سور القاهرة
عصفور محني يغني
على الأفراح ومن تاني
يرمي الغناوي تقاوي
تبوس الأرض تتحنى
تفرح وتطرح وتسرح
وترجع تاني تتغنى
اللي بنى مصر
كان في الأصل حلواني!!
" من كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم"
من لم يشاهد القاهرة لم يشاهد الدنيا؛ فأرضها تبر ونيلها سحر، ونساؤها حور الجنة في بريق عيونهن، ودورها قصور ونسيمها عليل، عطور كعود الند ينعش القلب، وكيف لا تكون القاهرة كذلك وهي أم الدنيا؟!
لم يخطئ هذا الحكيم الذي قال كلماته من قديم الزمان، فبناء مدينة القاهرة قصة فريدة، تبدأ عندما فكر الفاطميون في التخطيط للاستيلاء على حكم مصر، لتحقيق هدفهم في القضاء على الخلافة العباسية السنية لتحل محلها الخلافة الفاطمية الشيعية.
بوابة الفتوح
بعث الخليفة الفاطمي المعز لدين الله بقائد جيوشه جوهر الصقلي إلى مصر ليستولى على السلطة وينفصل بها عن الدولة العباسية. وصل جوهر في 17 شعبان 358 هـ / 968 م ، فاتجه في نفس الليلة إلى الصحراء القريبة من تلال المقطم واختار مكان العاصمة الجديدة ونصب خيامه، ومن المرجح تاريخيا أن جوهر قد اختار هذا الموقع لاعتبارات عسكرية، وقد أطلق جوهر على العاصمة الجديدة اسم "المنصورية" نسبة إلى الخليفة المنصور الفاطمي والد الخليفة المعز، تكريما لذكراه وظلت تعرف بهذا الاسم حتى وصول الخليفة الذي غير اسمها إلى "القاهرة المعزية".
قبل وضع أساس القاهرة أتى جوهر بالعرافين المغاربة، كما تروي جيهان مأمون في كتابها "همسات مصرية.. جولة عبر الماضي"، وطلب منهم أن يختاروا توقيتا يكون طالعه سعيدا لرمي الأساس، وأحاط المدينة بقوائم خشبية، ووضع بين كل عمود وآخر حبالا تتدلى منها أجراس، لتدق كلها في وقت واحد عندما يعطى العرافون الإشارة المتفق عليها.
وقف العرافون يتشاورون ويحسبون حساباتهم الفلكية، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد وقف غراب فوق أحد الحبال فدقت الأجراس وظن العمال أنها الإشارة المتفق عليها فقاموا برمي الأساس، وتصادف أن ظهر في السماء في هذا التوقيت كوكب المريخ الذي يطلق عليه "قاهر الفلك" ولذلك سميت القاهرة..!
اختار جوهر موقع المدينة الجديدة إلى الشمال من العواصم الثلاثة السابقة وأحاطها بسور سميك، واتخذت المدينة شكلا مستطيلا، ويوجد في كل ضلع من أضلاع السور بابان، ولم يكن مسموحا للعامة بدخولها إلا بإذن خاص، فكانت أقرب إلى الحصون منها إلى المدن.
وصل المعز إلى القاهرة بعد أربع سنوات في قافلة ضخمة، وأحضر معه رفات آبائه وأجداده وأنشأ لهم مدفنا وأطلق عليه تربة الزعفران – مكان خان الخليلي حاليا – وأعجب بالمدينة الجديدة أشد الإعجاب لكنه عاب بعدها عن النيل.
لكن ما حقيقة قول "اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني"؟ ترتبط المقولة بقصة حياة القائد جوهر الصقلي الذي تعود أصوله إلى طائفة الأرمن، حيث عاش في كرواتيا وعمل وهو شابا صغيرا بصناعة الحلوى وبرع في مهنته، وعندما دارت الحرب بين كرواتيا وفينيسيا تم أسره وبيعه كمملوك في صقلية التي التصق اسمه بها.
