروع الاستقلال الوطني. وقد شغل الإعلام البلطجي الذي لا تهمه مصلحة مصر في شيء بقدر ما تهمّه الرشوة التي يتحصّل عليها من تذكية الصراعات في بلد أنهكه الفساد السياسي والمالي الذي تقوده جهات مشبوهة محلية وجهوية ودولية، إعلام يقوده الغربان فلا يقود المواطنين إلاّ إلى الجيف، للأسف الشديد.
وعندما تراهن الثورة المضادة على إعلام يشقى به المستمع، فكيف بمن أخذ برأيه وتحليله الجنوني، فهؤلاء لا يسعد بهم أهلهم، فكيف يسعد بهم غيرهم؟.
فهل تقبل قيادات المؤسسة العسكرية والأمنية والقضائية و… أن يقول عنهم أحفادهم إنّ أباءنا أجهضوا مشروع الاستقلال؟ ومالوا إلى استرضاء الأجنبي الغربي أو العربي على حساب استعادة الاستقلال؟ وقبلوا بأن يكون الإعلام محرّضا صريحا على القتل ومصدرا صافيا للإشاعات والكذب، إعلاميون هذا شأنهم يكون كلّ تشهير منهم بالآخر بمثابة إشهار له، لأنّ المجتمع يعلم يقينا أنّ هؤلاء لا يصدر عنهم الصدق بأي حال، فيقول عنكم أحفادكم إنّ أباءنا وأجدادنا شجّعوا إعلام البلطجية ويسّروا لهم السبيل لنشر الإشاعات القاتلة.
يظن بعض الذين استأمنهم الله على نعمة المال أنّ كلّ شيء للبيع من الأرض إلى العرض إلى الضمائر، لكنّهم نسوا أنّ المرء وإن باع أو قَبِل السوم في لحظة من لحظات الضعف، إلاّ أنّ الأوبة ممكنة، فيسقط مشروع شراء مصر من أهلها لصالح مشاريع مشبوهة تقيِّد مصر عِوَض أن تسمح بانطلاق الاستقلال الحقيقي.
مصر غنية بكفاءاتها العالية والغالية في كلّ المستويات وعلى جميع الصعد وفي كلّ الطبقات، مصر التي أبهرت العالم عبر مختلف المحطات التاريخية، ليس مستغربا عندنا أن تعود عن كبوة الانقلاب على الشرعية، من غير أن تتغوّل جهة على جهة، لأنّ مصر بحاجة إلى جميع أبنائها.
أيها المصريون أبعدوا الأجانب عنكم، وخاصة الذين يريدون أن يشتروا مصر بثمن بخس دراهم معدودة، وقولوا لهم مصر ليست للبيع، مصر متعاونة مع كلّ شريف يريد لها ولأهلها الخير، ومن أراد بها غير ذلك فمصر له بالمرصاد، ونتمنى أن يردد المصريون جميعا بكل مجموعاتهم السياسية والفكرية بيتين للشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس رحمه الله، قال فيهما:
من كان يبغي ودنا …. فعلى الكرامة والرحب
أو كـان يبغي ذلنا ….فله المهانة والحرب
لهذا كلّه فالمرابطون في رابعة العدوية ليسوا للشرعية حماة فقط، إنّهم حماة مصر وبناتها، إنّهم وغيرهم مؤسسون لاستقلالها الحقيقي، استقلالها من التبعية للخليج وغيره إذا نجحت مشاريعها التنموية، وخاصة مشروع تنمية قناة السويس بالمصريين وللمصريين وليس لغيرهم، مهما كان هذا الغير،
لهذا فأنتم بصمودكم، مُذَكِّرون للمنقلبين على الشرعية بحق مصر عليهم، كأنّكم تنادون فيهم، هل يجوز أن نُسْلم مصر لغير المصريين،؟ هل يحق أن نفرّط في الاستقلال الذي بدأت تباشيره بالظهور؟ هل يمكن أن نقبل أن يشهد علينا التاريخ بأننا فرّطنا في استقلال حقيقي وطني لمصر بسبب مناكفات وصراعات سياسية، فاثْبُتوا يا أهلنا فإنّكم على الربط، المرابطة دون استقلال مصر، استقلال يرتضيه شرفاء المصريين عبر التاريخ الماضي والحاضر والمستقبل، ويحفظه لكم الأبناء والأحفاد، فيصبح قصة بطولة تتناقلها الأجيال، وإنكم بهذه المرابطة تعيشون إما عيشة هنية أو موتة رضية، لأنّكم متّم دون مظلمة، وأي ظلم أكبر من ضياع استقلال الوطن، والوطن أمانة نُسْأَل عنها يوم القيامة، أخرج احمد في مسنده عن رسوله الله(صلى الله عليه وسلّم):”من قتل دون مظلمته فهو شهيد”
وبثباتكم يا أهلنا في ميادين الشرف السلمي، تدفعون محاولات خطف مصر من قبل أصحاب الأموال، وتردون سَوْمَهُم عليهم، وتضربون أموالهم على وجوههم، فينقلبوا خاسرين، وتعود مصر لأهلها سالمة غانمة، وقد استعادها أهلها من الذين ظنوا أنّ صفقة البيع قد تمّت، وبذلك تُفْرِحُون كلّ الأحرار وتغيظون كلّ العبيد، ويومئذ يفرح المصريون باستقلال وطنهم الاستقلال الحقيقي، لهذا فأنتم قد طوّرتم نضالكم من الشرعية إلى الاستقلال الوطني التام، وفي ذلك تنمية حقيقة لمعاني الانتماء للوطن، الانتماء الذي يشهد له البذل في شعاب الحياة، وليس من قبيل الكلام الذي يلاك هنا وهناك.
جامعة بن يوسف بن خده – الجزائر