كان سقراط أعظم الفلاسفة اليونانيين الذين عرفهم العالم. وظلت فلسفته تنشر شذاها في العالم.. وكان هذا الفيلسوف محبا للجمال.. ومحبا لقيم العدل.. واستطاع بذكائه الحاد أن يقضي علي السفسطة التي سادت عصره.. هذه السفسطة التي تقلب الحق باطلا، والباطل حقا بادعاء أن كل الأمور نسبية فليس هناك فضيلة مطلقة..
مركز
فالسرقة مثلا إن كانت قد أضرت المسروق، فهي مفيدة للسارق. وإذا قال أحد من الناس إن الجو حار، وقال آخر إن الجو بارد فكلاهما في رأي السوفسطائيين علي حق لأن كل واحد منهما شعربما أحس به!
وكان من الممكن أن تفسد هذه الفلسفة الحياة، لولا أن تصدي لها الفيلسوف العظيم سقراط، وأْعاد الحق إلي نصابه.. ليعرف الناس أن الحق حق، وأن الباطل باطل، وأن الحقيقة لايختلف حولها إثنان. استطاع الفيلسوف العظيم أن يخمد أفكار السوفسطائيين. ويضع نهاية لتشويههم الحقيقة عن طريق منهجه بأن يلقي علي سامعه الأسئلة التي تقوده إلي الحقيقة .. والتي من خلالها يظن سامعه أنه اهتدي إلي هذه الحقيقة بنفسه!
مركز ر
وكانت مآثر هذا الفيلسوف العظيم.. إنه كما يقولون عنه أنه أنزل الفلسفة من السماء إلي الأرض بمعني أن جعل الفلسفة تهتم بمشاكل الإنسان وهمومه.. بأن يعرف الإنسان نفسه لا أن ينطلق ببحث
فيما وراء الوجود.. وقال كلمته الشهيرة التي كانت محفورة علي معبد دلفي (اعرف نفسك) !
كان دائما يقول:
'أني أسير في أعقاب الحق، وأتلمس آثارة تلمس كلب الصيد للفريسة'
'أنا لا اعرف غير شيء واحد، هو أنني لاأعرف شيئا'.
أي أنه كان منتهي أمله أن يتعلم، وأن العلم هو ضالته وأن علي كل إنسان سوي أن يكون العلم ضالته.
* * *
كان سقراط ضخم الجثة.. غليظ الشفتين، أفطس الأنف. جاحظ العينين.. وكان متزوجا من زوجة متسلطة اسمها( أنثبي) .. لأنه ترك مهنته كنقاش، وراج يجوب شوارع أثينا ينشر الفلسفة ويبشر بها دون أن يلتفت لمهنته!
وكان هو يتحمل حماقات هذه الزوجة ويقول أن علي الأنسان أن يتزوج فإن سعد في زواجه فقد غنم هذه السعادة، وأن فشل في هذا الزواج أصبح فيلسوفا!!
* * *
وكان لابد لمثل هذا الانسان الذي يلتف حوله شباب أثينا من كل الطبقات.. الغنية والفقيرة، للاستفادة من حكمته.. والاستما ع إليه وهو يتحدث عن الإنسان وحكمة الحياة. وأنه لاينبغي الخوف من الموت.. لأن الموت إما عدم وبالتالي لن يكون ثمة شعور به.. وإما أن الأنسان سيري في هذا العالم الآخر الذين تركوا بصمات في هذه الحياة ورحلوا.. ومن هنا يسعد الانسان بهذا العالم الذي 'لانعرف عنه شيئا.. وفي كلا الحالتين لم يعد الموت مخيفا.
واستمع الشباب إليه وهويتحدث عن الله ووحدانيته كما استمع الشباب إليه وهويسخر من ديمقراطية أثينا.
كل ذلك دفع البعض علي الحقد عليه حسدا من قدرته المذهلة في النقاش، والوصول بسامعه إلي أبواب الحقيقة.
وحقد عليه السوفسطائيون لأنه هدم مذهبهم في الشك في كل الأمور حتي تتقدم الحقيقة المطلقة ولم يكن غريبا بعد ذلك أن يجابه بالاتهامات التي تزج به في أعماق السجن تمهيدا لمحاكمته والتخلص من حياته بالموت!
