فهذه الآيات تظهر مكانة هذه المرأة المباركة , فالله اصطفاها لا على نساء عصرها
فحسب بل على نساء العالمين جميعا .
ومن مكانة مريم عليها السلام أن الله ذكرها كثيراً في القرآن الكريم إذ ذكرها باسمها
الصريح أربعاً وثلاثين مرة ، دون أن يذكر غيرها من النساء باسمها الصريح ، بل
سمى القرآن الكريم سورة من سوره باسمها وهي المرأة الوحيدة التي سميت باسمها
سورة في القرآن الكريم ، وهذا دليل على عظم مكانتها وعلى صدق النبي محمد صلى
الله عليه وعلى آله إذ لو كان القرآن من عنده لتحدث عن بناته أو زوجاته ولسمى إحدى
السور باسم إحداهن .
وآيات القرآن الكريم وأحاديث السنة النبوية تنزه وتبرأ السيدة مريم من كل ما هو مشين
فهي الشريفة ألطاهرة العفيفة التي أحصنت فرجها وحافظت على عرضها وأطاعت ربها
فكانت من القانتين كما وصفها المولى بقوله
( وَمرْيم ابنة عِمران التِيْ أحصنت فَرْجَهَا
فَنَفَخْنَا فِيْهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ ) التحريم 12 .
ولبيان مكانتها في السنة النبوية ,
قال عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله :
( كَمُلَ من الرجال كثير ولم تَكْمُل من النساء إلا مريم ابنة عمران ، وآسية امرأة
فرعون ) ، وقال أيضاً عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى السلام :
( خير نسائها مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد ) .
ولقد مرت السيدة مريم بعدة محن وابتلاءات نوجزها حسبما
ذكرت في القرآن الكريم كما يلي :
- جاءت أنثى فيما ترجو أمها أن يكون مولودها ذكر{رب إني وضعتها أنثى والله أعلم
بما وضعت - وليس الذكر كالأنثى - وإني سميتها مريم ، وإني أعيذها بك وذريتها من
الشيطان الرجيم} وأوفت بنذرها كما اشترطته على الله: {رب أني نذرت لك ما في بطني
محرراً}!! وكان لا بد من الوفاء بالنذر .
مريم عليها السلام اليتيمة في بيت الله :
ولدت مريم عليها السلام يتيمة فآواها الله عند زوج خالتها - وزوج خالتها هو زكريا
وهو نبي قومه , وكان هذا من رحمة الله بمريم ، ورعايته لها ,
قال تعالى:
{فتقبلها ربها بقبول حسن ، وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا , وشبت مريم عليها
السلام وبيتها المسجد ، وخلوتها فيه ، ويلطف الله بها فيأتيها الطعام من الغيب وكلما
زارها زوج الخالة ، وجد عندها رزقاً ، وهو الذي يقوم بكفالتها فمن أين يأتيها شيء لم
يأت هو به ؟
ويقول لها: {يا مريم أنى لك هذا}
فتقول: {هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير
حساب}، ولم تكن في هذا في جنة قبل الجنة ، وإنما هو بلغة من الرزق يتحف الله به
أولياءه ، ويكرم به أهل طاعته إتحافاً وإكراماً إذا ضاق بهم الحال واشتد بهم الأمر ،
وتذكيراً لهم بأن الله لا يضيع أهله .
المحنة الكبرى لمريم عليها السلام :
كانت المحنة الكبرى لمريم عليها السلام أن يبشرها الله سبحانه وتعالى بولد منها وهي
غير ذات زوج
فقالت: {أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر} وحاولت دفع هذا عن
نفسها ، ولكن جاءها الأمر الإلهي: {كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس
ورحمة منا وكان أمراً مقضياً} .}
مريم تفر من المسجد خوفاً من الفضيحة والعار:
بعد أن رأت مريم عليها السلام حملها قد كبر ، وبعد أن خافت الفضيحة خرجت من
محرابها في بيت المقدس إلى مكان بعيد تتوارى فيه عن الأنظار ، وفي بيت لحم يلجئها
المخاض إلى جذع نخلة - وهي وحيدة غريبة - فتضع حملها ، ودموعها تملأ مآقيها ،
والهموم والآلام تلفها من كل جانب , هم الغربة والوحشة .
وعندما تجتمع كل هذه الهموم والمصاعب تتمنى أن تكون قد ماتت قبل هذا الامتحان!!
ولم تعش إلى هذه المحنة الشديدة
قالت: {يا ليتني مت قبل هذا، وكنت نسياً منسياً} .
والنسي في كلام العرب: الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ، فلا يتألم لفقده .
إن مع العسر يسرا:
وهنا تأتيها المعجزات بالجملة فهذا جدول ماء رقراق يفجره الله لها ، وهاهي تستطيع
وهي نفساء ضعيفة أن تهز جذع النخلة فيتساقط عليها الرطب جنيا ، وأما القوم وخوف
الفضيحة فالله يخبرها بأن تترك ذلك كله على الواحد القهار!! وعليها هي بالصوم عن
الكلام ، وسيتولى المولود الدفاع عنها ، وبيان المهمة التي أرسل بها
قال تعالى: {فأتت
به قومها تحمله ، قالوا يا مريم لقـد جئت شيئاً فرياً * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأً
سوء وما كانت أمك بغياً * فأشارت إليه ، قالـوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً}،
وهنا أنطقه الله ليبين لهم الآية في خلقه على هذا النحو وينشأ عيسى في قومه من بني
إسرائيل وبدلاً من أن يقابل اليهـود المعجزة بالإيمان والتصديق يقابلونها بالجحود
والنكران، ويتوجسون شراً من هذا المولود الذي تكلم في المهد .
الفوائد التربوية المستفادة من القصة:
- إن إفراد سورة من القرآن الكريم باسم مريم عليها السلام دليل واضح على صدق نبوة
محمد صلى الله عليه وعلى آله فلو كان من عنده لسمى بعض السور بأسماء نسائه أو
بناته .
- أمر الله إذا جاء لا مرد له نعرف ذلك من خلال أمر الله لمريم عليها السلام بأن تحمل
بعيسى
رغم محاولتها أن تدفع ذلك عن نفسها بقولها أنى يكون لي غلام
ولم يمسسني بشر .
- الله هو الرزاق فكما أن الله رزق مريم وهي في المحراب دون تدخل بشر فبيده سبحانه
مقاليد الأمور .
- وجوب الوفاء بالنذر وقد تبين لنا ذلك من خلال إشادة الله بأم مريم عليها السلام .
- بعد كل ضيقٍ مخرجاً وبعد كل كربٍ فرجاً وبعد كل عسرٍ يسراً شريطة التقوى (ومن
يتق الله يجعل له مخرجاً).
مأجورين