ليزر الذرة المفردة
نمط جديد من الليزرات التي تُسخِّر طاقة الذرات
المنفردة يُظهر كيفية تفاعل الضوء مع المادة.
أصبح الليزر أداة واسعة الانتشار في معظم مجالات الحياة منذ اختراعه قبل أربعين عاما، إذ يستعمل المدرسون والأدلاء السياحيون حزمته الرفيعة كمؤشر دقيق عند شرحهم موضوعا ما، كما يستعمل الباعة في الأسواق المركزية ليزرات قارئة لكودات السلع، ويستمتع عشاق الموسيقى، بفضل الليزرات المنمنمة، بتسجيلات عالية النوعية لأجهزة تشغيل الأقراص المدمجة. يستند عمل جميع هذه الليزرات إلى المبدأ نفسه الذي يتلخص في عمل عدد هائل من الذرات أو الجزيئات (التي يتراوح عددها ما بين عدة ملايين وعدة آلاف من الملايين) مع بعضها بعضا لإعطاء حزمة ضوئية شديدة وأحادية اللون. ومع هذا فقد طوَّرنا، حديثا، ليزرا يعمل بأقل عدد ممكن من الذرات: ذرة واحدة فقط!
إن ليزر الذرة المفردة single-atom laser لا يستطيع قراءة كودات السلع أو القرص المدمج، إذ لا تزيد طاقته على جزء من ترليون من الواط (للمقارنة فإن قدرة الليزرات المستخدمة في أجهزة تشغيل الأقراص المدمجة أكبر بملايين المرات من قدرة هذا الليزر)، لكن هذا الجهاز أثبت أهميته كأداة تجريبية، إذ إن لضوء ليزر الذرة المفردة خواص لا يمكن شرحها إلا بوساطة الميكانيك الكمومي (تلك النظرية التي تدرس التآثرات ضمن المستوى الذري وما دون الذري). وبتحليل أداء هذا الليزر تحت ظروف مختلفة يمكن للباحثين اختبار تنبؤات النظرية الكمومية والحصول على رؤى جديدة لطبيعة ضوء الليزر.
الليزر العادي
لكي نتفهم مبدأ عمل ليزر الذرة المفردة ينبغي لنا أولا فهم كيفية عمل الليزرات العادية (التقليدية). يحتوي كل ليزر على مكونين أساسيين، المجاوب الضوئي الذي يتألف عادة من مرآتين موضوعتين بحيث تعكسان الضوء بينهما جيئة وذهابا، والوسط الليزري الذي يوضع بين المرآتين ليولد الضوء ويضخمه. ففي ليزر الهليوم ـ نيون مثلا يكون هذا الوسط غازيا، أما في ليزر النيوديميوم-ياگ Nd-YAG فيتألف الوسط من أيونات النيوديميوم المطمورة في بلورة عقيق الأليتريوم والألمنيوم، والذرات أو الجزيئات في هذا الوسط ليست متجانسة بل متوزعة بين حالات كمومية متمايزة (أي مستويات طاقية). ولا يشارك في عملية الليزرة سوى أحد عناصر أو مركبات الوسط الفعال، كما أن جزءا ضئيلا فحسب من هذه الذرات يصدر ضوء الليزر بالفعل، وتسمَّى هذه الأخيرة الذرات الفعَّالة، أما الذرات الباقية فتدعى ذرات الخلفية background atoms. وتنتقل الذرات الفعَّالة بين حالتين طاقيتين، ويمكن أن يحدث تضخيم الضوء عندما يتجاوز عدد الذرات النشيطة الموجودة في مستويات الطاقة العليا (مستويات الطاقة المثارة) عددها في حالة الطاقة الدنيا، حيث تُدعى هذه الحالة الانعكاس السكاني population inversion.
تشعِّع حزمة ذرية ليزر الذرة المفردة، كما هو مبين في الرسم المبسط. تنبثق ذرات الباريوم من فرن وهي في حالتها الدنيا (اللون الأزرق) ثم تُرفع إلى حالة مثارة (اللون الأحمر) بوساطة حزمة ليزر عادي. تُصدر الذرات ضوء الليزر في الجوف بين المرآتين ثم تعود إلى حالتها الدنيا، حيث يمر بعض الضوء عبر المرآتين. وتركز الحزمة الصادرة عن إحدى المرآتين على مكشاف فوتوني. ويمكن مشاهدة الليزر (الموضوع في غرفة تخلية) عبر فتحة الرؤية [الصورة في الصفحة المقابلة].
