في قرية ‘بلونك’ الصربية الواقعة تحديداً في جنوب شرق القارة الأوروبية، إكتشف علماء آثار ألمان مقبرة، لها قيمة تاريخية كبيرة، ليس فقط من ناحية تاريخها الذي يرجع الى 7300 سنة مضت، إنما كذلك الى وجود قطع من معدن النحاس وأدوات نحاسية كثيرة وجدت بجوار الجثث الراقدة في المقبرة، ومع استمرار الإكتشافات في أنحاء متفرقة من القرية، وبعد إجراء التجارب والأبحاث اللازمة لتحديد عمر المقبرة، تبين ان هذا النحاس الموجود بكثرة في كل المقابر المكتشفة في تلك المنطقة قد وصل اليها قبل 800 سنة أي قبل التاريخ المسجل رسميا لدى العلماء عن العصر النحاسي في أوروبا .
كيف عرفت إذن تلك المنطقة النائية طريقة استخراج النحاس في هذه الفترة المبكرة عن باقي دول اوروبا؟ وماذا يعني ذلك؟ وهل كان أهالي تلك المنطقة هم الذين استخرجوا النحاس؟ ام تم إستيراده من الخارج وتحديداً من بلاد حضاره ما بين النهرين’ العراق’ الآن ؟التي كانت في ذلك الوقت تشتهر باستخراج المعادن،وقد بلغت من العلوم والآفاق الكثير، ثم ما هو دور حضارة بلاد ما بين النهرين في النقلة الحضارية لأهالي منطقة البلقان قبل 7000 سنة ؟
شعاع حضارة ما بين النهرين يصل أوروبا
من المعروف أن حضاره بلاد ما بين النهرين أي ما بين دجلة والفرات، هو وصف اختصت به بلاد العراق التي كانت تتمتع بمركز الحضاراة الأول في العالم ومن أشهر حضارتها هي سومر وبابل واشور واكد، ومع ازدهار تلك الحضارات توسعت على حساب الدول المجاورة حتى أصبحت تمثل اجزاء من ايران وسوريا وحتى فلسطين، وقد وصل تفوق تلك الحضارات العراقية الى أجزاء من القارة الأوربيه وهو ما تؤكده كثير من الاكتشافات الأثرية منها هذا الاكتشاف الجديد.
عالم الآثار الألماني ‘رايكو كروس’ المتخصص في حفائر العصر البرونزي والنحاسي من جامعة ‘جوتنجن’ الألمانية والذي رافق البعثة العاملة في تلك المنطقة الصربية يقول: ان هذه المنطقة او قرية ‘بلونك’ الصغيرة لم تكن قبل سبعة آلاف عام إلا مدينة أوروبية كبيرة تجتذب التجار والأغنياء من الداخل والخارج وكانت التجارة فيها مزدهرة للغاية وهذا ما يفسر ازدحام تلك المدينة بالبيوت القديمة المتجاورة والمتلاصقة كما كشفت الحفريات عن ذلك، ويستطرد قائلاً أن وجود النحاس بكميات كثيرة في كل حفريات القرية يظهر الى اي حد كان الناس اثرياء ويستخدمون النحاس في كل شيء في الزينة وصناعة الأسلحة والتعاملات التجارية وأدوات المطبخ، انهم بالفعل كانوا يستخدمون النحاس في كل شيء تقريبا فقد كانت أهميته بالغة في تلك الفترة الزمنية .
في هذا السياق يقول ‘كروس’ إن اكتشاف تلك المقبرة الصربية سيغير المفهوم القديم لدى العلماء عن ظهور النحاس لأول مرة في أوروبا، وقد يدلل على أحتمالية وجود اتصال او قد يكون هناك تجاراً من بلاد ما بين النهرين قد علموا البلقانيين طرق استخراج النحاس او ربما ايضا جلبوه معهم الى ذلك المكان قبل ظهوره في اوروبا. لكن أعضاء آخرين في البعثة يرون ان هناك عدة اماكن اخرى في البلقان قد تم اكتشاف ادوات ومناجم وافران لصهر النحاس فيها، وكلها تدل على ان سكان البلقان ربما عرفوا طرق استخراج النحاس وطرق استخدامه وكذلك اهميته القصوى في التجارة وما يجلبه من ثراء من خلال معرفتهم بتجار من حضارة ما بين النهريين .وقد يكون ذلك هو السبب في وصولهم الى هذه الدرجة من الثراء . يعزز هذا الرأي أن اكتشافات النحاس امتدت على ساحل البلقان الذي يقع مباشرة على ساحل البحر الأسود والذي هو سواحل بلغاريا الحالية، وقد كان في القدم عبارة عن مدينة حضارية كبيرة تقع بالقرب من مدينة ‘فارنا’ الحالية ، لقد عثر فيها العلماء على الكثير من المقابر التي لا تخلو من المجوهرات والنحاس والذهب وادوات مصنوعة من الحجارة والتي أتت من بلاد بعيدة مجاورة وقد تكون قادمة من الموانىء التي تقع على بحر ايجة وفق رأي الأثريين.
