روي عن بهلول رحمة الله عليه أنه قال :

خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام ، فبينا أنا بشارع من شوارع الكوفة ، إذ بصبيان يلعبون بالجوز واللوز ومعهم صبي وأدمعه تنحدر على خديه كاللؤلؤ الرطب فدنوت منه وقلت : أي بني ما يبكيك ؟؟ أأشتري لك الجوز واللوز ما تلعب به مع الصبيان ؟؟
فما تمالك أن رفع رأسه وقال : يا قليل العقل أوَ للعب خلقنا ؟؟
قلت : فلماذا خلقنا إن كنت تعلم ؟؟
قال : للعمل والعبادة في سبيل الله .
قلت : ومن أين لك ذلك بارك الله فيك ؟
قال : من قول الله عز وجل { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين }

وقوله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يطعمون }
فقلت : أي بني ، أراك على صغر سنك حكيماً فعظني موعظةً وأوجز.
فأنشأ يقول شعراً :


أرى الدنيا تجهز بانطلاق ... مشمرةً على قدم وساق
فيا مغرور بالدنيا رويداً ... ألا تأخذ لنفسك بالوثاق
كأن الموت والحدثان فيها ... إلى نفس الفتى فرسا سباق
فما الدنيا بباقيةٍ لحيٍّ ... ولا حيٌّ على الدنيا بباق


ثم رمق السماء بعينيه وأشار إليها بكفيه وأدمعه تنحدر على خديه وهو يقول :


يا من إليه المبتهل ... يامن عليه المتكل
يا من إذا أمهله ... الأمل لم يخطِ الأمل
بحق وجهك الذي ... حجبته عز وجل
اغفر لعبدٍ قد أتى ... كلَّ خطا وزلل

ثم خرَّ على وجهه مغشيّاً عليه . قال : فرفعت رأسه في حجري وجعلت أنفض التراب عن وجهه ، فلما أفاق قلت له : يا بني أراك صبياً حديث السن ولم يكتب لك ولا عليك.
فقال : اسكت عني يا بهلول فإنني نظرت والدتي توقد الحطب في البيت فلا يوقدٌّ لها الحطب الكبار إلا بالصغار ، وأنا أخشى أن أكون من صغار حطب حجر جهنم.
فقلت : زدني موعظة بارك الله فيك،

فأنشأ يقول :


غفلت وحادي الموت في أثري يحدو ... فإن لم أرح ميتاً فلا بُدَّ أن أغدو
أرى العمر قد ولى ولم أدرك المنى ... وليس معي تقوى وفي سفري بعدُ
أأنعم جسمي باللباس ولينه ... وليس لجسمي من قميص البلا بُدُّ
كأني به قد مُدَّ في برزخ البلا ... ومن فوقه ردمٌ ومن تحته لحدُ
وقد ذهبت مني المحاسن وانمحت ... ولم يبقَ فوق العظم لحمٌ ولا جلدُ
وقد كنت جاهرت المهيمن عاصياً ... وأحدثت أحداثاً ليس لها وُدُّ
وأرخيت دون الناس ستراً من الحيا ... وما خفت من سري غداً عنده يبدو
بلى خفته لكن وثقت بحلمه ... وأن ليس يعفو غيره فله الحمدُ
فلو لم يكن شيءٌ سوى الموت والبلا ... ولم يكُ من ربي وعيدٌ ولا وعدُ
لكان لنا في الموت شغلٌ وفي البلا ... عن اللهو لكن غاب عن رأينا الرشدُ
إلهي ترى نفسي وقلة صبرها ... إذا لاح ضوء البرق أو سبح الرعدُ
فكيف إذا حرِّقت بالنار جثتي ... ونارك لا يقوى لها الحجر الصلدُ
أنا عبد سوءٍ خنت مولاي عهده ... كذلك عبد السوء ليس له عهدُ
عسى غافر الزلات يغفر زلتي ... فقد يغفر المولى إذا إذنب العبدُ
أنا الفرد عند الموت والفرد في البلا ... وأبعث فرداً فارحم الفرد يا فردُ


فلما أتم كلامه خرّ بهلول مغشياً عليه ، وانصرف الصبي عائداً إلى أهله.فلما أفاق نظر إلى الصبيان فلم يره مهعم ، فقال لهم : من يكون هذا الغلام ؟
قالوا : وما عرفته ؟
قال : لا والله ما عرفته.
قالوا : ذلك عليُّ بن الحسين بن أبي طالب عليهم السلام.
قال : قد قلت من أين تلك الشجرة .