يستعمل الليزر مصدرا طاقيا (كالتفريغ الكهربائي) لرفع الذرات النشيطة من مستوى الطاقة الدنيا إلى مستوى الحالة المثارة. ولكن الذرات المثارة لا تبقى مثارة إلى ما لانهاية بل تميل بصورة طبيعية إلى الهبوط إلى مستوى الطاقة الدنيا، فتبث أثناء هبوطها الضوء في شتى الاتجاهات بصورة عشوائية، وتدعى هذه العملية الإصدار التلقائي spontaneous emission. إن نسبة ضئيلة من هذا الضوء (نموذجيا، مضاعفات قليلة من 6-10) تَرِد إلى إحدى المرآتين، وتنعكس من جديد نحو الوسط الليزري، فيحث (يحرض) الضوء المنعكس الذرات المثارة ويجعلها تصدر فوتونات إضافية لها نفس الطول الموجي والاتجاه والطور. إن عملية إصدار الضوء الذي يحمل صفات الضوء الأصلي (والتي تدعى الإصدار المحفَّز) مسؤولة عن الكثير من الخصائص غير العادية لضوء الليزر. وخلال انعكاس الليزر جيئة وذهابا بين المرآتين فإنه يضخَّم باستمرار بوساطة الوسط الليزري. ويُنقل قسم صغير من هذا الضوء عبر إحدى المرآتين المصممة بحيث تكون أقل عكسا من الأخرى، وبذا تبزغ حزمة الليزر المألوفة.
أربعة أنواع من الليزرات تتباين كثيرا في صفاتها، على الرغم من أنها ـ جميعها ـ تصدر حِزَما ضوئية وحيدة اللون. يشاهد ليزر الهليوم ـ نيون في ماسحات كود السلع bar-code scanners المستعملة في المخازن الكبرى، في حين تُستعمل ليزرات النيوديميوم ياگ في أدوات الجراحة. وقد نتوصل يوما ما إلى استعمال ليزر أشباه الموصلات ذي الجوف المكروي (وهو لايزال قيد التطوير) في الحواسيب الكمومية. أما ليزر الذرة المفردة فهو أداة تجريبية أساسا، إلا أنه قد توجد له تطبيقات في معالجة المعلومات المنخفضة الضجيج وفي دراسة الأطياف الدقيقة.
ولحدوث عملية اهتزاز الليزرة يجب أن يتجاوز الربح (وهو الزيادة في شدة الضوء خلال مروره في الوسط الليزري) الضياع في شدة الحزمة الذي تسببه العيوب في المرايا، إضافة إلى مختلف العوامل الأخرى، ويُعرف هذا المتطلب بشرط عتبة الليزر laser threshold condition. لذا يجب أن تحتوي الليزرات العادية على وسط يضم عددا هائلا من الذرات أو الجزيئات لتأمين ربح كاف بقدر يتجاوز الضياع. فعلى سبيل المثال، يحتوي ليزر الهليوم ـ نيون الذي يُصدر طاقة قدرها ملي واط واحد على عدة ترليونات من ذرات النيون وما يناهز عشرة أضعاف هذا العدد من ذرات الهليوم. ويصل تضخيم الضوء إلى مرحلة التوازن عندما يرتد ما يزيد على بليون فوتون بين مرآتي المجاوب، أي يلزمنا وضع عدة ملايين من ذرات النيون وعشرات الملايين من ذرات الهليوم لإبقاء كل فوتون ضمن المجاوب.
