من بداهة القول، أن الثورات والانتفاضات التي تغير مسار التاريخ، يصنعها الثوار الخالدون، أولئك الذين لا يصبرون على الظلم أكثر مما تتطلبه الحكمة والانسانية، أما عندما يتجاوز الطغيان والظلم حدوده، عند ذاك يتصدى اصحاب المواقف الخالدة والارادات العظيمة، لأي نوع من التجبّر، ومحاولة خنق الحريات وفرض الامر الواقع على الرعية، إذ غالبا ما يلجأ الطغاة الى فرض الامر الواقع بالقوة والتعذيب والبطش والقتل والعزل والاقصاء وما شابه، من أساليب تسعى لإذلال الانسان والتقليل من قيمته وكفاءته.لهذه الاسباب مجتمعةً، تخلف المسلمون، وباتت الدول العربية والاسلامية، تقبع في اسفل قائمة الدول المتأخرة، لأسباب عديدة، أهمها انها ابتعد عن المنهج الذي يحمي الحريات كما يدعو الى ذلك الفكر الحسيني، وكذلك بسبب السياسات الطائشة للانظمة السياسية الجاهلة، فالحكام الذين يحكمون هذه الدول لا يهمهم الشعب حاضرا ومستقبلا، انما ما يهمهم مصالحهم وحماية عروشهم، وكنز الاموال في الداخل والخارج، على حساب الفقراء الذين يبطش بهم الفقر والجهل والمرض.يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة)، في هذا المجال: (لقد أصبحت غالب البلاد الإسلامية في الحال الحاضر، وفي عصر النور والذرّة تعاني من حيث سحق الكفاءات وملاحقة أصحاب العقل والفكر بأبشع مما كانت تعاني منه في القرون الوسطى وفي عصر الظلم والظلمات).
تهميش الكفاءات وعزلهم
هناك ركائز أساسية يحثّ عليها المنهج الحسيني، ألا وهو حماية حرية الانسان، ومقارعة الظلم، من اجل بناء المجتمع السليم ودولة المؤسسات التي يحكمها العدل، وهذه جوانب لا يمكن أن تتحقق من دون الاستفادة من الكفاءات، واستثمار المواهب الادارية والانتاجية على المستويين المادي والفكري، من اجل تحقيق التقدم المنشود، والالتحاق بالركب العالمي المتقدم، بل وقيادة هذا الركب كما كانت الدولة الاسلامية في عصر الرسالة النبوية الشريفة، تقود العالم أجمع، لذلك ينبغي على ساسة الدولة وقادتها، مراعاة قضية الاهتمام الكبير بالكفاءات، في جميع القطاعات الانتاجية، في الاقتصاد والاجتماع والمالية والتعليم والصحة وما شابه، هذه هي النتائج الواضحة للتحرر الذي يدعو اليه المنهج الحسيني، ولكن الذي حديث ويحدث في الدول الاسلامية، ان قادتها حاربوا الكفاءات وحاصروها على العكس مما يفعل الغربيون الين يقدمون للكفاءة رعاية خاصة تجعله في المقدمة دائما.لذا يؤكد الامام الشيرازي في كاتبه المذكور آنفا: (إن الكفاءات لا تعيش في جو الاختناق والإرهاب، ولا تظهر ثمارها في مثل هذا الجو، وهذا أيضاً من أسباب قوّة الغرب وضعف المسلمين، فقد جاء في تقرير مسبق: ان في خلال ربع قرن من الزمان فقط وليس أكثر هرب من أصحاب العقل والفكر وذوي الكفاءات العلميّة والعمليّة، من الشرق الأوسط إلى امريكا واروبا وغيرها، زهاء نصف مليون، هذا بالإضافة إلى الذين قُتِلوا، أو جُمّدت نشاطاتهم).