الأمواج البشرية التي تتدفق في العشرين من صفر والتي تسمى بزيارة الأربعين لمدينة كربلاء المقدسة تمثل تظاهرة مثيرة وفريدة من نوعها بعدة جوانب ونواحي، فهي تجمع المسلمين الشيعة من مختلف نطاق العالم، وما يضيف للموضوع من اهمية وتميز هو طريقة زيارة المدينة المقدسة فمعظم القادمين يتجهون نحوها سيرا على الأقدام وبعضهم قادم من مناطق بعيدة جدا قد تصل الى مئات الكيلومترات، وبينهم الفقير الذي لا يملك قوت عائلته وآخر لديه من الأموال ما تمكنه من استئجار أفضل الوسائل المريحة للسفر ، إلا إن الجميع يصر وخلال هذه المناسبة بالذات على القدوم مشيا.
هذه الظاهرة التي تصاعدت خلال الفترة القريبة الماضية وخصوصا بعد سقوط النظام السابق والذي كان يضع على تلك المسيرة خطوط حمراء لا يسمح بها إطلاقا، أخذت منحا تصاعديا وباتت تشكل محطة يتوقف عندها الكثير ليستفهم عن سر هذا المسير الى كربلاء وقطع هذه المسافات الشاسعة.
ما يركز عليه العلماء الأجلاء ورجال الدين الأفاضل هو استثمار تلك التظاهرة لبناء الإنسان بناء صحيحا وترجمتها لنصرة المظلوم بواقعية الميدان ومصداقا لقول الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لأولاده ( كونوا للظالم خصما وللمظلوم عونا)، فالملايين السائرة الى بقعة الطف هي في واقع الأمر تسير لرفع مظلومية ال بيت رسول الله وفي نفس الوقت لعرض مظلوميتها المترتبة من تمسكها بتلك المظلومية ومدى التهميش والحيف الواقع على فئات كبيرة من الشعوب، لذلك فهي تجد الفرصة مؤاتية جدا لاسترداد حقوقها المهضومة.
وهي وان كانت لا ترفع شعارا سياسيا او اجتماعيا بارزا، غير إن مسيرتها الصامتة ترفع شعارا مهما في ضرورة النظر بالعدل والمساواة للجميع وان أهداف الإمام الحسين كانت مترجمة بواقع التعامل مع الجميع على مبدأ (البشر صنفان اخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، وعلى هذا الأساس فلا تمييز ولا تفرقة ولا إرهاب ولا عنف ضد الإنسانية.
إن هذه المبادئ القيمية الكبيرة لا يمكن ان تختزل بمجرد طقوس ومراسيم تقرأ من الناظر على إنها طقوس في فترة محددة تنتهي ومراسيم اعتاد الناس على إقامتها دون النظر لما في هذه المبادئ والشعائر من معان ورمزية وأهداف عميقة وممتدة.
لذلك فان قراءتها بعمق وترجمتها بصورة واضحة وإسقاطها على ارض الواقع هو الهدف الأسمى لحقيقية ثورة سيد الشهداء وذكراها المستمرة على مر الأزمنة.
ثم إن تنميتها وإدامتها وجعلها أرضية صالحة للاندفاع نحو تربية الروح تكامليا، وخلق ذهنية واقعية لرفض الظلم واقعا وفكرا، هي من أهم المسؤوليات المناطة بأصحاب الفكر والعقيدة والمثقفين والمتصدين لنشر الفضيلة والخير والسلام على ربوع البسيطة.
فمن الغبن تجاه هذه التظاهرة المليونية أن نمر عليها مرور الكرام وان نجعل منها عادة لا عبادة، بدون الالتفات الى الجوانب المهمة الأخرى فيها خصوصا عندما يشعر المشارك فيها والمتابع والمشاهد بما يتحق من فوائد وسعة فهم ونضج انساني وتطور مبدئي نابع من حركة التحرر التي قادها سيد الشهداء (عليه السلام).
ان التنافس في ترجمة نهضة الإمام وإيضاح أبعادها الإنسانية والعقائدية هي مسؤولية مشتركة.
فلنسع أيها الأخوة للتنافس في هذا المجال، فلم تبق إلا أيام....، وبعد ذلك يكون قد انتهى شهر محرم وصفر، ولكن تبقى نتيجة التنافس، فليحاول كل منا أن يخرج منها مملوء اليد وان تكون حصيلته أكثر من غيره.
إن استحقاقات تلك التظاهرة يجب أن ترقى الى مستوى الغايات المرجوة منها والهدف المنشود إيصاله الى العالم بأسره وهو أننا دعاة سلام وخير ومحبة لجميع بني البشر رغم الجراح و المظلومية التي تلحق بأتباع أهل البيت، ولكننا كنا وسنبقى نتنافس في صنع الحياة ودفع العنف والظلم وهذا نهج أئمتنا وعلماؤنا وتجسيدا لقول الباري (عزوجل)(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (26) المطففين.