هناك طرق عديدة لإنقاص عدد الذرات اللازمة في عملية الليزرة. إذ يمكننا الحد من الضياع في شدة الحزمة عبر تحسين انعكاسية reflectivity المرايا كي تُخزن الفوتونات مدة أطول في المجاوب، وليكون بوسعها التنامي بسهولة أكبر. وفي بعض الحالات يمكن زيادة ربح الليزر عبر إنقاص عدد ذرات الخلفية التي تعوق عملية تضخيم الضوء عبر تصادمها بالذرات الفعالة. بيد أن أفضل الليزرات العادية فعالية يتطلب عمليا نحو مئة ألف ذرة لكل فوتون مخزون في المجاوب، وهذا يعني بوضوح أنه لا يمكن لليزر العادي توليد حزمة ضوئية بذرة واحدة فقط.
ذرات في الأجواف
يستعمل ليزر الذرة المفردة طريقة مختلفة لتضخيم الضوء، وهي تستند إلى سيرورة تُسمى اهتزاز (تأرجح) رابي المكمَّم quantized Rabi oscillation. دُرست هذه الظاهرة من قبل الباحثين في حقل الإلكتروديناميك الكمومي في الجوف الذي يتحكم في سلوك الذرات الموجودة في المجاوبات الفائقة الصغر [انظر: «إلكتروديناميك التجاويف الكمومي»، مجلة العلوم، العددان 6/7(1994)، ص 84]، وربما كان ذلك أبسط أشكال التآثرات بين الضوء والمادة.
يُعرَّف اهتزاز رابي بأنه التغير الدوري لتبادل الطاقة بين الذرات والحقل الكهرمغنطيسي، وكان الفيزيائي <I .I. رابي> أول من درس هذه السيرورة في الثلاثينات من القرن العشرين. فعندما عرّض <رابي> عيِّنة من الذرات لموجات راديوية مولَّفة على تردد مناسب وجد أن الذرات في الحالة الدنيا تنتقل إلى حالة مثارة عند امتصاصها للطاقة من الحقل، ويحدث هذا الامتصاص بسبب توافق التردد الراديوي للفوتونات مع فرق الطاقة بين الحالة الدنيا والحالة المثارة. وعندما تصل جميع الذرات إلى الحالة المثارة لا يعود بإمكانها امتصاص المزيد من الطاقة من الموجات، لذا تنعكس السيرورة، فمع استمرار الإشعاع تبدأ الذرات بإصدار طاقتها من جديد وإعطائها للحقل المطبّق لتعود إلى الحالة الدنيا، ثم تبدأ بامتصاص الطاقة من الحقل مرة ثانية معيدة الدورة من جديد.
لم يكن ممكنا ملاحظة تفاعلات الذرات المنفردة مع الفوتونات في تجارب رابي. ولما كانت الفوتونات الراديوية التردد تمتلك طاقة ضئيلة جدا فإن موجتها تحتوي على عدد هائل من الفوتونات. لذا تحدث تبادلات طاقية عدة بين الذرات والفوتونات بحيث تفني تأثيرات بعضها بعضا، مانعة فرصة دراسة الطبيعة الكمومية للتبادل الطاقي. ولكن في بداية الستينات من القرن العشرين طوَّر كل من <T .E. جاينز> [من جامعة واشنطن] و<W .F. كمينگز> [من مختبرات بحوث شركة فورد] نظرية تشرح كيفية تآثر ذرة مفردة ذات مستويي طاقة مع موجة ضوئية تحتوي على عدد صغير من الفوتونات. فعندما تكون لدينا ذرة وحيدة لا يمكن أن يكون تردد اهتزازات رابي اختياريا، إذ يجب عليه أخذ قيم مكممة، كما هي الحال في مستويات الطاقة المتقطعة المتمايزة. بمعنى آخر ستمتص ذرة ذات مستويين الفوتونات وتصدرها بمعدلات متمايزة (واضحة المعالم) تحددها شدة الحقل الكهرمغنطيسي المحيط.
إن إحدى النتائج اللافتة للانتباه لهذه النظرية هي إمكان حث ذرة مثارة على أن تصدر فوتونا عبر وضعها ضمن جوف صغير جدا. وإذا كان هذا الجوف في حالة تجاوب مع الذرة (أي إن جدرانه عاكسة وأبعاده مصممة بحيث يمكن للفوتونات الصادرة عن الذرة التنامي في داخله) يحدث قرن coupling كمومي يؤدي إلى إصدار الذرة لفوتون بسرعة تفوق سرعة إصدارها في الفراغ الحر بكثير، وإذا ما بقيت الذرة في الجوف، فإنها تمتص الفوتون الذي أصدرته وتعيد الدورة من جديد. تدعى هذه العملية اهتزاز رابي في الخلاء لعدم وجود حقل كهرمغنطيسي في الجوف. وإذا وجد فوتون أو أكثر في الجوف قبل دخول الذرة المثارة إليه فإنها ستعاني اهتزاز رابي المكمَّم وتصدر الفوتونات ثم تمتصها بمعدل أكبر بكثير من الحالة السابقة.
