شيخ النحاتين العراقيين ملأ بغداد بأجمل التماثيل ويحلم بالمزيد
النحات العراقي الشهير محمد غني حكمت في ورشته في العاصمة الأردنية
رغم أن الحرب في العراق تسببت بتدمير وسرقة 150 تمثالا من منحوتاته من البرونز والخشب والحجر و300 وساما وميدالية وشارة من الذهب والفضة والنحاس والبرونز كانت معروضة في متحف ببغداد وتمثل كل مسيرته، إلا أن النحات العراقي الشهير محمد غني حكمت ما زال يعمل بشغف آملا بالعودة إلى بغداد ليكمل مشوارا بدأه قبل أكثر من نصف قرن.
ويقول حكمت (80 عاما) الذي اقترن اسمه بنصب "على بابا والأربعين حرامي" و"شهريار وشهرزاد" في مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية في عمان حيث يقيم منذ خمس سنوات: "رغم كل ما حصل ما زلت أحلم بالعودة إلى بغداد لأكمل ما بدأته قبل 60 سنة".
وأضاف من ورشته المليئة بعشرات النماذج الحجرية والبرونزية التي تروي بلغة الفن حكاية كل إنسان عراقي روعه الاحتلال وأفسد أحلامه وشرده للمنافي البعيدة حيث يعاني من الغربة والحنين إلى الوطن: "أنا متفائل بأن ما حصل سينتهي، فالعراق مركز ثقافي وحضاري عمره يمتد لآلاف السنين ويصعب تغيير جذوره خلال سنوات قليلة".
ولد حكمت في الكرخ ببغداد 1929 وسط أسرة محافظة شجعته على ممارسة هوايته. وعندما كان طفلا كان يذهب إلى ضفاف نهر دجلة ليصنع من الطين أشكالا لحيوانات وزخارف وقبب شبيهة بتلك التي تزين ضريح الإمام موسى الكاظم في بغداد.
وانصب اهتمام حكمت على إدخال الأساطير البابلية والسومرية والآشورية في أعماله حتى إنه عبر عن ذلك في مقدمة أحد كتبه عام 1994 قائلا "من المحتمل أن أكون نسخة أخرى لروح نحات سومري أو بابلي أو آشوري أو عباسي، كان يحب بلده".
وأنجز حكمت منذ تخرجه من كلية الفنون الجميلة بروما 1959 عشرات النصب في بغداد أبرزها حمورابي وشهريار وشهرزاد وكهرمانة والأربعين حرامي والمتنبي وبساط الريح والخليفة أبو جعفر المنصور والجنية والصياد، إضافة إلى أعمال أخرى لا تحصى منها 14 لوحة جدارية في إحدى كنائس بغداد تمثل درب الآلام للسيد المسيح.
كما أنجز حكمت في ثمانينات القرن الماضي إحدى بوابات منظمة اليونيسف في باريس وثلاث بوابات خشبية لكنيسة "تيستا دي ليبرا" في روما ليكون بذلك أول نحات عربي مسلم ينحت أبواب كنائس في العالم. فضلا عن إنجازه جدارية الثورة العربية الكبرى في عمان وأعمال مختلفة في البحرين تتضمن خمسة أبواب لمسجد قديم وتماثيل كبيرة ونوافير.
كما ساعد حكمت في عمل "نصب الحرية" الذي كان من تصميم أستاذه النحات العراقي المعروف جواد سليم الذي وافاه الأجل في سن الـ42 قبل اكتمال هذا العمل الذي يرمز إلى مسيرة الشعب العراقي من زمن الاحتلال البريطاني إلى العهد الملكي ثم الجمهوري.
وتم إنجاز النصب البرونزي بطول 50 مترا ويضم 25 شخصية بالإضافة إلى الثور والحصان، ويعد أحد أكبر النصب في العالم، خلال عامين في فلورنسا بإيطاليا ونقل إلى بغداد عام 1961 بطائرة.
وتتحدث مواضيع النصب عن المآسي التي مرت بالعراق، منها أم تبكي على ولدها وجندي يكسر قضبان السجن وأحلام ما سوف قد يأتي من حرية وثورة صناعية وزراعية.
ورغم أن هذا النصب الذي أزيح عنه الستار في 14 يوليو/ تموز 1961، قد تم إنشاؤه بعد سقوط الملكية في العراق (1958) ومجيء الزعيم عبد الكريم قاسم إلى السلطة إلا أن حكمت يؤكد بأن "العراق لم يشهد استقرارا أمنيا فعليا منذ ذلك الحين".
ويأمل حكمت الذي عمل 37 عاما أستاذا في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد بأن يعود إلى بغداد يوما لإنجاز ثلاثة أعمال برونزية: الأول تمثال لسندباد البحري عائم وسط نهر دجلة والثاني نافورة مصباح علاء الدين السحري في ساحة الخلاني والثالث لحرامي بغداد تلك الشخصية التي اشتهرت في العصر العباسي عندما كان يتلثم بالليل ليسرق أغنياء بغداد ويوزع بعد ذلك المال على الفقراء.
ويقول: "أنا أكملت كل المخططات وأعددت المجسمات الصغيرة وآمل أن تستتب الأوضاع في بغداد حتى أتمكن من إنجاز هذه الأعمال".
وينتقد حكمت الاحتلال الأميركي للعراق وما رافقه من عملية تدمير وسلب ونهب لإرث الفن العراقي، ويقول "لقد أدى ذلك الاحتلال البشع إلى تدمير ستة آلاف عمل فني من مجموع ثمانية آلاف عمل كانت تمثل أرشيف الفن العراقي".
ويضيف: "كان الطابق الثالث من متحف صدام للفنون يضم 150 تمثالا من أعمالي البرونزية والخشبية والحجرية التي تمثل كل مسيرة حياتي بالإضافة إلى فاترينه (واجهة) تضم 300 وسام وميدالية مختلفة من الذهب والفضة والنحاس".
ويتابع "كنت حينها في البحرين وبسبب الحرب لم أتمكن من العودة إلى بغداد إلا بعد ثلاثة أشهر لأرى أن كل شيء قد سرق ونهب وما تبقى هو حطام لا يمكن أن يكون من فعل إنسان عاقل".
وحول نصب "قوس النصر" في ساحة الاحتفالات الكبرى ببغداد الذي يرمز إلى قبضتي صدام تمسكان بالسيف والذي أنجزه خلال الحرب العراقية-الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي، يقول حكمت إن "الحكومة في ذلك الحين أعدت مسابقة شارك فيها العديد من النحاتين العراقيين، أنا شخصيا لم أشارك، فاز بها خالد الرحال لكنه مات قبل أن ينجز النصب".
وأضاف: "بعدها اتصل بي محمد فاضل وزير الإسكان، وقال لي: محمد تقرر تكليفك بتنفيذ هذا العمل. اعتذرت بلا جدوى، لذلك تم تنفيذه من قبلي لكني لست صاحب الفكرة".
وخلص إلى القول "أنا لم أحب السياسة يوما، لأني ببساطة فنان كل مصيبته أنه يهوى العراق".