حكاية دخول اول مذياع للعراق عام 1936
في مساء يوم الاربعاء الاول من تموز عام 1936 ترك الكثير من سكان بغداد بيوتهم وتجمهروا في الساحات التي نصبت فيها اجهزة الراديو للاستماع والاطلاع على هذا الجهاز العجيب وهو يتحدث اول مرة بصوت عراقي . بعضهم لم يكن مصدقا ان هذا الصندوق الخشبي الانيق الذي يحتوي على بضعة ازرار عاجية ولوحة زجاجية مستطيلة تشع بلون اخضر باهت يتحرك فيها مؤشر احمر نحيف يمكن ان ينطق ويغني بمجرد تحريك هذا المؤشر فيأتيك باخبار الدنيا .. فكيف دخل هذا الجهاز العجيب الى بغداد .. في عام 1928 السيد عبد العزيز البغدادي صاحب شركة الدخان العراقي اراد ترويج بضاعته فاجرى مسابقة لنشرها في الصحف بقصد الدعاية لمنتجات شركته وجعل الجائزة الاولى جهاز مذياع ..
وكان المذياع يعد سلعة ثمينة وفريدة بمقياس ذلك الزمان وعلى الرغم من اننا لانعرف من صاحب الحظ السعيد الفائز بتلك الجائزة غير ان تلك الواقعة سجلت رسميا وشعبيا دخول المذياع أول مرة الى الشارع العراقي .
وفي عقد الثلاثينيات حيث بدأت بوادر الحداثة تاخذ طريقها الى الحياة العراقية المدنية انتشرت المقاهي بطريقة لافتة في مدن العراق الكبرى . وبدأت تلعب دورا ثقافيا تنويريا رائدا خاصة في بعض المقاهي الكبيرة في بغداد التي قامت بنصب محطات اذاعية (سلكية) لتبث الى روادها الاغاني والمقامات العراقية .. وكان صاحب المقهى ينصب جهاز راديو كبيراً في ركن المقهى ويوصله باسلاك الى الحاكي ( الغرامفون )الذي تذاع منه الاغاني و تراتيل القرآن الكريم المُسجلة في اسطوانات كبيرة .. كان اول مقهى انشأ هذا الاذاعة البسيطة يعود الى الحاج عبد العزيز الكائن في محلة الفضل الشهيرة الواقعة في جانب الرصافة ببغداد حدث ذلك عام 1932 تبعه بعد قليل من ذلك الحاج عبيد الذي انشا استوديو صوتيا في بيته الذي يجاور المقهى ثم اوصله بسلك الى الراديو الموجود في مقهاه الكائن على نهر دجلة .. وما تميز به الحاج عبيد على منافسه الحاج عبد العزيز انه كان يبث موسقى حية الى رواد مقهاه بعد ان استاجر فرقة موسيقية لهذا الغرض .
مقاهي اخرى طورت الفكرة وخاصة تلك الموجودة بالقرب من جامع الفضل بعد ان استأجر اصحابها تختا موسيقيا متكاملا متكاملا مؤلفة من فرقة وعازفين مع مطرب مقام اضافة الى منشد مدائح نبوية وقاموا بتوسيع البث السلكي ليغطي عددا من المقاهي في وقت واحد بينما كان عبد السلام العزاوي وزكي خطاب المحامي يتلوان ايات القران الكريم من هذه الاذاعة السلكية التي انشئت في عام 1933 و هكذا تطورت المحاولات وشملت اغلب المقاهي في بغداد وتعدت الظاهرة الى المدن الاخرى مثل البصرة والموصل .