تم إثبات هذه الظاهرة في المختبر عام 1984، عندما طوَّر <H. والثر> [من معهد ماكس پلانك في گارشينگ بألمانيا] الميزر المكروي micromaser، وهو جهاز يصدر موجات مكروية استنادا إلى النظرية الكمومية. في تجربة والثر سارت حزمة من ذرات ريدبرگ (وهي ذرات تثار فيها الإلكترونات الخارجية إلى مدارات كبيرة دائرية الشكل) واحدة إثر أخرى عبر جوف معدني صغير ذي جدران فائقة الانعكاس. وكان هذا الجوف مشابها للمجاوب الليزري (إذ تتناسب أبعاده مع طول موجة الفوتونات المكروية التي تصدرها ذرات ريدبرگ عند هبوطها إلى حالة طاقية أخفض). وأثناء مرورها عبر الجوف تصدر الذرات الفوتونات بمعدل مطرد، كما تنبأ كل من جاينز وكمينگز. وقد أمكن للفوتونات أن تتراكم في المجاوب بسبب الموصلية الفائقة لجدرانه، حيث تم تبريد الجدران إلى درجة حرارة قريبة من الصفر المطلق بغية زيادة انعكاسيتها إلى الحد الأقصى.
إن ليزر الذرة المفردة هو النسخة الضوئية للميزر المكروي. حيث تتدفق الذرات المثارة ذات المستويين الطاقيين، واحدة إثر أخرى إلى مجاوب صغير ثم تصدر هذه الذرات فوتونات في مجال الضوء ما تحت الأحمر القريب. يُصدَر الفوتون الأول إلى الجوف الفارغ بسبب اهتزاز رابي في الخلاء، ثم يحدث تضخيم إضافي للضوء عبر سيرورة اهتزاز رابي المكمَّم، ومع تزايد عدد الفوتونات في الجوف يزداد احتمال إصدار الذرة التي تمر عبر المجاوب لفوتون آخر. إن هذا التعزيز هو السيرورة الأساسية التي تستند إليها عملية الإصدار المحثوث في الليزر التقليدي.
يعتمد بناء ليزر الذرة المفردة على تصميم مجاوب ضوئي يستطيع الاحتفاظ بالفوتون لزمن طويل نسبيا قبل أن تمتصه إحدى المرايا أو يرسل إلى خارج الجوف. لذا استعملنا نمطا جديدا من المجاوبات دعوناه الجوف الفائق supercavity، وهو يتألف من مرآتين مضبوطتين تماما ذواتي انعكاسية فائقة. وفي الستينات من القرن العشرين بينما كان المهندسون في «ناسا» يحاولون تطوير منظومة دفع تعتمد على الأيونات العالية السرعة اكتشفوا أن الحزم الأيونية تغطي جدران غرفة التخلية بطبقة أيونية عالية الانعكاسية. وفي السبعينات والثمانينات استعمل المهندسون الحزم الأيونية لتغطية مرايا الجيروسكوبات الليزرية. وعلى الرغم من أن هذه التقانة سمحت بالحصول على انعكاسية لا مثيل لها فإن بإمكان عيوب ضئيلة الحدَّ من أداء مرايا المجاوب بشكل ملحوظ.
