بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى.
أيّوب بن موص بن رازج بن عيص بن اسحاق بن ابراهيم وكانت زوجته التي أمر أن يضربها بالضغّث هي رحمة ابنة افرايم بن يوسف، وكانت أمه من ولد لوط، وكان دينه التوحيد والإصلاح بين النّاس، وإذا أراد حاجة سجد ثمّ طلبها.
قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم: كان أيوب رجلاً كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه، من الأنعام، والعبيد، والمواشي، والأراضي المتسعة بأرض البثينة من أرض حوران.
وحكى ابن عساكر أنها كلها كانت له، وكان له أولاد وأهلون كثير، فسلب من ذلك جميعه، وابتلى في جسده بأنواع البلاء، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر الله عز وجل بها، وهو في ذلك كله صابر محتسب ذاكر لله عز وجل في ليله ونهاره، وصباحه ومسائه.
وذكر صاحب الكامل في التاريخ: وكان من حديثه وسبب بلائه أنّ إبليس سمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيّوب حين ذكره الله فحسده وسأل الله أن يسلّطه عليه ليفتنه عن دينه، فسّلطه على ماله حسب، فجمع إبليس عظماء أصحابه من العفاريت، وكان لأيّوب البثنيّة جميعها من أعمال دمشق بما فيها، وكان له فيها ألف شاة برعاتها وخمسمائة فدّان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل آلة الفدّان أتان وكلّ أتان ولد واثنان وما فوق ذلك، فلمّا جمعهم إبليس قال: ما عندكم من القوّة والمعرفة فإني قد تسلطت على مال أيوب، فقال كل منهم قولاً، فأرسلهم فأهلكوا ماله كله وأيوب يحمد الله ولا يرجع عن الجدّ في عبادته والشكر له على ما أعطاه والصبر على ما ابتلاه.
فلما رأى ذلك إبلس من أمره سأل الله أن يسلطه على ولده، فسلّطه عليهم ولم يجعل له سلطاناً على جسده ولا عقله وقلبه، فأهلك ولده كلهم، ثمّ جاء إليه متمثلاً بمعلمهم الذي كان يعلمهم الحكمة جريحاً مشدوخاً يرقّقه حتى رق أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، فسرّ بذلك إبليس.
ثمّ إنّ أيّوب ندم لذلك وجدّ واستغفر، فصعد حفظته من الملائكة بتوبته الى الله قبل إبليس، فلما لم يرجع أيوب عن عبادة ربّه والصبر على ما ابتلاه به سأل الله تعالى أن يسلّطه على جسده، فسّلطه عليه خلا لسانه وقلبه وعقله فإنه لم يجعل له على ذلك سلطاناً، فجاءه وهو ساجد فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده وصار أمره الى أن انتثر لحمه وامتلأ جسده دوداً، فإن كانت الدودة لتسقط من جسده فيردّها إليه ويقول: كُلي من رزق الله، وأصابه الجُذام، وكان أشدّ من ذلك عليه أنه كان يخرج في جسده مثل ثدي المرأة ثم يتفقّأ، وأنتن حتى لم يطق أحد يشمّ ريحه، فأخرجه أهل القرية منها الى الكُناسة خارج القرية لا يقربه أحد، إلا زوجته، وكانت تختلف إليه بما يصلحه، فبقي مطروحاً على الكناسة سبع سنين ما يسأل الله أن يكشف ما به، وما على وجه الأرض أكرم على الله منه.
وقيل: كان سبب بلائه أن أرض الشام أجدبت فأرسل فرعون إلى أيّوب أن هلمّ إلينا فإنّ لك عندنا سعة، فأقبل بأهله وخيله وماشيته، فأقطعهم فرعون القطائع، ثم إنّ شعيباً النبيّ دخل إلى فرعون فقال: يافرعون أما تخاف أن يغضب الله غضبة فيغضب لغضبه أهل السماء وأهل الأرض والبحار والجبال؟ وأيوب ساكت لا يتكلم، فلمّا خرجا أوحى الله الى أيوب: يا أيّوب سكتَّ عن فرعون لذهابك الى أرضه، استعد للبلاء، فقال أيوب: أما كنت أكفل اليتيم وآوي الغريب وأشبع الجائع وأكفت الأرملة؟ فمرّت سحابة يسمع فيها عشرة آلاف صوت من الصواعق يقولون: من فعل ذلك يا أيوب؟ فأخذ تراباً فوضعه على رأسه وقال: أنت ياربّ، فأوحى الله إليه: استعدّ للبلاء، قال: فديني؟ قال: أسلّمه لك، قال: فما أبالي.