اذاعة الزهور
في عام 1933 توفى اول ملوك العراق فيصل الاول وتوج ابنه الشاب غازي على العرش وكان عمر الملك الجديد 21 سنة فقط وكان عائدا للتو من لندن بعد ان تخرج في كلية (هارو) الانجليزية وكانت تستهوي غازي بعض ملامح الحضارة الغربية فقد كان يحب قيادة السيارات السريعة نوع (كوبيه) ولديه الاهتمام بالمخترعات الحديثة وخاصة بالراديو لذا جاء في مقدمة اولوياته انشاء اذاعة خاصة به وكان له ما اراد عندما انشأ في مطلع عام 1936 اول اذاعة لاسلكية وقد كلف احد المهندسين الاجانب بنصب جهاز ارسال بقدرة كيلوا واط واحد في القصر الملكي الذي يطلق عليه قصر الزهور . وقد اخذت الاذاعة اسم القصر وسميت اذاعة الزهور .الطريف في الامر ان الملك الشاب كان يعمل في اذاعته لوحده فهو يعد ويقدم البرامج والاغاني التي كان يؤديها المطربون في بث حي و مباشر وعلى الهواء لعدم وجود اجهزة التسجيل الصوتية ( الشريط ) حينها و من الذين ضيفهم في اذاعته المطرب المقامي الاول محمد القبانجي والمطرب الريفي اللامع حضيري ابو عزيز اضافة الى الاغاني استثمر الملك الاذاعة في القاء الخطب السياسية التي كان الملك من خلالها ايصال افكاره المعادية للانكليز الى الناس
. وبالفعل بدا يشن من اذاعته حملة شرسة ضدهم . ولم يكن الملك الشاب مدركا خطورة تصرفاته تلك بسبب قلة خبراته في السياسة والحياة . وكانت اذاعة الزهور تبث على الموجة المتوسطة ولاتسمع الا في مدينة بغداد وضواحيها ومن خلال عدد محدود من اجهزة الاستقبال وزعها على بعض الاماكن العامة في بغداد وعندما توفي الملك غازي في حادث السيارة ليلة 3 نيسان عام 1939 بظروف غامضة وتوقفت هذه الاذاعة عن العمل الى الابد.
هنا بغداد .
وبسبب انطلاق اذاعة الزهور المعادية للانكليز بدأت الحكومة العراقية بعد شهور بالتفكير جديا في انشاء اذاعة عراقية وتم لها ما ارادت في يوم الاربعاء الاول تموز 1936 . وكان اول صوت انطلق من اذاعة بغداد ليقول (هنا بغداد) هو صوت المذيع عبد الستار فوزي بعد ان افتتح وزير المعارف المحطة وكان اسمها الاذاعة اللاسلكية للحكومة العراقية . 1936 .واعدت الاذاعة لذلك اليوم برنامجا حافلا جاء فيه .
• في الساعة 6،30 مساء الافتتاح الرسمي للاذاعة من قبل وزير المعارف
• في الساعة السابعة تلاوة من القران الكريم للمقرىء عبد العزيز الحكيم
• نشرة الاخبار يقرأها ابراهيم حلمي العمر وكيل مدير الدعاية والنشر
• عزف على الكمان
• محاضرة عن مكافحة الامراض الشائعة للطبيب خليل افندي
• في الساعة 8،45 اسطوانتان شرقيتان واحدة لام كلثوم والثانية لمغنية تركية .
• في الساعة التاسعة امسية غنائية للمطربة سليمة مراد بمصاحبة فرقتها .
وكان للمطربة سليمة مراد الشرف في ان تكون اول مطربة تغني يوم الافتتاح وكان البث مباشراً ولمدة ثلاث ساعات ولثلاثة ايام في الاسبوع (السبت والاثنين
والخميس) بلبل الاذاعة الميكانيكي معظم العراقيين يعرفون بلبل الاذاعة ولصوته على سامعهم وقع خاص . اذ كانت الاذاعة العراقية تبدأ بثها التجريبي صباح كل يوم بصوت هذا البلبل الشهير الذي كان يغرد لمدة خمس دقائق يوميا قبل الافتتاح وقد تم استحداثه لضرورات ضبط مستوى الموجات الصوتية ولقياس اعلى وادنى ذبذبة صوتية ومازال حتى اليوم عندما تبدأ
الإذاعة العراقية بثها نسمع صوت البلبل وكانه اصبح شاعرا او بصمة تميز الإذاعة الرسمية العراقية عن سواها . لم يحصل أي تغيير في فترة الثلاثينيات في برامج الإذاعة التي كانت تتضمن تلاوة من القران الكريم ونشرة الاخبار ثم اغانٍ وبعض التمثيليات والمنولوجات والحفلات الموسيقية لفريق الاذاعة الذي يتكون من
صالح الكويتي (كمان) وابراهيم طفو (جلو ) وداود الكويتي (عود ) ويوسف زعرور (قانون)
وحسين عبد الله ( ايقاع ) ويعقوب مراد (الناي) .