لكن إذا أرسل الباحثون حزمة رفيعة (لا يتجاوز قطرها مليمترا واحدا) إلى المرايا فإن أثر العيوب في الحزمة يصبح ضئيلا. وعندها ستعمل مرايا المجاوب بشكل جيد، حيث تصل انعكاسيتها إلى 99.9999 في المئة (تعكس المرايا في الليزر التقليدي نحو 99 في المئة من الضوء الوارد إليها في حين يصل انعكاس مرآة عادية إلى نحو 90 في المئة). ويمكن خزن الفوتونات في مثل هذا المجاوب بفعالية تفوق عشرة آلاف مرة خزن الفوتون في مجاوب الليزر العادي. كانت المرآتان في ليزر الذرة المفردة الذي استعملناه عاكستين بنحو 99.9997 في المئة، وتفصل إحداهما عن الأخرى مسافة قدرها مليمتر واحد. وهكذا كان بإمكان الفوتونات الانعكاس جيئة وذهابا نحو ربع مليون مرة قبل أن تمتصها المرايا أو أن تنفذ عبر المجاوب إلى الخارج.
تزداد شدة حزمة ليزر الذرة المفردة بحدة عندما تدخل حزمة كثيفة من ذرات الباريوم إلى المجاوب. وعندما تكون حزمة الذرات قليلة الكثافة يكون خرج الليزر ضعيفا. يجب ملاحظة أن عدد الفوتونات يهبط إلى قيمة دنيا عندما لا يتوافق التردد المتجاوب للجوف مع تردد الفوتونات الصادرة.
ولسوء الحظ كان من الصعب الحفاظ على الجوف الفائق «متناغما» مع تردد الفوتونات التي تصدرها الذرات عندما تهبط نحو حالة طاقية أخفض. فإذا حُرِّكت المرايا بقدر ضئيل جدا وفُقد التجاوب لا يمكن حدوث اهتزازات رابي ولا تُصدِر الذرات الموجودة في الجوف فوتونات أبدا. وللمحافظة على التجاوب بين الذرة والجوف استعملنا محوالا كهرضغطيا (كهرإجهاديا) piezoelectric transducer (وهو بلورة ثنائية القطبية تحوِّل الڤلطية الكهربائية المطبَّقة عليها إلى إجهاد ميكانيكي) لضبط المسافة بين المرآتين. وتتحكم حلقة مؤازرة servo loop في المسافة وتصحِّح أي انحراف فيها حتى وإن لم يتجاوز جزءا من عشرة آلاف من النانومتر من المسافة المناسبة الفاصلة بين المرآتين.س
هناك مسألة حرجة أخرى تتمثل في انتقاء ذرة مناسبة لوضعها داخل المجاوب. إذ يجب أن تمتلك هذه الذرة زوجا مناسبا من مستويات الطاقة ويكون معدل الإصدار التلقائي فيها صغيرا، فهذه السيرورة تعطِّل التآثر بين الذرة والجوف. لذا انتقينا ذرات الباريوم التي تُصدر الفوتونات عند طول موجي قدره 791 نانومترا عند هبوطها من الحالة المثارة إلى الحالة الدنيا. وتُحضَّر هذه الذرات عبر تبخير معدن الباريوم في فرن، ثم يوجَّه البخار نحو الفجوة الموجودة بين المرآتين. يولِّد الفرن حزمة رفيعة من ذرات الباريوم التي تنتقل بسرعة وسطية قدرها 360 مترا/ ثانية. ولما كان قدُّ المجاوب صغيرا وكثافة حزمة الذرات قليلة فإنه لا يوجد أكثر من ذرة باريوم واحدة داخل المجاوب في أي وقت من الأوقات.
تمر ذرات الباريوم قبل دخولها مباشرة إلى الجوف عبر حزمة من الضوء الوارد من ليزر ياقوت تيتانيوم titanium-sapphire عادي تم توليفه بدقة بحيث يثير الذرات الموجودة في الحالة الدنيا إلى حالة طاقية عليا. فإذا تُركت هذه الذرات وشأنها فإنها ستعاني إصدارا تلقائيا وتهبط إلى الحالة الدنيا في غضون ثلاثة أجزاء من المليون من الثانية مصدرة فوتونات بطول موجي قدره 791 نانومترا. ولكن لما كان للجوف الطول الموجي المتجاوب نفسه فإنه يُحرِّض بعض ذرات الباريوم على إصدار فوتوناتها خلال مئتي جزء من البليون من الثانية أثناء سيرها بين المرآتين.
