الملكة فكتوريا
كانت الليدي فاني اليوت تصنف الناس أبيض وأسود، مؤمن وكافر، وكانت ترى أن السياسة أخلاق، وتندهش لتبرج المرأة في الحفلات العامة وتقول "إنني لا أطيق أن اختلف عن طبيعتي فيرى الناس إنسانا أخر غيري".. وكانت عندما تقع أزمة سياسية تفتح الكتاب المقدس وتظل تقرأ حتى يطلع عليها النهار بحل للمشكلة فيتظاهر الناس ضد زوجها..ّ
كانت فاني اليوت – التي أصبحت الليدي جون راسل بعد زواجها من رئيس الوزراء، وهي جدة الفيلسوف برتراند راسل – فتاة خجولة إذا نظر إليها أحد أحنت رأسها حتى لا ترى عينيه، وكان وجهها يحمر ويتغامزن زميلاتها. إرادة من حديد
لكن هذا الخجل، كما يروي الكاتب أنيس منصور في كتابه "السيدة الأولى"، يخفي وراءه إرادة من حديد، فقد استطاعت أن تحكم بريطانيا بيد زوجها وعقله، فقد كانت عظيمة الثقافة الدينية والأدبية، وإذا تسلمت أذن زوجها لم تتركها حتى يتخذ قرارا أو ينام..!
أما زوجها اللورد جون رسل فقد توفيت زوجته وتركت له أربعة من الأولاد، فكتبت فاني إلى إحدى صديقاتها "إن الرجل حزين. حزين.. وإن قلبي يتمزق إذا رأيته فأنا معجبة به. ثم ما الذي يستطيعه مع هذا العدد من اليتامى ومشاكل إنجلترا أيضا؟".
وكان رسل صديقا لوالدها، لكنها لم تتصور لحظة واحدة أن تكون زوجة، لهذا الرجل أو غيره، فقد نذرت نفسها لله.. وفي يوم تلقت أسرتها خطابا من اللورد رسل يعرض عليها الزواج، وكانت مفاجأة أن يطلب يدها وهو يكبرها بربع قرن ولديه هذا العدد من الأولاد، فتلقى من أسرتها ردا مهذبا بالرفض.
كتبت فاني إلى أختها تقول "تصوري أنه طلب يدي.. أدهشني ذلك. نظرت إلى نفسي في المرآة لم أجد شيئا يغري رجلا. فأنا أكثر نحافة منه ووجهي يدل على أنني أكبر سنا.. ولابد أن تكون هذه الشيخوخة المبكرة من الحزن الدائم والخوف من الخطيئة.. فأنا لم أعرف الضحك، ويبدو أن هذا هو الشيء الوحيد الذي جذبني إليه، وبذلك يكون زواجنا حزنا مضاعفا، ليعيش أطفالي وأطفاله في مأتم دائم.. إن الموت أفضل من هذا كثيرا. ما رأيك أنت؟ ".. لم تنتظر رأي أختها وإنما قررت أن تتزوجه، وكانت حينها في السادسة والعشرين من عمرها.
نفاق وكذب
ذات يوم كتبت لأختها "كرهت نفسي.. هذا مؤكد، ولا أعرف كيف تطيق النساء أن تكون لهن أشكال وألوان وأزياء وابتسامات كلها كاذبة.. كيف تكذب المرأة على الرجل؟ إنني وجدت زوجة أحد الوزراء تغمز وتلمز وتضغط على قدم رجل غير زوجها، ثم تقابل زوجها بالقبلات.. عندك تفسير؟ هذه مفاجأة كبرى لم أرها، لم أسمع بها.. إنني أيقنت أن الحفلات العامة إنما هي حفلات النفاق والكذب العام!
كان زوجها اللورد هو الآخر لا يعرف المرح ولا يفهم النكت. قال له أحد أصدقائه: يا أخي طلبنا منك أن تتزوج أية واحدة.. لا واحدة كهذه التي تزوجتها فهي تختلف عن كل نساء الدنيا.. لا تريد أن تكون من النساء، ولا تحب جلسة الرجال.. وتريد أن تظل دائما مع النساء تلعن الرجال ومع الرجال تلعن النساء!
