كانت خديجة صدّيقة هذه الاُمة ، وأوّلها إيمانا بالله ، وتصديقا بكتابه ، ومواساة لرسوله صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله ، انفردت برسول الله صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله مدّة خمس وعشرين سنة لم تشاركها فيه امرأة ثانية ، ولو بقيت ما شاركتها فيه اُخرى ، وكانت شريكته في محنته طيلة أيامها معه ، تقوّيه بمالها ، وتدافع عنه بكل ما لديها من قول وفعل ، وتعزّيه بما يفاجئه به الكفار في سبيل الله ، وكانت هي وعلي عليه‌ السلام معه في غار حراء حين نزل عليه الوحي أوّل مرّة (١).ومن العوامل الأساسية التي ثبتت دعائم الإسلام هي أموال السيدة خديجة ، فمنذ اليوم الأوّل لزواجها المبارك من النبي صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله وقفت السيدة خديجة بجنب زوجها العظيم صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله موقف المدافع والمحامي ، ووضعت كل أموالها في تصرّفه لنصرة الرسالة المحمديّة ، كما كانت توفّر له الملجأ والمأوى والقلب الحنون ، ولذلك أوعزت إلى ابن عمّها حين زواجها من النبي صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله بأن يعلن أمام الملأ : إنّ جميع ما تحت يدي خديجة من مال وعبيد ، قد وهبته لمحمّد صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله يتصرّف به كيف يشاء. ولذا وقف ورقة بن نوفل بين زمزم والمقام ونادى بأعلى صوته قائلاً : يا معشر العرب ، إنّ خديجة وهبت لمحمّد صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله نفسها ومالها وعبيدها وجميع ما تملكه بيمينها إجلالاً له وإعظاماً لمقامه ورغبة فيه.ومنها : رأت السيدة خديجة ميله إلى غلامها ( زيد بن حارثة ) قبل بعثته المباركة فوهبته له ، فكانت هي السبب فيما امتاز به زيد في السبق إلى الإسلام.ومنها : وكما نقله الزهري : أنّ خديجة أنفقت على رسول الله صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله أربعين ألفاً وأربعين ألفاً (2).وذكر الزرقاني في شرح كلام القسطلاني : قال ابن إسحاق : كانت خديجة أوّل امرأة آمنت بالله ورسوله ، وصدقت بما جاء من الله عزّوجلّ ، ووازرته على أمره ، فخفّف اللّه بذلك عن رسوله صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله ، وكان لا يسمع شيئا يكرهه ولا تكذيب له فيحزنه إلاّ فرّج الله ذلك عن رسوله بها إذا رجع إليها تثبّته وتخفّف عنه وتهّون عليه أمر الناس حتى ماتت سلام الله عليها (٢).
تلتقي عن طريق جدها ( عبد العزى ) مع جد النبي الأكرم صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله ( عبد مناف ) في الجد الرابع ( قصي بن كلاب ) وبهذا النسب تكون أقرب أزواج النبي صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله إليه نسباً ، باستثناء ابنة عمته أمّ المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها.
اتفقت الروايات على أنّ السيدة خديجة هي أوّل زوجات النبي صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله ، وهي في زمانها أفضل نساء قريش ومكّة في خَلقها وخُلقها وجميع مواهبها ، كما كانت أفضل أزواج النبي صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله قاطبة ، وقد كانت سيدة حازمة ، شريفة ، لبيبة ، جليلة ، ديّنة ، كريمة ، وصدّيقة هذه الاُمة في شرف النسب ، وكرم المحتد ، وسؤدد القبيلة ، وعِزّ العشيرة ، والغنى الأوفر ، وكانت مثالاً للزوجة المخلصة الصالحة ، والمرأة الرزينة العاقلة ، ولا توجد شبيهة لها في نساء النبي على الاطلاق حيث عقلها الكبير ، وشخصيتها العظيمة.
وقد أدركت الجاهلية والإسلام ، وكان لها في كليهما مركزاً ممتازاً ، ولشدّة عفافها وصيانتها سمّيت بالطاهرة (4) ، فجمعت بين المال والجمال والكمال ، فهذه الصفات إذا اجتمعت ـ وقلّما تجتمع ـ فانها تضفي على المرأة ألوانا من السمو والرفعة ، وعندما كان رسول الله صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله يبشّر قومها بالإسلام ، فلا ينال منهم إلاّ التكذيب ، فيرجع إلى بيته حزيناً يائساً ، فتلقاه السيدة خديجة عليها‌ السلام فتزيل حزنه ، وتهوّن عليه الأمر.