عندما أُدخلت أول ذرة إلى المجاوب الفارغ كان احتمال خضوعها لاهتزاز رابي في الخلاء ومن ثم إصدارها لفوتون 23 في المئة. ولكن فور صدور أول فوتون، فإن الحقل الكهرمغنطيسي الناشئ (عن هذا الفوتون) في المجاوب يمارس تأثيرا أقوى في ذرة الباريوم التالية الدخول إلى الجوف، ويقفز احتمال إصدارها لفوتون إلى نحو 42 في المئة. وبتزايد عدد الفوتونات الموجودة في المجاوب يرتفع احتمال إصدار الفوتون بشكل مطرد. فضلا على ذلك تتشارك جميع الفوتونات المصدَرة في الاتجاه وفي الطور اللذين حددتهما هندسة المجاوب. وتكون النتيجة إصدار حزمة ضعيفة من فوتونات الليزر التي تنفذ خارج الجوف في اتجاه عمودي على حزمة الذرات.
تسبب اهتزازات رابي (التي درسها أول مرة الفيزيائي <I .I. رابي> (في اليمين) في الثلاثينات من القرن العشرين) إصدار الفوتونات في ليزر الذرة المفردة. تصدر الذرة المثارة فوتونا في الفراغ وفي اتجاه عشوائي (a)، أما في جوف متجاوب فإن الذرة ستُصدر فوتونا بسرعة أكبر بكثير نحو المرايا التي تبعد عن بعضها بعضا بقدر محسوب (b). تدعى هذه السيرورة اهتزاز رابي في الخلاء. وإذا دخلت ذرة مثارة أخرى إلى الجوف سوف يؤدي وجود هذا الفوتون إلى حدوث اهتزاز رابي المكمم، وعندها ستُصدر الذرة فوتونا مماثلا لفوتون الجوف وفي الاتجاه نفسه ولكن بمعدل أكبر بكثير من حالة عدم وجود الفوتون (c).
وبسبب انخفاض الضياع في المجاوب يمكن خزن الفوتونات في الجوف لفترة تبلغ نحو جزء من المليون من الثانية، وهي زمن لا يستهان به بالمقاييس الذرية. وقد قدَّرنا عدد الفوتونات المخزونة في مجاوبنا بقياس كمية ضوء الليزر النافذ من إحدى مرآتي الجوف، حيث استعملنا مكشافا عالي الفعالية يمكنه عد 40 في المئة من الفوتونات الواصلة إليه.
في تجربتنا تستمر عملية تنامي الفوتونات حتى يتساوى معدل الضياع (من الامتصاص والنفاذ عبر المرآتين) مع معدل إصدار الفوتونات من ذرات الباريوم. وقد كان بوسعنا تغيير كثافة حزمة الذرات عبر ضبط درجة حرارة فرن الباريوم. وعندما كان العدد الوسطي للذرات في الجوف مساويا 0.1، (أي عندما يُشْغل الجوف بذرة باريوم نحو 10 في المئة من الوقت) كان تنامي الفوتونات في أدنى قيَمه، إذ غادر معظم الفوتونات المصدَرة المجاوب قبل دخول ذرة باريوم أخرى. لكن عندما زدنا العدد الوسطي للذرات في الجوف إلى 0.4 أصدرت الذرات نحو مليون فوتون في الثانية، وهو كم كاف للحفاظ على فوتون واحد في المجاوب بشكل دائم. ووجود الفوتون في الجوف يزيد من احتمال إصدار فوتون إضافي، فعندما زدنا العدد الوسطي للذرات في الجوف إلى 0.7 زادت قدرة الليزر سبع مرات.
ليزرات المستقبل
إن لليزر الذرة المفردة فعالية ملحوظة، فعندما تتنامى الفوتونات في المجاوب يمكن أن يقارب احتمال إصدار ذرات الباريوم لفوتون آخر 100 في المئة نظريا. وفي نموذجنا البدئي قاربت القيمة العظمى لهذا الاحتمال 50 في المئة، وهذا يعني أن نصف الطاقة الممتصة بوساطة ذرات الباريوم تحوَّلت إلى ضوء ليزري. وفي المقابل تتراوح فعالية معظم الليزرات التقليدية ما بين واحد ونحو ثلاثين في المئة.