فلما ابتلاه الله واشتد عليه البلاء قالت له امرأته: إنك رجل مجاب الدعوة فادع الله أن يشفيك، فقال: كنّا في النعماء سبعين سنة فلنصبر في البلاء سبعين سنة، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، وقيل: إنما أقسم ليجلدها لأن إبليس ظهر لها وقال: بم أصابكم ما أصابكم؟ قالت: بقدر الله، قال: وهذا أيضاً بقدر الله فاتبعيني، فاتبعته، فأراها جميع ما ذهب منهم في وادٍ وقال: اسجدي لي وأرده عليكم، فقالت: إنّ لي زوجاً أستأمره، فلم أخبرت أيوب قال: ألم تعلمي أن ذلك الشيطان؟ لئن شفيت لأجلدنك مائة جلدة، وأبعدها وقال لها: طعامك وشرابك علي حرام لا أذوق مما تأتيني به شيئاً فابعدي عني فلا أراك، فذهبت عنه، فلما رأى أيوب أن امرأته قد طردها وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خرّ ساجداً وقال: ربّ (إني مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين) الأنبياء: 21 : 83 كرّر ذلك، فقيل له: ارفع رأسك فقد استجيب لك، (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ص: 38 : 42، ورد الله إليه جسده وصورته.
وأما امرأته فقالت: كيف أتركه، وليس عنده أحد، يموت جوعاً وتأكله السبّاع؟ فرجعت إليه فرأت أيوب وقد عوفي، فلم تعرفه، فعجبت حيث لم تره على حاله، فقالت له: يا عبد الله هل رأيت ذلك الرجل المبتلى الذي كان ههنا؟ قال: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم، قال: هو أنا، فعرفته.
وقيل: إنما قال: مسني الضرّ لما وصل الدود إلى لسانه وقلبه خاف أن يبطل عن ذكر الله تعالى والفكر، وردّ الله إليه أهله ومثلهم معهم، قيل هم بأعيانهم، وقيل: ردّ الله إليه امرأته وردّ إليها شبابها فولدت له ستّة وعشرين ذكراً، وأنزل الله إليه ملكاً فقال: يا أيّوب إنّ الله يقرئك السلام لصبرك على البلاء، اخرج الى أندرك، فخرج إليه، فبعث الله سحابةً فألقت عليه جراداً من ذهب، وكانت الجرادة تذهب فيتبعها حتى يردّها في أندره، فقال الملك: أما تشبع من الداخل حتى تتّبع الخارج؟ فقال: إن هذه البركة من بركات ربّي لست أشبع منها.
وعاش أيوب بعد أن رفع عنه البلاد سبعين سنة، ولما عوفي أمره الله أن يأخذ عرجوناً من النخل فيه مائة شمراخ فيضرب به زوجته ليبرّ من يمينه، ففعل ذلك.
وقول أيّوب: ربّ إنّي مسّني الضرّ، دعاء ليس بشكوى، ودليله قوله تعالى: (فاستجبنا له) الأنبياء: 21 : 84.
وكان من دعاء أيّوب: أعوذ بالله من جارٍ عينه تراني إن رأى حسنة سترها وإن رأى سيئة ذكرها، وقيل: كان سبب دعائه أنّه كان قد اتبعه ثلاثة نفر على دينه اسم أحدهم يلدد والآخر اليفر والثالث صافر، فانطلقوا إليه وهو في البلاء فبكّتوه أشدّ تبكيت وقالوا له: لقد أذنبت ذنباً ما أذنبه أحد، فلهذا لم يكشف العذاب عنك، وطال الجدال بينهم وبينه، فقال فتى كان معهم لهم كلاماً يردّ عليهم، فقال: قد تركتم من القول أحسنه، ومن الرأي أصوبه، ومن الأمر أجمله، وقد كان لأيّوب عليكم من الحقّ والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون حقّ من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ومن الرجل الذي عبتم؟ ألم تعلموا أن أيوب نبيّ الله وخيرته من خلقه يومكم هذا؟ ثمّ لم تعلموا ولم يعلمكم الله أنه سخط شيئاً من أمره ولا أنه نزع شيئاً من الكرامة التي كرم الله بها عباده ولا أن أيوب فعل غير الحقّ في طول ما صحبتموه، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في نفوسكم، فقد علمتم أنّ الله يبتلي النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وليس بلاوه لأولئك دليلاً على سخطه عليهم ولا على هوانهم عليه ولكنها كرامة وخيرة لهم، وأطال في هذا النحو من الكلام.
ثمّ قال لهم: وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يكلّ ألسنتكم ويكسر قلوبكم ويقطع حجتكم، ألم تعلموا أن لله عباداً أسكتتهم خشيته عن الكلام من غير عيّ ولا بكم؟ وإنهم لهم الفصحاء الألبّاء العلامون بالله وآياته ولكنّهم إذا ذكروا عظمة الله انكسرت قلوبهم وانقطعت ألسنتهم وطاشت أحلامهم وعقولهم فزعاً من الله وهيبة له، فإذا أفاقوا استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدّون أنفسهم مع الظالمين وإنّهم لأبرار، ومع المقصرين وإنّهم لأكياس أتقياء، ولكنهم لا يستكثرون لله عزّ وجلّ الكثير ولا يرضون له القليل ولا يدلّون عليه بالأعمال فهم أينما لقيتهم خائفون مهيمون وجلون.