مركز
وكان أن وجهت إليه تهمتان
التهمة الأولي أنه لايعبد آلهه أثينا يعيد آلهة من عنده.
التهمة الثانية أنه يفسد الشباب وقد وجه إليه هذا الاتهام أحد تجار الجلود ويدعي أنتيس(Anytus) لأنه أفسد ابنه الذي حرضه علي ترك مهنة والده، والاتجاه لدراسة الفلسفة وقبض علي سقراط ليقدم إلي المحاكمة!
* * *
ونري من خلال ماكتبه أفلاطون علي لسان استاذه سقراط، كيف دافع سقراط عن نفسه في محاكمة ظالمة.. ومن خلال دفاع سقراط عن نفسه، نري كيف انكر الاتهام الذي وجه إليه، وكيف عاتب الذين جاءوا ليحكموا عليه بتهمة أنه ينكر الإله بجانب إفساده للشباب، ومع أنه فند كل التهم التي وجهت إليه بأسلوب جذاب، ومنطق عميق إلي أنه حكم عليه بأن يموت بالسم!
وقال لهم سقراط وكأنه يودع الحياة، ويودع أصدقاءه.. بعد أن قرر أن ينفذ الحكم ولايهرب من سجنه، وكان في إمكانه ذلك، فقد كان من بين تلاميذه تلاميذ أغنياء يمكنهم أن يفدوا استاذهم عن طريق رشوه الحراس، وتوفير الوسيلة لهرب سقراط، ولكنه رفض ذلك وقال لهم كلماته التي عاشت:
لقد أزفت ساعة الرحيل..
وسينصرف كلا منا إلي سبيله
فأنا إلي الموت، وأنتم إلي الحياة، والله
وحده عليم بأيهما خير
ونقرأ في كتاب ( أعلام الفكر الأولي) نهاية سقراط كما وصف ذلك أفلاطون في (فيدون) وهوكتاب يعد من كبريات ملاحم العالم، فيقول أن تلاميذ سقراط احتشدوا حول أستاذهم المحبوب، فدعا سقراط أحدهم إليه وجعل يمر بيده علي شعره وهويشرح آراءه في الحياة والموت وخلود الروح فالموت نسيان خالد حلو لايفسده إضطهاد أوظلم أو خيبة أوألم أوحزن، أو أنه باب نلجه فنمضي من الأرض الي السماء.. إنه المدخل إلي قصر الله 'وهناك أيها الصحاب لايقتل إنسان من أجل عقائده، فابتهجوا إذن واستبشروا، ولا تأسوا علي فراقي.. وقولوا حين تودعونني القبر إنكم إنما دفنتم جسدي لا روحي'.
توشك الشمس أن تغرب، فيدخل السجان وفي يده السم ويقول:
'بربك ياسقراط لا تحنق علي فأنت تعلم أن غيري يحمل إثم موتك ولا أحمله أنا'
يقول ذلك، ويمد يده بالكأس إلي سقراط ويجهش بالبكاء وهوعائد من عنده.
لم يستطع أحدنا أن يحبس دمعه، فانهلت شئوننا برغمنا عدا سقراط فقد ظل رابط الجأش يقول لصحبه:
* ماهذا السخف.. لقد صرفت النساء تفاديا لمثل هذا المشهد.. السكينة إذن ودعوني أمت في هدوء'
فلما سمعنا هذا استجبنا وكفكفنا الدمع فلما شرب سقراط قدح الشوكران ( السم) استلقي علي سريره كما أمره السجان، وسري السم تدريجيا من قدمه صوب قلبه فاهتز هزة عنيفة، وجمدت عيناه.
كذلك كانت نهاية استاذنا الذي أستطيع أن أقول عنه بحق أنه سما في حكمته ورقته علي كل من عرفت من الناس'
مركز
وقد صور هذا المشهد أمير الشعراء أحمد شوقي في صورة شعرية أخاذه عندما قال:
سقراط أعطي الكأس وهي منيته شفتي محب يشتهي التقبيلا
عرضوا الحياة عليه وهي رخيصة
فأبي وآثر أن يموت نبيلا
إن الشجاعة في القلوب كثيرة
ورأيت شجعان العقول قليلا