لكن القيمة الحقيقية لليزر الذرة المفردة ترتكز على فائدته كأداة تجريبية، فلما كان ضوء الليزر مولدا بوساطة ظاهرة ميكانيكية كمومية يمكن للباحثين اختبار تنبؤات النظرية الكمومية عبر إجراء التآثرات الكمومية في المجاوب، ثم رصد الضوء الصادر عن الجهاز. ولم يكن ليزرنا البدئي مثاليا لإجراء مثل هذه التجارب بسبب عدم تجانس التآثرات الذرية في المجاوب، إذ كان للحقل الكهرمغنطيسي في الجوف شكل موجة مستقرة بين المرآتين ذات سعة ترتفع وتنخفض بمنحن جيبي (مثل اهتزازات وتر بيانو مشدود). وبسبب هذا التوضع تتغير التآثرات بين الذرات والجوف وفقا لمسارات الذرات، فتلك التي تمر عبر مناطق السعة الكبيرة تصدر فوتونات، أما الذرات التي تمر عبر مناطق السعة المنخفضة فإنها لا تتأثر بالموجة الضوئية.
وقد تمكنا من حل هذه المشكلة عبر إمالة الحزمة الذرية قليلا عن الزاوية القائمة التي تصنعها الذرات مع محور المرايا. وبسبب انزياح دوپلر لن «ترى» الذرة الحقل كموجة مستقرة ولكن كموجتين تتحركان في اتجاهين متعاكسين. ويمكننا ضبط المسافة بين المرآتين بحيث تكون إحدى الموجتين المتحركتين فقط مجاوبة مع الذرة. إن هذا الضبط يجعل التآثرات الذرية أكثر تجانسا، لأنه لما كانت جميع الذرات تمر عبر مناطق ذات سعات عالية ومنخفضة للموجة المنتقلة فإنها تتساوى في احتمال إصدار فوتون مادامت تمر عبر الحقل نفسه.
وقد حدثت مشكلة أخرى مع ليزرنا البدئي نتيجة التوزع العريض لسرعات ذرات الباريوم المنبثقة من الفرن. فالذرات الأسرع التي تعبر الجوف لديها وقت أقل للتآثر مع الحقل، لذا يقل احتمال إصدارها للفوتونات. ولكي نجعل سرعات الذرات أكثر انتظاما غيَّرنا طريقة إثارة ذرات الباريوم، إذ شععناها بليزرين عاديين للتأكد من أن الذرات ذات السرعة المرغوبة فقط هي تلك التي ترتقي إلى حالة الطاقة العليا.
لقد مكنتنا هذه التعديلات من تحليل طيف إصدار الذرة المفردة. فقد بيَّنت تجارب سابقة أن ذرة موجودة في جوف متجاوب سوف تتآثر مع حزمة الضوء الصادر عن ليزر عادي. فعندما يكون الجوف فارغا فإن شدة الحزمة المارة عبره تزداد بشكل حاد مع اقتراب تردد الليزر من التردد المتجاوب للجوف. وبعبارة أخرى، يكون «منحني توليف» الجوف ذا قمة وحيدة. ولكن عندما توجد الذرة في داخل الجوف سترتفع شدة حزمة الليزر النافذ بحدة عند ترددين يقعان فوق التردد المتجاوب وتحته، ويصير منحني توليف الجوف ذا قمتين.
وينبغي أيضا أن يصير طيف إصدار ليزر الذرة الوحيدة ذا منحن بقمتين عندما تخف كثافة حزمة الذرات (أي عندما يكون الفاصل الزمني بين ذرتين أكبر بكثير من زمن تخامد decay الجوف بحيث تغادر كل الفوتونات الجوف قبل دخول ذرة جديدة). وعندما تكون حزمة الذرات أكثف من ذلك، وعندما تتنامى الذرات في المجاوب، ينبغي أن يتطور طيف الإصدار بحيث يتمثل بالمنحني ذي القمة الوحيدة الذي يميز ضوء الليزر، ولكن لا توجد تكهنات نظرية عن كيفية حدوث هذا الانتقال. وبالحصول على أطياف المراحل البينية يمكن أن يحسِّن ليزر الذرة المفردة من فهمنا لكيفية تطور عملية الليزرة انطلاقا من إصدارٍ شواشي للفوتون.
