بسم الله الرحمن الرحيم
الَلهّمّ صَلّ عَلَىَ محمدوآل مُحَّمدْ الَطَيبيِن الطَاهرين الأشْرَافْ وَعجَّل فَرَجَهُم ياكريم
أن الذين يريدون أن يضفوا على حياة الإمام السجاد عليه السلام أشكال العبادة والزهد والحياة الروحية ، عليهم أن لا يستبعدوا هذا العنصر !
مع أن خوف الإمام عليه السلام وفزعه ، من الجيش السفّاك ، ولجوءه وعوذه بالحرم الشريف ، وسبّ القائد الاموي له وتبرّءه منه ، أدلة كافية في إثبات أن الإمام عليه السلام كان مستهدفا ، الاّ أن سياسته الحكيمة التي اتخذها منذ دخوله المدينة كانت من أسباب نجاته وخلاصه من المصير الذي سحق كبار أهل المدينة وأشرافها !
ومع أعباء القيادة :
ورجع الإمام عليه السلام الى المدينة :
ليواجه الخطر المحدق بالإسلام ، والذي انتشر في نفوس الامة وهو اليأس والقنوط من الدين وأهدافه ، بعدما تعرّض الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمثل هذا القتل ، وماتعرّض له أهله من التشريد والسبي ، في بلاد المسلمين.
فهذا الوزير عبيد الله بن سليمان كان يرى : أن قتل الحسين أشدّ ما كان في الإسلام على المسلمين ، لأن المسلمين يئسوا بعد قتله من كل فرج يرتجونه ، وعدل ينتظرونه (1).
هذا بالنسبة الى أصل الإسلام.
وأما بالنسبة الى الإمامة ، والى أهل البيت ، والى الإمام عليه السلام ، فقد تفرّق الناس عنهم ، وأعرضوا ، بحيث عبّر الإمام الصادق عليه السلام عن ذلك : بالارتداد.
قال عليه السلام : أرتدّ الناس بعد قتل الحسين عليه السلام إلاّ ... (2).
وكان منشأ اليأس والردّة : أنهم وجدوا الآمال قد تبدّدت بقتل القائد ، وسبي أهله ، وظهور ضعف الحقّ وقلة أنصاره ، هذا من جهة.
-------------
(1) نقله الثعالبي في آخر كتاب ( ثمار القلوب ) بواسطة : علي جلال في ( الحسين عليه السلام ) ( 2 : 195 ).
(2) اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) ( ص 123 ) رقم (194).
ومن جهة أخرى ملأ الرعب قلوبهم لمّا وجدوا الدولة على هذه القوّة والجرأة والقسوة ، فكيف يمكن التصدي لها ، والإمام في مثل هذا الموقع من الضعف ، فليس التقرّب منه إلاّ مؤدّيا الى الاتهام والمحاسبة ، فلذلك ابتعد الناس عن الإمام عليه السلام.
لكن الإمام زين العابدين عليه السلام بخطته الحكيمة استفاد من هذا الابتعاد ، وقلبه الى عنصر مطلوب ، ومفيد لنفسه ، وللجماعة الباقية من حوله على ولائه.
حتى اصبح ، بما ذكرنا من التصرفات ، في نظر رجال الحكم « خيرا لا شرّ فيه ».
وبذلك التخطيط الموفّق حافظ الإمام عليه السلام ، لا على نفسه وأهل بيته من الإبادة الشاملة ، فقط ، بل تمكّن من استعادة قواه ، واسترجاع موقعه الاجتماعي بين الناس ، لكونه مواطنا صالحا لا يخاف من الاتصال به والارتباط به ، لانه أصبح « علي الخير » (1).
وطبيعي أن يعود الناس ، وتعتدل سيرتهم مع الإمام حينئذ ، ولذلك قال الإمام الصادق عليه السلام في ذيل كلامه السابق : « ... ثم إن النا لحقوا وكثروا » (2).
أن انفراط أمر الشيعة بعد مقتل الحسين عليه السلام وتشتت قواهم ، كان من أعظم الأخطار التي واجهها الإمام السجاد عليه السلام بعد رجوعه الى المدينة ، وكان عليه ـ لأنه الإمام ، وقائد المسيرة ـ أن يخطط لاستجماع القوى ، وتكميل الإعداد من جديد ، وهذا كان بحاجة الى إعداد نفسي وعقيدي وإحياء الأمل في القلوب ، وبثّ العزم في النفوس.
وقد تمكّن الإمام السجاد عليه السلام بعمله الهادىء الوادع من الإشراف على تكميل هذه الاستعادة ، وعلى هذا الإعداد ، والتمهيد ، بكل قوة ، وبحكمة وبسلامة وجدّ.
وكما قد يكون تأسيس بناء جديد ، اسهل وأمتن من ترميم بناء متهرّىء ، فكذلك ، إن بناء فكرة في الأذهان الخالية من الشبهات ، والمليئة بالأمل بهذه الفكرة ، والجادّة في الالتفاف حولها ، والعزم على إحيائها ، هو أسهل ، وأوفر جهدا من محاولة ترميم فكرة أصاب الناس يأس منها ، وتصوّر إخفاق تجربتها ، وهم يشاهدون إبادة
-------------------
(1) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ( 15 : 273 ).
(2) اختيار معرفة الرجال ( الكشي ) (ص 123) رقم (194).