وكان رسول الله صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله يودّها ، ويحترمها ، ويثني عليها ، ويفضلها على سائر نسائه ، بل على سائر النساء المؤمنات ، ويعظمها ، ويشاورها في أموره ، وقد صدّقته في دعوته ، وآمنت به ، وكانت تستقبل آلام الجهاد الذي خاضه وخاضته معه صابرة محتسبة ، لا ينبض لها عرق بلين أو تخوُّف ، بل تقطع قناطر الدموع والخطوب المشغولة في بسمة كبرياء ، لم يُعهد مثلها في نساء النبي صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله ، لقد كانت عليها‌ السلام تستقبل العاصفة وشظاياها المشتعلة وتحوّلها إلى بردٍ وسلامٍ على قلب زوجها الحبيب محمّد صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله .
وهي أوّل امرأة صدّقت الرسول الأعظم صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله ودخلت الإسلام ، وقامت بخدمات جليلة حتى آخر لحظة من حياتها المباركة ، وكان الحبّ والاحترام والعمل والتضحية لهذا الدين القويم ملء حياتها.
هذا ويمكن الحديث عن فضلها وكراماتها ضمن النقاط الآتية :
١ ـ السبق إلى الإسلام :
الثابت تاريخيّا أنّ خديجة الكبرى عليها‌ السلام أوّل امرأة دخلت الإسلام ، ولهذا عدّها الرسول صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله من سابقات النساء إلى الإيمان بقوله : « خديجة بنت خويلد سابقة نساء العالمين إلى الإيمان باللّه وبمحمّد صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله » (5).

وقد صرح أمير المؤمنين عليه‌ السلام بهذه الكرامة ، في فقرة من خطبته المسماة بالقاصعة إذ جاء فيها : « ... لم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله وخديجة عليها‌ السلام وأنا ثالثهما » (6).
وهي أوّل امرأة صلّت لله عزّ وجلّ ، وقد أجاد شاعر أهل البيت عليهم‌ السلام في ملحمته المشهورة منشداً :
وأقــام الرســول أول فــرض * فاقتـدت فيـه أحسن الاقتداءِ
وهي كانت لكل ما يتجلّى * من رسول الهدى من الرُقباءِ
فتــرى بالعيــان ما لا تــراه * من عظيــم الآيــات مقلة راءِ
٢ ـ حبّ الرسول لها :إنها أحبّ نساء النبي صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله إلى نفسه الشريفة ، فقد ورد عن عائشة : كان رسول الله صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة ، فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة ، فقلت : هل كانت إلاّ عجوزاً ، فقد أبدلك الله خيراً منها ! فغضب حتى اهتزّ مُقدّم شعره من الغضب ، ثم قال : « لا والله ما أبدلني الله خيراً منها ، آمنت إذ كفر الناس ، وصدّقتني وكذّبني الناس ، وواستني في مالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء ». قالت عائشة : فقلت في نفسي : لا أذكرها بسيئة أبداً.(7)

وعن عائشة أيضاً : كان رسول الله صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله إذا ذبح الشاة يقول : « أرسلوا إلى أصدقاء خديجة » ، فذكرت له يوماً ، فقال : « اني لأحبّ حبيبها » (8).
ولهذا لم يتزوّج صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله غيرها في حياتها ، إكراما لها ، وتعظيما لشأنها عليها‌ السلام.
٣ ـ كمالها وجلالها :
إنها من الكاملات على لسان المصطفى صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله ، إذ قال صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله بشأنها : « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلاّ أربع : مريم بنت عمران ، آسية بنت مزاحم ، خديجة بنت خويلد ، فاطمة بنت محمّد بن عبد الله » (9).
ووصفها أبو طالب عليه‌ السلام ذات يوم قائلاً : إنّ خديجة عليها‌ السلام امرأة كاملة ميمونة خطبها ملوك العرب ، ورؤساؤهم ، وصناديد قريش ، وسادات بني هاشم ، وملوك اليمن ، وأكابر الطائف ، وبذلوا لها الأموال ، فلم ترغب في أحد منهم ، ورأت أنها أكبر منهم (10).
٤ ـ تبشيرها بالجنّة :
إنها من المبشّرات بالجنّة ، قال رسول الله صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله : « أتى جبريل فقال : يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك ومعها إناء فيه أدام ـ أو طعام أو شراب ـ فإذا هي أتتك فاقرأ عليها‌ السلام من ربّها ، ومنّي ، وبشّرها ببيت في الجنّة من قصب (11) ، لا صخب فيه ولا نصب » (12).

وبهذه الكرامات فإن التاريخ ليحني رأسه أمام عظمة أم المؤمنين خديجة عليها‌ السلام ، ويقف أمامها خاشعاً مبهوتاً لدورها الإسلامي الكبير وتضحياتها الجمّة الجسيمة في سبيل العقيدة والمبدأ ، وها نحن نذكر اليسير مما يشير إلى ذلك من خلال سيرتها وتاريخها.