فلمّا سمع أيوب كلامه قال: إنّ الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى كانت في القلب ظهرت على اللسان ولا تكون الحكمة من قبل السنّ والشيبة ولا طول التجربة، وإذا جعل اله تعالى عبداً حكيماً عند الصِّبا لم تسقط منزلته عند الحكّام، ثمّ أقبل على الثلاثة فقال: رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا، كيف بكم لو قلت لكم تصدّقوا عني بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا قرباناً لعل الله أن يتقبّل ويرضى عني؟ وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم فظننتم أنّكم عوفيتم بإحسانكم فبغيتم وتعزّزتم، لو صدّقتم ونظرتم بينكم وبين ربّكم لوجدتم لكم عيوباً سترها الله بالعافية، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقّرونني وأنا مسموع كلامي، معروف من حقّي، مستنصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فأنتم أشدّ عليَّ من مصيبتي.
ثمّ أعرض عنهم وأقبل على ربّه مستغيثاً به متضرّعاً إليه فقال: ربّ لأيّ شيء خلقتني ليتني إن كرهتني لم تخلقني، يا ليتني كنت حيصةً ملقاةً، ويا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتّني فالموت أجمل لي ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم وليّاً وللأرملة قيِّماً؟ إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي جعلتني للبلاء عرضاً فقد وقع عليّ البلاء لو سلّطته على جبل لضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي ذهب المال فصرتُ أسأل بكفّي فيطعمني من كنتُ أعوله اللّقمة الواحدة فيمنّها عليّ ويعيِّرني هلك أولادي، ولو بقي أحدهم أعانني، قد ملّني أهلي وعقّني أرحامي فتنكّرت معارفي، ورغب عني صديقي، وجحدت حقوقي، ونسيت صنائعي، أصرخ فلا يصرخونني، وأعتذر فلا يعذرونني، دعوتُ غلامي فلم يجبني، وتضرّعت إلى أمتي فلم ترحمني، وإنّ قضاءك هو الذي آذاني وأقمأني، وإن سلطانك هو الذي أسقمني، فلو أنّ ربيّ نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلّم ملء فمي ثمّ كان ينبغي للعبد أن يحاجّ مولاه عن نفسه، لرجوتُ أن تعافيني عند ذلك، ولكنّه ألقاني وعلا عني فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، لا نظر إليّ فرحمني، ولا دنا مني فأتكلّم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.
فلمّا قال أيّوب ذلك أظلّتهم غمامة ونودي منها: يا أيوب إنّ الله يقول قد دنوت منك ولم أزل منك قريباً فقم فأدلِ بحجتك وتكلّم ببراءتك وقم مقام جبّار فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار.
تجعل الزيار في فم الأسد واللّجام في فم التنين وتكيل مكيالاً من التنور وتزن مثقالاً من الريح وتصرّ صرّة من الشمس وتردّ أمس، لقد منتك نفسك أمراً لا تبلغه بمثل قوّتك، أردت أن تكابرني بضعفك أم تخاصمني بعيّك أم تحاجّني بخطلك أين أنت مني يوم خلقت الأرض؟ هل علمت بأيّ مقدار قدرتها؟ أين كنت معي يوم رفعت السماء سقفاً في الهواء لا بعلائق ولا بدعائم تحملها؟ هل تبلغ حكمتك أن تجري نورها أو تسيّر نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ وذكر أشياء من مصنوعات الله.
فقال أيوب: قصرت عن هذا الأمر ليت الأرض انشقت لي فذهبت فيها ولم أتكلّم بشيء يسخطك إلهي اجتمع عليّ البلاء وأنا أعلم أنّ كلّ الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك لا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية، تعلم ما تخفي القلوب، وقد علمت في بلائي ما لم أكن أعلمه، كنت اسمع بسطوتك سمعاً فأمّا الآن فهو نظر العين، إنّما تكلّمت بما تكلّمت به لتعذرني، وسكتّ لترحمني، وقد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خديّ فدسستُ فيه وجهي فلا أعود لشيء تكرهه، ودعا.
فقال الله: يا أيوب نفذ فيك حكمي وسبقت رحمتي غضبي، قد غفرت لك ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية وعبرة لأهل البلاء وعزاءً للصابرين، ف (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) ص: 38 : 42 فيه شفاء، وقرّب عن اصحابك قرباناً واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك، فركض برجله فانفجرت له عين ماء فاغتسل فهيا، فرفع الله عنه البلاء، ثمّ خرج فجلس وأقبلت امرأته فسألته عنه فقال: هل تعرفينه؟ قالت: نعم، مالي لا أعرفه فتبسّم، فعرفته بضحكه، فاعتنقته فلم تفارقه من عناقه حتى مرّ بهما كلّ مال لهما وولد.