ولعل السبب الاساس في تهجير الكفاءات او مطاردتهم وقتلهم أن السياسي لا يتحلى بالرؤية البعيدة النظر، كما انه يجهل قيمة الكفاءات ولا يعبأ بأهمية البناء المعنوي والفكري للمجتمع، لهذا يرى في اصحاب العقول عقبات في طريقه لتحقيق مآرب سلطوية بحتة، لهذا طالما رزح المسلمون تحت سطوة الطغاة بسبب ابتعادهم عن المبادئ الحسينية الواردة في المنهج الحسيني والتي قدم الامام الحسين نفسه وذويه واصحابه الاطهار في سبيل الحرية وردع الظلم والطغيان، ولكن كان الحكام ظالمين طغاة ولا زال بعضهم كذلك، لهذا السبب تأخر المسلمون.يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب في كتابه نفسه: (لا نرى للحريّات في البلاد الإسلامية أقلّ أثر، حيث البلاد بما فيها من أغلبية مسلمة ساحقة ترزح تحت كابوس حكّام نزوا على الحكم بلا كفاءات ولا معتقدات اسلامية وفرضوا على الاُمة المسلمة أنظمة مخترعة من مثل القومية أو البعثية أو الشيوعية أو الديمقراطية المزيّفة، أو العلمانية، التي لا تعرف من الإسلام سوى التشدق باسمه، ومن القرآن إلاّ اجادة طبعه ورسمه، فهي بمعزل عن الإسلام والمسلمين وعن القرآن وأحكامه السامية).
عظمة الحسين عليه السلام
إن الحرية والكفاءة صنوان متلازمان، احدهما يدعم الآخر ويقترن به، فإذا غابت الحرية غابت الكفاءة ويصح العكس، لهذا كان التركيز الكبير في المنهج الحسيني على الاهمية القصوى للتحرر، فقد كان الامام الحسين عليه السلام، يركز في اقواله وخطاباته على حرية الانسان، وانها لا تمنح ولا تعطى من لدن شخص لآخر، لان الانسان حر بالفطرة، ولأن الحرية هبة الله تعالى للانسان، لذلك يخاطب الامام الحسين عليه السلام الجميع، الاصدقاء والاعداء بمنطق الحرية، الذي يشكل الدعامة الاساسية للفكر الحسيني. لنقرأ ما يذكره الامام الشيرازي، في كتابه الذي يحمل عنوان (الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة)، في هذا المجال قائلا: (تتجلّى عظمة الإمام الحسين عليه السلام في كلامه حيث قال: إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم). ولكن لم يكن عامة الناس ايضا، يفهمون الحرية وابعادها الصحيحة كما يجب، وهذا يتضح بقوة وجلاء، في كلمة الامام الحسين عليه السلام المذكورة آنفا.لهذا يحتاج الامر الى سعي حثيث وجهد ضخم ومنظم، لا يعتمد على الافراد فقط، بل جهد كبيرأ تتبناه وتسعى اليه مؤسسات كبيرة، وينبغي ان يحضر ايضا جهد الدولة والجهات ذات العلاقة برفع الوعي المجتمعي، والمسؤولية تقع النخب الاخرى ايضا، ليس الدينية فحسب، بل الثقافية عموما والاعلامية، من اجل بث ما ينطوي عليه المنهج الحسيني من فكر حيوي متحرر يهدف الى مساعدة الناس جميعا على فهم الحرية واستيعابها، والايمان بها والمحافظة عليها من الاستغلال وما شابه، فالحرية تعني الكفاءة.لذلك مطلوب من الجهات المعنية، بل ومن الجميع التثقيف على المنهج الحسيني لصيانة الحريات، وخلق الحياة الافضل دائما، لذا يشترط الامام الشيرازي ذلك بقول: (إذا جعلنا مجالس الحسين عليه السلام، منطلقاً إلى - الحريات-، فقد أدّيْنا بعض ما علينا مـما يتوجَّب تجـاه الإمام الحسين عليه السلام).