كان عليّ عليه السلام راغباً بالسلم ، مؤثراً الصلح ، فلمّا علم نية القوم بإرادة الحرب ، أراد أن يعذر لله وللمسلمين ولنفسه ، وشاء أن يستعمل آخر ما يجد إليه سبيلاً بإلقاء الحجة ، فأمر أحد أصحابه أن يبرز بين الصفين ـ وقد تأهبت القوى جميعاً ـ وبين يديه كتاب الله يدعوهم للعمل بما فيه والرجوع إليه ؛ وامتثل الرجل الأمر ، ورفع القرآن بكلتا يديه ، ودعاهم إلى ما فيه ، فأتته السهام كشآبيب المطر حتى سقط قتيلاً ، وحُمل إلى أمير المؤمنين فاسترجع وترحم عليه. وابتدر عمار بن ياسر رحمه الله القوم واعظاً ومؤنباً ومذكراً فقال :« أيها الناس ما أنصفتم نبيكم صنتم عقائلكم في خدورها ، وأبرزتم عقيلته للسيوف ».ورشق عمار ومن معه بالنبل ، وأصيب من أصيب من أصحابه ، وقتل أخ لعبد الله بن بديل ، فحمله أخوه إلى أمير المؤمنين ، وتأمل عليٌّ عليه السلام هنيئة ، فرأى وقدر وفكر ، فلم يجد بداً مما ليس منه بد ، وخرج بين الصفين ، واستدعى طلحة والزبير فخرجا إليه ، وقال لهما :ألم تبايعاني ، قالا : بايعناك كارهين ، ولست أحق بهذا الأمر منا.واوضح لهما كذب الدعوى ، فما إستكره الإمام أحداً على البيعة ، ثم إلتفت إلى طلحة وقال : أحرزت عرسك ، وخرجت بعرس رسول الله تعرضها لما تتعرض له. وقال للزبير : كنا نعدك من آل عبد المطلب حتى نشأ ابنك ابن السوء ، ففرّق بيننا ؛ وقال له : أتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك. ستقاتله وأنت ظالم له ، فقال الزبير : الآن ذكرت ذلك ، ولو ذكرته قبل اليوم ما خرجت عليك.وكان الأمثل بالزبير أن ينحاز إلى علي عليهالسلام بعد هذا التذكير ، ولكنه أخلد إلى نفسه ، واتبع هواه ، وما حكم عقله في هذا الأمر الخطير ، فقيل أنه إعتزل الحرب فوراً حتى انتهى حيث لقي مصرعه على يد ابن جرموز غيلة ، وقرائن الأحوال لا تساعد على صحة هذا القول ، إذ لا يمكن أن يعتزل الزبير القتال وحده لو شاء ذلك ، وهو رأس من رؤوس القوم ، أفلا يتبعه في هذا القرار أحد من المقاتلين الذين يرون فضله ومنزلته.
والذي أميل إليه أن الزبير قد باشر الحرب بنفسه ، وأن عبد الله بن الزبير قد وصمه بالجبن بعد اجتماعه بعلي عليه السلام ، وقال له : فررت من سيوف بني عبد المطلب ، فإنها طوال حداد ، تحملها فتية أنجاد ، فغيّر قراره هذا التحدي له من ولده ، فأحفظه وأغضبه ، وقال لابنه : ويلك إني حلفت لعلي أن لا أقاتله ، فقال له ابنه : وما أكثر ما يكفّر الناس عن أيمانهم ، فأعتق غلامك ، وأمضِ لجهاد عدوك ، فكفر الزبير عن يمينه وقاتل علياً ، حتى إذا هوى الجمل انهزم الزبير فيمن إنهزم من الناس ، حتى وصل إلى وادي السباع ، فقتله ابن جرموز غيلة.
ولم يكن الزبير ليرتدع في التذكير ، وقد سفك دماء المسلمين في الجمل الأصغر ، ولم يكن ليستجيب للحق ، ومعاوية يخادعه بلقب أمير المؤمنين وأخذ البيعة له من أهل الشام ، ولم يكن الزبير ليترك الجيش ويعتزل ، وهو يعمل بإشارة ابنه عبد الله في الطوارىء كافة ، ولم يكن الزبير ليبصر طريقه وقد أعمته شهوة السلطان ، واستهواه الحكم العقيم ، ولو ثاب إلى الهدى لالتحق بأمير المؤمنين معلناً ندمه وتوبته ، ومكفّراً عن سيئاته وأخطائه ، ولكنه ركب رأسه ، وأغمض على الحوب العظيم.
وقد رأيت نهاية أمير الجيش الزبير ، أما أميره الثاني طلحة ، فحينما صكت الحرب أسنانها ، واختلط الحابل بالنابل ، قصده مروان بن الحكم فرماه بسهم أصاب أكحله فقطعه ، وقال : لا طالبت بثأر عثمان بعد اليوم ، وقال لبعض ولد عثمان : لقد كفيتك ثار أبيك من طلحة ، وهوى طلحة في المعركة جريحاً ، وأخذه نزف الدم ، فلم يستطيع الفرار ، وقال لغلامه : ألا موضع أستجير به ؟ فيقول له غلامه : قد أدركك القوم ، فقال طلحة : ما رأيت مصرع شيخ من قريش أضيع من مصرعي. ومات طلحة في المعركة على تلك الحال.
