امضى الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي (1926 – 1999) فترة الطفولة واليفاع في أزقة حي " باب الشيخ" وبالقرب من ضريح الشيخ الصوفي عبدالقادر الكيلاني في بغداد ، وكانت غالبية سكان الحي من ابناء الفئات الشعبية البسيطة من الكسبة وذوي الدخل المحدود. وبقيت ذكريات الطفولة عالقة في ذهنه وتجسدت في اشعاره الكثيرة عن بغداد التي " ولدت من زبد البحر ومن نار الشموس الخالدة كلما ماتت بعصر ، بعثت .. قامت من الموت .. قامت من الموت وعادت للظهور.. انت عنقاء الحضارات وانثى سارق النيران .. في كل العصور ". وبقي البياتي وفيا لمدينته بغداد اينما حل في رحلة الغربة الطويلة التي حملته ايضا الى موسكو في عام 1959 .
وقد انضم شاعرنا الى كوكبة من الشعراء الشباب في العراق الذين اسهموا في حركة الحداث الشعرية ومنهم بدر شاكر السياب ونازك الملائكة.وعندما تخرج البياتي من قسم اللغة العربية وآدابها في دار المعلمين العالية عام 1950 عمل مدرسا ثم انتقل الى ميدان الصحافة وعمل ايضا في مجلة " الثقافة الجديدة" التي اغلقت وفصل البياتي من وظيفته ودخل السجن الذي كان يعتبر " مدرسة المناضلين الوطنيين" آنذاك. وبعد ذلك بدأ الشاعر يمارس تلك "المهنة الشاقة" اي الغربة .. حيث تنقل ما بين دمشق وبيروت والقاهرة وموسكو. وعاش بموسكو في الفترة من عام 1959 الى عام 1964 حين اسقطت عنه الجنسية العراقية ، فرحل شاعرنا الى القاهرة حيث بقي فيها حتى عام 1970. وأقام عبدالوهاب البياتي بعد ذلك في اسبانيا فترة عشرة اعوام (1970 – 1980) كانت حافلة بالانتاج وترجمت اعماله الى الاسبانية. وبعد حرب الخليج في عام 1991 عاش فترة في الاردن (عمان) ثم انتقل بعد ذلك الى دمشق حيث وافته المنية. وقد منح خلال تلك الفترة جوائز ادبية تقديرا لأبداعه ودوره في شعر الحداثة العربي.
لكن الفترة الروسية في حياة البياتي لم تكن تخلو من الاحداث المهمة في حياته كأنسان وكشاعر. فقد عرفه جميع الطلاب العراقيين القادمين الى موسكو ايامذاك للدراسة، اذ كان بحكم منصبه كملحق ثقافي في السفارة العراقية ملزما بتدبير شئونهم المعيشية والدراسية. وبالرغم من كل ما قيل عن "نزق " البياتي او طبعه الحاد فكان في تلك الفترة مثال الطيبة والرقة في التعامل مع الطلاب. كما ان علاقاته مع المثقفين العرب القاطنين بموسكو كانت متينة ، اذ لازم صديقه الروائي غائب طعمة فرمان في الامسيات. علما ان الاخير كان يفضل البقاء في شقته في الاماسي الشتوية الباردة، الا ان البياتي كان يلح عليه في ارتياد نادي الادباء ولقاء المثقفين السوفيت. وتعرف الشاعر الى العديد من المستعربين الذين ترجموا فيما بعد بعض اعماله الشعرية الى الروسية. ولربما كان البياتي الشاعر العربي الوحيد الذي نشرت اشعاره انذاك على صفحات جريدة " برافدا" الناطقة باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي. فكان الشاعر يجلس مع مترجمه عند طاولته المفضلة في مقهى " متروبول" بوسط العاصمة الروسية ويملي عليه ابيات قصيدته التي تجدها منشورة في اليوم التالي في " برافدا". ولم يفوت البياتي فرص لقاء الادباء العرب والاجانب الذين كانوا يزورون موسكو في تلك الايام فالتقى محمد مهدي الجواهري الكبير والشاعر التركي ناظم حكمت والشيلي بابلو نيرودا والفرنسي لويس اراغون وترجم لهم ، كما التقى يفجيني يفتوشينكو ورسول حمزاتوف. علما بأنه هاجم رواية " الدكتور زيفاكو "للكاتب المنشق السوفيتي بوريس باسترناك ليس بسبب الموقف السياسي لهذا الكاتب الذي احتضنته الدعاية الغربية بغية استغلاله في التشهير بالاتحاد السوفيتي بل لأنه اطلع فعلا على هذه الرواية التي قدمها له احد الاصدقاء مترجمة الى اللغة الانجليزية وقرر انها ضعيفة من الناحية الفنية ولا تستحق كل هذه الضجة المثارة حولها..
وبعد تركه العمل كملحق ثقافي التحق بمعهد اللغات الشرقية ( معهد آسيا وافريقيا حاليا) بجامعة موسكو حيث كان يلقي المحاضرات امام طلاب الصفوف العليا حول تاريخ الادب العربي. وما زال هؤلاء الطلاب يحتفظون بذكريات طيبة عن احاديثه حول الشعر العربي قديما وحديثا واسباب تحول الشعراء الجدد الى نظم القصيدة العمودية والنثرية التي هو احد مؤسسيها. كما ان اعماله باقية باللغة الروسية وبقيت حتى المقطوعة الموسيقية التي الفها الملحن السوفيتي اوسبينسكي والمستوحاة من ديوانه " كلمات لا تموت".
وكان عبدالوهاب البياتي اينما حل وفيا لمدينته بغداد ولم يقتصر هذا الوفاء على ابداء الحنين الى ازقة وشوارع المدينة ومقاهيها التي كانت تجري فيها المناظرات الشعرية كما تحدث عن ذلك الى طلابه في موسكو بل وعلى نظم الكثير من القصائد عن عاصمة الرشيد وتأريخها العريق، والتي امتزجت فيها عناصر التراث والاسطورة بالحضور الحداثوي.