بعد سنوات بيع مرة أخرى للخليفة المنصور بالله الفاطمي فألحقه بالجيش، وفي خلافة المعز ترقى في المناصب وصار وزيرا وقائدا للجيوش الفاطمية.
نعود إلى المدينة التي بناها جوهر، تفتح بواباتها الثمانية مع شروق الشمس فتتدفق جموع الناس، كان باب الفتوح تخرج منه الجيوش للفتوحات، بينما يشق شارع المعز المدينة من الشمال للجنوب، يتفرع منه شوارع ومنها تتفرع حارات لها أبواب تغلق على سكانها ليلا. وكان شارع المعز يضم 12 ألف حانوت تعرض بضائعها الفاخرة المجلوبة من الشرق والغرب.
بروتوكولات القاهرة
شارع المعز
تبنى الخلفاء الفاطميون فكرة إنشاء المكتبات وأشهرها على الإطلاق مكتبة القصر الشرقي الكبير التي احتوت على أندر المؤلفات في سائر العلوم والفنون والآداب، وكانت تضم أكثر من مليون وستمائة ألف مجلد وتعتبر من عجائب ذلك الزمان، وكان الخليفة العزيز بالله يتردد على هذه المكتبة ويزودها بالكثير من المؤلفات، ولكن بزوال العصر الفاطمي أحرق جزء كبير من هذه الكتب والمجلدات للقضاء على الفكر الشيعي، وتم بيع المتبقي منها.. وهناك دار الحكمة التي أسسها الحاكم بأمر الله وزودها بمكتبة عرفت بدار العلم، وكان مسموحا للعامة ارتيادها للقراءة والنسخ.
في القاهرة لم يكن أحد يستطيع مخالفة البروتوكولات السياسية، فمثلا يجب على الرسل والوفود الترجل من فوق خيولهم أمام أبواب القاهرة وإكمال الطريق سيرا على الأقدام وهم محاطون بصفين من الجنود حتى الوصول لأبواب القصر حيث يرافقهم اثنان من الحراس بملابسهم الفاخرة الأنيقة، وقبل الدخول على الخليفة يخلع الزائرون سيوفهم ويقبلون الأرض أمامه ولا يجلس في حضرته أحد..!
ذهب المعز
ارتبط تاريخ الدولة الفاطمية في الأذهان بالغنى والازدهار وقيل في الأمثال الشعبية "ذهب المعز وسيفه" للدلالة على الغنى والقوة، وكان العصر الفاطمي زاخرا بالاحتفالات والمواكب المبهرة والولائم التي تشبه ألف ليلة وليلة حتى قيل أن الفاطميين اصطنعوا لكل مناسبة نوعا مخصوصا من الحلوى.
وهناك العديد من موروثاتنا الشعبية التي تأصلت في عاداتنا ومازالت قائمة بيننا حتى اليوم، مثل الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج والنصف من شعبان وعاشوراء وتناول الكنافة والقطايف. أما أشهر الموروثات فهو الفانوس الذي صار رمزا لشهر رمضان.
كذلك ارتبط رمضان بالمسحراتي الذي يدور في الليالي الرمضانية، ويروى أن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله أمر جنوده بأن يمروا على البيوت ويدقوا على الأبواب إيقاظ النائمين، ومع مرور الأيام تم تعيين رجل مخصوص للقيام بهذه المهمة وكان ينادي "يا أهل الله قوموا تسحروا" ويدق على أبواب البيوت بعصا يحملها في يده وتطورت مع الوقت إلى طبلة يدق عليها دقات منتظمة.
من أشهر الموروثات الأخرى العروسة الحلاوة والحصان في المولد النبوي الشريف، ولهما قصة عجيبة فيروى أن الحاكم بأمر الله حرم على الناس الزواج إلا في يوم المولد النبوي، فصار هذا اليوم مشهودا تقام فيه المئات من الأفراح ، فجهز بائعو الحلوى العرائس المصنوعة من السكر المعقود تيمنا بالزواج ، وأقبل الناس على شرائها وصارت عادة لا تنقطع، وصنع بجوارها الفارس فوق حصانه الذي يرمز إلى العريس وشجاعته.
عود منقول