أستيقظ كل صباح ، أتوجه لغسل وجهي ، فأسمعه يغرد كالعادة في حديقة مجاورة . سألت عنه جارنا ، عن شكله ولونه وحجمه . لا الشكل العادي ولا اللون الأسود ولا الحجم المتوسط ولا المنقار الأصفر يوحي بتلك الانسيابية وتلك الجمالية لهذا التغريد القزحي المنعش . يتكرر كل صباح ولا أسأم منه . التكرار أهم مقياس للجودة والنجاح . أي لحن وأي أغنية وأي قطعة موسيقية كلاسيكية أو شعبية وأي تغريد لا تضع عليه طابع الجودة إلا إذا سمعته باستمرار دون أن تمله . الرداءة لاصقة بالملل والإتقان لا تفسده الإعادة . فيروز سأظل أسمعها وأطالب بالمزيد وكذلك روائع رموز الطرب العربي . تكرار قراءة قصائد الحب الجميلة لا يفقدها معانيها السامية وذلك الإحساس بمناصرة العاشق والوقوف في صفه ولو كان قيس العابث بعادات القبيلة . "السلام عليكم" نكررها يوميا وتبعث فينا الدفء والأمان ولا زال إشعاعها مسالما ودودا منذ القدم . وكذلك "صباح الخير"وكل كلمات التحايا المعروفة وبكل اللغات . كذلك تغريد طائري الأسود . لم أره وأصبحت أحبه إ تمنيت لو يعلم . ألبي له كل رغباته مقابل إمتاعي ، إني أنتعش بموسيقاه .
سألت عنه من أعرف من الفلاحين . تعرفوا عليه بسرعة . يسمونه بالمؤنث : "الجحمومية" . كلهم يكرهونه ويطردونه بل يحاربونه و هو لا يهتم بذلك .هكذا حالنا نحن بني البشر فالفلاح يكرهه ولا يهتم بتغريده لأنه يأتي على نسبة مهمة من محاصيل الأشجار المثمرة بينماأعشق طائري لأنه يمتعني باستمرار وبدون مقابل . يرونه شرا ولا أرى فيه إلا الخير. وموقفنا من الآخر دائما يتحدد بقدر ما نجنيه منه وينال منا .من عجب الصدف أن طائري يعشق أيضا الجمال الجوهري . لا يقتات إلا من لب عناقيد العنب والتين ، فاكهتي المفضلتين ، ويترك القشور. بخلافي أنا أهتم حتى بقشور الفواكه لأنها صحية مفيدة ولونها جميل خلاب . يقتات طائري كذلك بكل ما لذ وطاب من الفواكه الأخرى . نفسه تأبى إلا أن تقتات من الفواكه فقط ، ألذ المأكولات وأجملها .لو يعلم طائري الأسود أني من عشاق تغريده وأني مستعد لإطعامه بأجود الفواكه وألذها كل صباح ومساء على أن لا يفاجئني يوما ويغادر حديقته ، مقابل أن يمتعني بسمفونياته ولو كررها باستمرار وعلى غصن شجرته المياد لا داخل القفص ، أكره القيود ولو كانت من ذهب . كيف تسمح لي نفسي أن أدخل طائري إلى قفص ولو من معدن نفيس . أرغب أن يستمر في التغريد وفي فضائه المستحب . من يبلغه بذلك ؟ كحبيبة بلا عنوان إ وبلا بريد تقليدي أو إلكتروني . أو ترفض المراسلة والدردشة وباللون الأحمر . تكتفي بعشقها وهي لا تعلم . حب من جانب واحد أو حب مستحيل . اختر له من الأسماء ماشئت . أعشق تغريده وإن كان مظهره لا يغري . إنه جمال الجوهر . أثمن جمال في الكون . النحلة تسعى إلى رحيق الورود لا إلى مظهرها والفراشة كذلك . أجمل وأثمن ما في الأرض يستخرج من جوفها : الماء والذهب والماس والبترول ومعادن أخرى نفيسة . جمال المظهر يغري كذلك ولكنه عرضة للذبول والزوال . حتى جمال الفراشات جوهري لأنها تخرج للفضاء من جوف الديدان . كل الأزهار جميلة بألوانها وتناسقها وطراوتها ولكني أفاضل بينها بالعطر . لون الزهرة البنفسجية مثير جذاب ولكن عطرها أكثر إثارة وجاذبية وتألقا . وقريبا منها يحتل الياسمين والفل والورد والرياحين والخزامة مراتب متقدمة . حسب عطرها طبعا . هذا ترتيبي الخاص . و"للناس فيما يعشقون مذاهب ".أحيانا جمال المظهر قناع لعيوب كثيرة لذلك نلتجئ إلى الطلاء أوالماكياج لإخفاء العيوب . قد يغريك مظهر الإنسان أحيانا ولكن قد يكون جوهره منتخبا لكل ما يشين . لذلك يقال : "مظهرالإنسان الأنيق يرفعه قبل جلوسه وعلمه بعد جلوسه". أحلى ما في الفواكه لبها وعصيرها وأجمل ما في الإنسان علمه النافع وفنه الممتع وفكره الراجح ومشاعره الرقيقة وقيمه السامية الإنسانية السمحة وكل ذلك يكمن في الجوهر لا في المظهر . للمظهر جاذبية حقا ولكنها خادعة أحيانا فليس كل ما يلمع ذهبا وليس كل ما يغري باللمس نافعا . وجاذبية جمال المظهر تخضع لممارسات الدهر وتحولاته وتأثيراته ، ممارسات التغيير والتحويل . قد تتحول الباقة إلى ذبول بعد أسبوع والحسناء إلى عجوز بعد عقود ولاعب الكرة الماهر إلى مدرب فاشل بعد سنوات . ولكن الفن الرفيع بلوحاته وأغانيه وسمفونياته وإبداعاته والعلم النافع باكتشافاته والفكر السامي بتنويره كل ذلك يواكب حياة الأنسان بعد زوال المصادر. وما السر في حب الأحفاد لأجدادهم وجداتهم ؟ إنه جمال الجوهر . فالأطفال خبراء في معرفة الجمال الحقيقي ومنه جمال الأمومة والأبوة واللعب والألعاب ولذلك لا ينامون إلا بالموسيقى ولا توقظهم من الأحلام الجميلة إلا الرنات الموسيقية للساعة الحائطية حين يحين وقت المدرسة . لكل هذا أعشق جمال الجوهر وأنصبه ملكا للجمال ومن أجل هذا أحببت تغريد طائري الأسود وعطر زهرتي البنفسجية وأصبحت متيما بهما . أحب فيهما جمال الجوهر: التغريد والعطر ، أجمل ما في الطيور والأزهار . مشكلتي أنهما بلا عنوان وأنني لو بحت لهما بذلك قد يكون جوابهما : ( شخت يا عم... وتجاوزت سن الهيام )....حقيقة....مظهري الآن لا يغريهما ولا يوحي بما أكنه لهما .فعلا ..كثيرا ما يكون المظهر خادعا.
في أمــــان الله