نخطط أيضا لاستعمال هذا الجهاز في اختبار «الحالات المصيدَة»، وهي ظاهرة كمومية تحدث عندما تدخل ذرة مثارة إلى الجوف وتعاني اهتزاز رابي كاملا مرة واحدة أو أكثر. ففي حالة الاهتزاز الكامل تصدر هذه الذرة فوتونا إلى الجوف ثم تمتص فوتونا من الحقل، وبعد ذلك تغادر المجاوب وهي في حالة مثارة. ولما كانت هذه الذرة تدخل الجوف وتخرج منه في الحالة نفسها فإن عدد فوتونات الحقل لا يزداد. ولم نلحظ اهتزاز رابي الكامل في تجربتنا البدئية لأن ذرات الباريوم كانت تتحرك بسرعة كبيرة، إذ لم يكن زمن انتقالها في الجوف كافيا إلا لحصول سُدس اهتزازة فحسب. وليس بوسعنا دراسة الحالات المصيدة إلا في حالة إبطاء تدفق الذرات، ويتطلب ذلك منا زيادة زمن خزن الفوتونات في الجوف، ونحاول حاليا مضاعفة زمن خزن مجاوبنا ثلاث مرات.
يمكن أن تقدِّم هذه الدراسات فوائد عملية أيضا؛ فلما كان هناك ارتياب ضعيف جدا في سعة حقل «الحالات المصيدة» يمكن استعمال ليزر ذرة مفردة يعمل بهذا النمط لمعالجة المعلومات المنخفضة الضجيج أو لدراسة الأطياف الدقيقة. ويمكن أن تسرِّع المعرفة المكتسبة من ليزر الذرة المفردة تطوير ليزرات أشباه موصلات ذات جوف مكروي (وهي أجهزة ضئيلة الحجم قد تُستعمل يوما ما في تصميم الحواسيب الضوئية). ويعتقد كثير من الباحثين أن بوسعهم زيادة فعالية ليزرات أشباه الموصلات بشكل كبير إذا استطاعوا منابلة السيرورة الأساسية لإصدار الفوتونات. ويمكن أن يساعد ليزر الذرة المفردة الباحثين على التحكم في هذه السيرورة عبر تسليط ضوئه على العالم الكمومي.
.....
المؤلفانCAVITY QUANTUM ELECTRODYNAMICS. Serge Haroche and Daniel Kleppner in Physics Today, Vol. 42, No. 1, pages 24-30; January 1989.
Michael S. Feld - Kyungwon Anاخترعا معا ليزر الذرة المفردة. فِلد أستاذ الفيزياء في معهد ماساتشوستس للتقانة ومدير مختبر هاريسون للأطياف. حصل على الدكتوراه من معهد ماساتشوستس للتقانة عام 1967. تتضمن أعماله أساسا أول بيان عملي حول الإشعاعية الفائقة في المجال الضوئي. عمل فِلد أيضا في مجال التطبيقات الحيوية الطبية لليزرات والأطياف. أما آن فقد حصل على الدكتوراه في الفيزياء من معهد ماساتشوستس للتقانة عام 1994. وكان ليزر الذرة المفردة موضوع أطروحته، ثم تابع عمله في المعهد نفسه باحثا في الضوئيات الكمومية والفيزياء الذرية حتى الشهر 1/1998. ويعمل آن حاليا مدرسا في المعهد الكوري المتقدم للعلم والتقانة بمدينة تيجون في كوريا الجنوبية.
مراجع للاستزادة
THE MICROMASER: A PROVING GROUND FOR QUANTUM PHYSICS. G. Raithel et al. in Cavity Quantum Electrodynamics. Edited by Paul R. Berman. Academic Press, 1994.
THE MICROLASER: A FUNDAMENTAL QUANTUM GENERATOR OF LIGHT. Kyungwon An, Ramachandra R. Dasari and Michael S. Feld in Atomic and Quantum Optics: High-Precision Measurements, SPIE Proceedings Series, Vol. 2799, pages 14-21;1996.
Scientific American, July 1998
(*)The Single-Atom Laser