ضحكات بين أروقة المستشفى ...
تعالى صوت ضحكات مرحة بين أروقة المستشفى على غير
العادة ، ضحكات لفتت انتباهى ، فاستدرتُ أبحث عن صاحبها ...
كان طفلا صغيرا لا يتعدى عمره الثلاث سنوات ، يجلس بجانب
والدتهِ ، وينظر للجميع بعينين اختلطتْ براءتهما بشقاوة طفولية
خفيفة ، وكأنما يسعده انتباه المحيطين لضحكاته .. فأخذ يُعزز هذا
بمزيد من الضحكات والحركات الطفولية ليستجذب أكبر قدر من
المشاهدين ، ولم يكن هذا عسير ، فأنتَ فى هذه الأماكن تبحث
دائما عمّن يمنحك الإبتسامة لتنظر له ؛ وهذا ما فعله هذا
المشاغب .
أما أمه فقد أخذتْ تنظر له بحنان مشوب بالشفقة والعطف ،
فى نظرة لم أستطع تفسيرها آنذاك ، فانصرفتُ ببصرى تجاهه
لأتابعه وهو يحرك يديه فى الهواء ، ويُدخل المنديل الورقى
فى فمه فى استحباب لموقف البطل المُتابَع من الباقين ...
وفجأة قطع ضحكاتنا واستمتاعنا صوت الممرضة وهى
تُنادى على اسم مريض ما ليدخل من أجل التحاليل ، وإذا بهذه الأم
تنهض حاملة صغيرها بين ذراعيها فى حنوٍ وهى تُسرع تجاه
الممرضة مُلبية ندائها .
ظللتُ لبرهة أنظر إليها فى ذهول ، فالإسم كان لإبنها ، ادركتُ
حينها سبب هذه النظرات التى كانت ترمق بها صغيرها فى لهوه ،
فقد كان المسكين مريضا بهذا اللعين ..
.. السرطان ..
فهذا هو القسم الذى كانا يجلسان به ..
" قسم علاج مرضى السرطان " .
نظرتُ إليه وهو يبتعد مع أمه ملوحا لنا من فوق كتفيها بسعادة
والإبتسامة تعلو شفتيه ، لم أملك سوى مبادلته إياها وأنا
أتسائل عمّا ينتظره خلف هذه الغرفة المغلقة ؟!!..
وبعد لحظات خيم فيها السكون على المكان إذا بصرخات طفل فَزِعْ
تُجلجل بين جدران المكان ، فأسرع الجميع لمعرفة ماذا يحدث ..
هناك رقد هذا البرئ بعيون حائرة ، وهو يُحاول التملص من بين
ذراعىّ الممرضة ، وهى تُحاول أخذ عينة دم من ذراعه ..
لم تكن أوردته واضحة ، فأخذت تٌدخلْ الحقنةمرات ومرات
فى يده علُها تجد وريد ما ، فى قسوة لم اشاهد لها مثيل ،
ومن حولها تجمعت عدة ممرضات ليُساعدنها ، فى مشهد أخاف هذا
المسكين ، فأخذ يٌحاول الفرار فى يأس ، وأمه عاجزة
عن فعل شئ من أجله وفى عينيها تجمعت دموع حبيسة
مُكبَّلة بقلة الحيلة...
أخبرتٌ الممرضة أن تتعامل معه بشئ من الحنان ،
فنظرتْ لى فى سٌخرية وقالت لى :
" ليس لدى وقت لمثل هذه الأعمال الطفولية "!!! .
وَدَدْتُ حينها لو كنت طبيبة ولو للحظة لأساعده ولكن !!..
نظرتُ اليها فى دهشة من قولها .. وابتعدتُ عن المكان والعبرات
تتساقط من عينىّ على هذا البريء الذى لم يجد الوقت
الكافى ليستمتع حتى بصدى ضحكاته !! .
إهداء لكل طفل برئ لم يجد الوقت الكافى ليستمتع ببرائته ،
وهذا اللعين يُسيطر على جسده ، فوقف يتسائل فى حيرة ،
لماذا يعاملوننى بهذه القسوة ؟!