صربيا كانت أغنى دول البلقان
كانت صربيا في الأساس قبل 7000 سنة المكان المفضل للتجار الأغنياء في كل منطقة البلقان،والفضل في ذلك يرجع الى تجارة النحاس، دلائل كثيرة تؤكد على ثراء المنطقة، على سبيل المثال هو نجاح علماء الأثار في تجميع 1516 كيلوغرام من الذهب من مناطق دفن متناثرة في البلقان وتلك الكمية وفق العلماء تفوق كل الذهب المكتشف في كل أنحاء العالم في تلك الفترة الزمنية مما يعطي صورة تفصيلية عن حالة الثراء التي كان يتمتع بها اهل البلقان في ذلك الوقت اضافة الى تمتعهم بشبكة تجارية مترامية الأطراف مع كل البلدان المجاورة وأهمها حظارة العراق.
أحد الألغاز التي تحير العلماء في الاكتشافات المتتالية التي أجروها في البلقان هو لماذا اختفى عصر النحاس في المنطقة فجأة قبل خمسة آلاف سنة بعد أن كان أول ظهور له في أوروبا في تلك المنطقة ؟ تقول :الأثرية ‘يولكا كوتسمانوفيك’ التي ترأس اعمال الحفائر في البلقان: نعم فقد أظهرت الحفائر أن المنطقة بالفعل كانت ثرية، ففي تلك الحقبة وقبل 7500 سنة قمنا بدراسة التماثيل الطينية المكتشفة وتعرفنا من خلالها على طرق الناس في ارتداء الملابس وكيف كان شكلها، لقد كانوا منظمين جدا فقد كانت الملابس الصوفية متوفرة والعباءات الصوفية كذلك كانوا كذلك يذهبون الى الحلاقين ويمشطون شعورهم ويضعون الزينة والقلائد المعدنية عليها، ايضا أهتموا كثيراً بارتداء القلائد والأساور المعدنية المصنوعة من الذهب والفضة والنحاس حول المعاصم او حول الرقبة . أما عن الغموض الذي يرافق زوال تلك الحقبة الغنية التي شهدتها البلقان و’بولنك ‘الغنية فإن ‘يولكا كوتسمانوفيك’ ترجع ذلك الى نهاية مأساوية شهدتها المنطقة، فقد شب حريق رهيب في ‘بولنك’ اتي على المدينة بالكامل وكان ذلك تحديدا قبل 5000 الاف سنة وكان من نتيجة ذلك ان تم دفن كل ممتلكات السكان تحت ركام الحريق، لقد كان حجم الدمار هائلا وكبيرا بحيث لم يرغب احد من السكان للعودة والعيش هنا مرة اخرى .
نهاية العصر النحاسي
لقد انتهى العصر النحاسي في تلك المنطقة بنهاية بولنك ونسي الناس تاريخ تلك المنطقة، فكما كانت البداية غامضة كانت كذلك النهاية أكثر غموضا. ويرى كروس ان 100 الى 200 سنة هي فقط فترة الرخاء وازدهار عصر النحاس في البلقان ثم امتد صمت يصل الى الف سنة قبل اكتشاف البرونز حيث كانت تلك السنين هي الفجوة بين استخراج النحاس واستخراج البرونز . لذلك يرغب علماء الآثار في عمل مزيد من الحفائر ليس فقط في البلقان ولكن في كل من سورية وايران والاناضول لمعرفة الحقيقة كاملة عن وصول النحاس الى البلقان ومن ثم بداية العصر البرونزي. من المعروف أنه في العصر الحجري أهتم الناس كثيرا بجمع الصخور الجميلة مثل المرمر على سبيل المثال وقد فتنهم وميضه الأخضر، لقد جرب القدماء حوالى 57 بالمئة من الصخور وقاموا بتسخينها على النار في خطوة أولى على طريق تصنيع المجوهرات النحاسية، لذلك أصبح واضحا في ‘بلونك’ أن العلماء يقفون أمام نظرية جديدة تضعهم في تلك المدينة أمام نهاية العصر الحجري وبداية العصر البرونزي حيث تم العثور على الكثير من الفؤوس والمطارق والاسلحة المصنوعة من النحاس وهو بداية العصر البرونزي.
منقول