وأما أم المؤمنين عائشة ، فقد ركبت الجمل ، وأدرعت بهودجها ، وقد قامت الحرب على ساق ، وهي تحرض الناس على القتال وسط المعركة ، تدفع بهؤلاء وتستصرخ أولئك ، وتحرك آخرين ، حتى حمي الوطيس وندرت الرؤوس ، وتناثرت الأيدي ، وتهاوت الأجساد حول الجمل ، وكان جمل عائشة راية أهل البصرة يلوذون به كما يلوذ الجيش برايته الكبرى ، والناس تتهافت على خطام الجمل ، وكلما أمسكه أحد قتل ، حتى تغافى حوله مئات القواد والعسكريين ، ومرتجز عائشة يقول :
يا أمنَّا عائشُ لا تراعي * كلُّ بنيِكِ بطلُ المصاعِوهي تلتفت إلى من على يمينها تشجعه ، وإلى من على يسارها مباركة ، ومن إلى جنبها محمسة ، عتى ملّت من الحرب ، فأخرجت يدها من الهودج تحمل بدرة من الدنانير ، ونادت بأعلى صوتها : من يأتيني برأس الأصلع ( تريد بذلك عليّاً ) وله هذه البدرة ، فضجّ العسكر ضجة واحدة ، وأمعن في قتال ذريع.
وكان الجيشان يستقتلان بضراوة عجيبة ، والنصر ترفرف أعلامه فوق رؤوس فرسان الإمام ، فصاح علي عليه السلام : اعقروا الجمل فإن في بقائه فناء العرب.
وفي رواية : اعقروا الجمل فإنه شيطان ، فانتدب لذلك محمد ابن الحنفية نجل الإمام وحمل عليه في طائفة من المقاتلين الأشداء ، فعقروا الجمل بعد خطوب كثيرة ، فخر الجمل إلى جنبه ، وهوى إلى الأرض وله ضجيج وعجيج لم يسمع الناس بمثلهما ، وبعقر الجمل إنهزم جيش عائشة لا يلوي على شيء ، وفرّ بالصحراء فكان كالجراد المنتشر ، وأمر الإمام محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر بحمل الهودج بعد أن بقيت عائشة وحدها في الميدان ؛ ويقول الإمام لابن أبي بكر : أدرك أختك حتى لا تصاب بأذى ، فيدخل رأسه في الهودج ، فتسأله من أنت ؟ فيقول : أنا أخوك أقرب الناس منك وأبغضهم إليك ، فتقول : ابن الخثعمية ، فيقول : نعم أخوك محمد ؛ يقول لك أمير المؤمنين هل أصابك شيء ، فتقول مشقص في عضدي ، فينتزعه محمد ، ويأتي الإمام فيقف على هودجها ، ويضربه برمح أو قضيب ، ويقول : كيف رأيت صنيع الله يا أخت أرم ؟ يا حميراء ألم يأمرك رسول الله أن تقري في بيتك ؟ والله ما أنصفك الذين صانوا عقائلهم وأبرزوك ، فتقول :
يا ابن أبي طالب ملكت فأسجح.
ويسجح الإمام ، ويأمر محمداً أخاها أن يدخلها داراً من دور البصرة ، فيحملها أخوها ، وينزلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي.
وانتهت المعركة بآلاف القتلى من المعسكرين ، وبهزيمة المتمردين هزيمة شنعاء ، وبمقتل رؤوسهم الكبيرة.
وطمع بعض أصحاب الإمام بالغنائم فنهاهم عن ذلك ، وأمرهم أن لا يجهزوا على جريح ، ولا يتبعوا فارّاً ، ولا يغضبوا امرأة ، ولا يدخلوا داراً ، ولا يهتكوا ستراً ، ولم يقسم بين أصحابه غنيمة إلا ما أجلب به أهل البصرة للقتال وفي ساحة الحرب. وقال : ليس في هذه الحرب مغنم لمنتصر ، وأرسل من ينادي في أهل البصرة : من عرف شيئاً فليأخذه. وحاول بعض المتطرفين قتل عائشة فأنكر عليه الإمام ووضعها في حراسة مكثفّة ، وأراد بعض المقاتلين أسر المنهزمين فردّهم الإمام عن ذلك.
ووقف عليّ عليه السلام بين قتلاه فترحم عليهم ، ووقف على المتمردين فخاطبهم بمثل ما خاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل القليب ببدر.
ووجم الإمام لما أصاب الطرفين من قتل وفناء ، وتوجه إلى الله :
أشكو إليك عجري وبجري شفيتُ نفسي وقتلتُ معشري وكان القتلى يعدون بالآلاف ، ففقدت قريش طائفة من رجالها المعدودين ، واستولى الحزن على كثير من بيوتات البصرة التي فقدت أحبّتها وأعزّتها ، وتناول الثكل مجموعة من دور الكوفة.
وكم كان بود أمير المؤمنين ، أن يقاتل بهؤلاء وهؤلاء أبناء الطلقاء من جهة ، وأعداء الإسلام من جهة أخرى ، ولكن المقادير جرت بغير هذا التقدير.