برامج الاطفال كان لها حصة ايضا في برامج الاذاعة من تاسيسها وكان اول مقدم برامج اطفال الفنان كريم مجيد وكان نجما لامعا يعرفه كل الاطفال خاصة الذين
كانوا يملكون في بيوتهم راديو وكانت قصة عمو كريم وحكايته بهجة وسعادة للاطفال وللكبار ولكنه لم يستمر طويلا فحل مكانه عمو محجوب ثم تلاه الفنان المشهور عمو
زكي عام 1938 ولايمكن ان ننسى صوت رائد المونولوجات عزيز علي منذ افتتاح الاذاعة حيث كانت تتجمع النسوة والصغار في البيوت . اما في المقاهي فكان يتجمع
الرجال والاولاد وكلهم ينصتون لعزيز علي وصوته العذب وهو يقدم مونولوجاته الساخرة من الحكومة والانكليز والظواهر الاجتماعية التي كانت سائدة في المجتمع
فتتعالى الضحكات وتتردد الاحاديث والضحكات .
اما اول صوت نسائي يقول هنا بغداد فكان صوت المذيعة فكتوريا نعمان ثم تسابق اصوات المذيعين والمذيعات للفوز بمكريفون الاذاعة فبرز صوت الاذاعي الشهير يونس بحري وسلمان الصفواني وحسين وكاظم الحيدري . ومحمد عبد اللطيف وهؤلاء الجيل الاول من المذيعين الذين عملوا مقدمي فقرات البرامج اليومية وكان المذيع في العادة يعلن اسم المغني وكاتب الكلمات والملحن واسماء الموسيقيين جميعا ثم ينتظر صامتا حتى انتهاء الاغنية او الوصلة التي كانت تقدم على الهواء مباشرة لمدة لاتقل عن نصف ساعة ليعلن المذيع بعدها اسم مغنٍ اخر واسماء جوقته . ومع بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939 تحولت الى شعبة تابعة الى مديرية الدعاية والنشر التابعة لوزارة الداخلية وتغير اسمها الى الاذاعة اللاسلكية للحكومة العراقية وزيدت ساعات البث الى خمس ساعات وبدأت تعمل على مدار الاسبوع ولمدة ثلاثة ايام فقط .
وكان يعمل فيها يوميا خمسة مذيعين ونحو سبعة موسيقيين وفي عام 1943 اقترح حسين الرحال الذي كان يشغل منصب ملاحظ الاذاعة تشكيل فرقة مستقلة تختص باقامة حفلات موسيقية للإذاعة وتالفت فرقة اخوان الفن لهذا الغرض من سبعة فنانين برئاسة داود اكرم (الكمان )الياهو جوري (الكمان ) وسليم صيون كراكلي (الكمان) ومؤيد نقار عود ويوسف ربيع (جلو ) وموشي شماس (دف) .. ونذكر ان الاجور التي كانت تدفع للمطربين عن الحفلة الغنائية والواحدة تتراوح بين دينار ودينارين كما ان اول فرقة دخلت الى الاذاعة هي فرقة الفنان الرائد حقي الشبلي في منتصف الاربعينيات .. ثم اسس عبد الله العزاوي قسم التمثيليات واول فرقة للتمثيل عام 1948 ثم تلتها فرقة انوار الفن لتوماس حبيب وفي عام 1949 قدمت اول تمثيلية اذاعية باسم
مجنون ليلى باللغة العربية الفصحى باشراف الفنان عبد الله العزاوي ويوصف بانه اول من ابتدع هذا الفن من دون دراسة واطلاع على تجارب الاذاعات الاجنبية التي سبقتنا وبرز في تلك الايام الجيل الثاني من المذيعيين الذين عملوا في فترة الاربعينيات امثال ( وديع خوندة . نايف الشبلي وهو ابن الفنان حقي الشبلي .رؤوف توفيق وسعاد الهرمزي . ومشتاق طالب . والمذيعة فكتوريا نعمان . وعبد الحميد الدروبي . ومحمد علي كريم وناظم بطرس وصبيحة المدرس ) اما المذيعان يونس بحري وعبد اللطيف الكمالي فكانا من اوائل الاذاعيين العراقيين الذين سمعناهم يذيعون
من محطات الاذاعات الاوروبية وباللغة العربية وذلك في اثناء سنوات الحرب العالمية الثانية .. وقد اشتهر صوت يونس بحري من اذاعة برلين الالمانية في ايام هتلر .
تحياتي لكم .. واتمنى لكم الاستمتاع بهذه الحكاية التاريخية من بلاد الرافين