إن الله سبحانه وتعالى سخر هذا الكون لخدمة الإنسان الذي هو خليفة الله في الأرض، فالكون علاقة وترابط مع الإنسان وبخاصة الإنسان المؤمن الفقيه، الذي تبكيه عند موته بقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها، وتبكيه أيضاً ملائكة السماء.
وفي إشارة لهذا المعنى يذكر القرآن الكريم قوم فرعون ويقول (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين)، ونحن نعرف أن للكلام منطوق ومفهوم، فإذا السماء لم تبكي على فرعون وقومه الكافرين بالله، معناه أن السماء تبكي على الإنسان المؤمن المتقي ربه.
ونحن نعرف أن الإيمان درجات ومراتب، وإذا كان ذلك بالنسبة للإنسان المؤمن، فما بالنا ـ أيها الأخوة ـ بسيد الشهداء وريحانه النبي، وأبي الأحرار الذي اهتز لمقتله عرش الرحمن وبكته السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما، فالملائكة بكت الإمام الحسين (عليه السلام)، والجن ندبت الإمام وبكت لمقتله الأليم، والحيوانات والدواب، والطيور أيضاً.
ومن هذه الطيور؛ طائر البوم الذي ينوح على مقتل الإمام الحسين (عليه السلام):
فقد نقل عن محمّد بن الحسن بن أحمدَ بنِ الوليد؛ وجماعةُ مشايخي، عن سعد بن عبدالله، عن محمّد بن عيسى بن عُبَيد، عن صفوانَ بن يحيى، عن الحسين بن أبي غُنْدَر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعتُه يقول في البومة، قال: هل أحدٌ منكم رآها بالنّهار، قيل له: لا تَكاد تظهر بالنّهار ولا تظهر إلاّ ليلاً، قال: أما إنّها لم تزل تأوي العمران أبداً، فلمّا أن قتل الحسين (عليه السلام) آلت على نفسها أن لا تأوي العُمْران ابداً ولا تأوي إلاّ الخراب، فلا تزال نهارها صائمة حزينة حتّى يجنّها اللّيل، فإذا جنّها اللّيل (كذا) فلا تزال ترنّم على الحسين (عليه السلام) حتّى تصبح.
هذا بالنسبة للبوم!
أما الحمام، فقد وردت روايات بلعن الحمام لقَتلةَ الحسين (عليه السلام):
1 ـ حدَّثني أبي ـ رحمه الله ـ وعليُّ بن الحسين، عن عليِّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن الحسين بن يَزيدَ النَّوفَليِّ، عن إسماعيلَ بن أبي زياد السَّكونيِّ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «اتّخذوا الحمام الرَّاعبيّة في بيوتكم، فإنّها تلعن قَتلةَ الحسين (عليه السلام)».
2 ـ حدَّثني أبي؛ وأخي؛ وعليُّ بن الحسين؛ ومحمّد بن الحسن جميعاً، عن أحمدَ بن إدريس بن أحمد، عن أبي عبد الله الجامورانيِّ، عن الحسن بن عليِّ بن أبي حمزةَ، عن صَندل، عن داودَ بن فَرْقَد قال: كنت جالساً في بيت أبي عبد الله (عليه السلام)، فنظرت إلى الحمام الرَّاعي يُقَرقِر طَويلاً، فنظر إليَّ أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: يا داودُ، أتدري ما يقول هذا الطّير؟ قلت: لا، جُعلتُ فِداك، قال: تدعو على قَتَلة الحسين بن عليٍّ (عليهما السلام)، فاتّخذوه في منازلكم.
وقد روي من طريق أهل البيت أنه لما استشهد الحسين (عليه السلام) بقى في كربلا صريعا ودمه على الأرض مسفوحاً، وإذا بطائر أبيض قد أتى وتمسح بدمه، وجاء والدم يقطر منه، فرأى طيورا تحت الظلال على الغصون والأشجار وكل منهم يذكر الحب والعلف والماء، فقال لهم ذلك الطير المتلطخ بالدم:
يا ويلكم! اتشتغلون بالملاهي وذكر الدنيا والمناهي، والحسين في أرض كربلا في هذا الحر ملقى على الرمضاء ظام مذبوح ودمه مسفوح؟
فطارت الطيور كل منهم قاصداً كربلاء، فرأوا سيدنا الحسين ملقىً في الأرض جثته بلا رأس ولا غسل ولا كفن، فقد سفت عليه السوافي، وبدنه مرضوض قد هشمته الخيل بحوافرها، زواره وحوش القفا، وندبته جن السهول والأوعار، وقد أضاء التراب من أنواره، وأزهر الجو من إزهاره، فلما رأته الطيور تصايحن واعلن بالبكاء والثبور، وتواقعن على دمه يتمرغن فيه، وطار كل واحد منهم إلى ناحية يعلم أهلها عن قتل أبي عبد الله الحسين.