رسالة مقدسة
كتبت الليدي إلى إحدى صديقاتها تقول إن رسالة زوجي مقدسة. فهو مكلف بالتخفيف عن الفقراء. وجعل بريطانيا دولة عظيمة الاحترام، وزواجي منه رسالة مقدسة، أن أكون زوجة له هو بالذات، وأن أكون أما لأولاده الأربعة، ولأولادي أيضا، أي شرف أعظم من ذلك؟
كتبت لأختها تقول "إن زوجي لا يقاطعني مطلقا إذا أسديت له النصيحة. إنه يظل يسمعني حتى يغلبه النوم، وفي الصباح يقول لي: معك حق في كل شيء قلته بالأمس. إنك تخالفين كل الوزراء والملكة فكتوريا أيضا. ولكن المهم هو ما تقولينه أنت!
ولكن الملكة فيكتوريا ترى أنه لا يصلح أن يكون رئيسا للوزراء، فهو رجل غير قادر على اتخاذ القرار.. وإن كل قرار يدخل مكتبه يتمدد عليه، حتى أصبح يضع رأسه بين جبلين: جبل المشروعات التي لم تنفذ، وجبل القرارات التي لم تصل إلى الناس.
وكانت الليدي رسل في دفاعها عن زوجها تهاجم كل الناس بما فيهم الملكة فيكتوريا، فلما دعتها الملكة للحفل السنوي الكبير لم تحضر ولم تعتذر، فتضايقت منها الملكة.
كان اللورد رسل إذا ابتعد عن زوجته أياما في العاصمة بعث لها بخطابات من الشعر الإنجليزي واللاتيني، فقال لها " أنت أن تختاري المعني الذي يناسب علاقتنا المقدسة، وأنت تعرفين أنني لم أنجح مع المرأة في كل حياتي. وأنت الاستثناء في هذه القاعدة، وتقدمت لفتيات كثيرات كلهن رفضن الزواج مني، حتى انت، ولكنك أفضلهن جميعا حين وافقت، وحين أسعدتني بحنانك وحكمتك".
واختلفت الليدي مع كل الوزراء، وكل وزير تختلف معه تحذفه زوجته من قائمة المدعوين إلى حفلاتها، وكانت تقابل الناس بالملابس العادية وشعرها المنكوش، لأنها ترى في الزينة كذبا، وفي الاهتمام الخاص بمظهر نفاقا. وهي تكره أن تبدو على غير طبيعتها شيء واحد أفلحت أختها في تغييره، فلم يكن من عادة الليدي رسل أن تستحم كثيرا، فقالت لها: إن رائحتك تطفش الكلاب وكانت تقول لها، ولكن القديسين لم يعرفوا العطور، وتقول: ولكن استحمي! وترد عليها: إن احتقار الجسد فضيلة!
وأختها تقول: واحترام مشاعر الناس فضيلة أخرى.. إن الناس يمنعهم الخجل من ان يقولوا لك أف.. اف!
فترد عليها: ولكن أحدا لم يقل لي ذلك!
فقالت أختها لأن عندهم ما ليس عندك: الذوق.. وذهبت أختها وأتت بواحد من أطفالها وسألته: هل تكذب؟
قال: لا
قالت: هل تجد رائحة ماما كريهة؟
قال: جدا
قالت: فلماذا لا تقول لها؟
قال: ولكنها لم تطلب رأيي
كان رسل لا يختلف عن زوجته في رأيه في الناس، هو يرى أنهم كذابون معظم الوقت، وهي ترى أنهم كذابون دائما.. في يوم قال لزوجته: أرأيت فلانة؟ إنها جميلة. قالت: انت رأيتها جميلة؟
قال: فيها بعض الجمال.
قالت: هذه خطيئة.
قال: بل خطيئتان.. أن أقول عنها كذلك وأن أصف امرأة غير زوجتي بالجمال.
ولم تنس له مطلقا هذه الملحوظة فكانت توقظه من أحلى نومه لتسأله: وما الذي أعجبك بالضبط فيها؟
فيقول: يكفي أنها لا تتكلم كثيرا.
إذن أنا لست جميلة لأنني لا أكف عن الكلام.
أنت لا تتكلمين بل تفكرين
وفي يوم في حفلة كبرى سحبت زوجها من ذراعه لتسأله: وما الذي جعلك تقول إن هذه السيدة جميلة؟
وكان ذلك أمام السيدة وزوجها وزير الخارجية وبعض الضيوف، وبسرعة قال زوجها إن السيدة تراك أجمل امرأة في العالم لابد أن تكون جميلة، وخرجت الزوجة وزوجها وبعض المدعوين ولم يظهرا في حفلاتها بعد ذلك..!
عود منقول