فمن القضاء والقدر ان طيراً من هذه الطيور قصد مدينة الرسول، وجاء يرفرف والدم يتقاطر من أجنحته، ودار حول قبر سيدنا رسول الله (ص) يعلن بالنداء:
"ألا قتل الحسين بكربلا، ألا نهب الحسين بكربلا، ألا ذبح الحسين بكربلا"، فاجتمعت الطيور عليه وهم يبكون عليه وينوحون.
فلما نظر أهل المدينة ذلك النوح وشاهدوا الدم يتقاطر من الطير ولم يعلموا ما الخبر، حتى انقضت مدة من الزمان، وجاء خبر مقتل الحسين، علموا أن ذلك الطير كان يخبر رسول الله (ص) بقتل ابن فاطمة البتول وقرة عين الرسول.
وقد نقل أنه في ذلك اليوم الذي جاء فيه الطير إلى المدينة كان في المدينة رجل يهودي وله بنت عمياء زمنا طرشا مشلولة، والجذام قد أحاط ببدنها، وجاء ذلك الطائر والدم يتقاطر منه ووقع على شجرة يبكي طوال ليلته، وكان اليهودي قد أخرج ابنته تلك المريضة إلى خارج المدينة إلى بستان وتركها في البستان الذي جاء الطير ووقع فيه.
فمن القضاء والقدر أن تلك الليلة عرض لليهودي عارض فدخل المدينة لقضاء حاجته، فلم يقدر أن يخرج تلك الليلة إلى البستان الذي فيه ابنته المعلولة، والبنت لما نظرت ان أباها لم يأتها تلك الليلة لم يأتها نوم لوحدتها، لأن أباها كان يحدثها ويسليها حتى تنام، فسمعت عند السحر بكاء الطير وحنينه، فبقيت تتقلب على وجه الأرض إلى أن صارت تحت الشجرة التي عليها الطير، فصارت كلما حن ذلك الطير تجاوبه من قلب محزون، فبينما هي كذلك إذ وقع من الطير قطرة من الدم فوقعت على عينيها ففتحت، ثم قطرة أخرى على عينها الأخرى فبرات، ثم قطرة على يديها فعوفيت، ثم على رجليها فبرئت، فصارت كلما قطرت قطرة من الدم الذي تلطخ به جسدها، فعوفيت من جميع مرضها من بركات دم الحسين (ع).
فلما أصبحت أقبل أبوها إلى البستان، فرأى بنتا تدور ولم يعلم أنها إبنته، فسألها انه كان لي في البستان أبنة عليلة لم تقدر أن تتحرك، فقالت ابنته: والله أنا ابنتك، فلما سمع كلامها وقع مغشياً عليه، فلما أفاق قام على قدميه، فأتت به إلى ذلك الطير فرآه واكرا على الشجرة يأن من قلب حزين محترق مما فعل بالحسين، فقال له اليهودي: أقسمت عليك بالذي خلقك أيها الطير أن تكلمني بقدرة الله، فنطق مستعبرا ثم قال:
اعلم اني كنت واكرا على بعض الأشجار مع جملة من الطيور عند الظهيرة، وإذا بطير ساقط علينا وهو يقول: أيها الطيور، تأكلون وتتنعمون والحسين بكربلا في هذا الحر على الرمضاء طريحا ظامياً، والنحر دام، ورأسه مقطوع، وعلى الرمح مرفوع، ونساؤه سبايا حفاة عرايا؟! فلما سمعنا بذلك تطايرنا بكربلا، فرأيناه في ذلك الوادي طريحا، الغسل من الدماء، والكفن الرمل السافي عليه، فوقعنا عليه، فوقعنا كلنا عليه ننوح ونتمرغ بدمه الشريف، وكان كل منا طار إلى ناحية، فوقعت أنا في هذا المكان..
فلما سمع اليهودي ذلك تعجب، وقال: لو لم يكن الحسين (عليه السلام) ذا قدر رفيع عند الله لما كان دمه شفاء من كل داء، ثم أسلم اليهودي وأسلمت البنت وأسلم خمسمائة من قومه.