حياة الصحابي الجليل ميثم التمار (رضوان الله وسلامه عليه)22ذوالحجة

في مثل هذا اليوم
في الثاني والعشرين من ذي الحجة عام 60 هجري،
مضى على استشهاد الإمام علي عليه السَّلام في محراب المسجد عشرون عاماً. والكوفة ‏الآن في أواخر سنة 60 هجرية. ‏
كان الوقت فجراً، جاء ميثم كعادته إلى جذع نخلة، رش الأرض حوله بالماء فانبعثت رائحة ‏الأرض الطيبة. صلّى ركعتين ثم أسند ظهره إلى جذع النخلة. ‏
منذ أكثر من عشرين سنة وهو يزور هذه النخلة، لم تكن هكذا مجرّد جذع يابس، لقد كانت ‏قبل عشرين سنة نخلة باسقة تهب الرطب والتمر والظلال. ‏
وتمرّ الأيام والشهور والأعوام وميثم يزورها في كلّ مرّة فيصلّي عندها ركعتين ويخاطبها ‏قائلاً: ‏
ـ أنبتك الله من أجلي وغذاني من أجلك. ‏
كان ميثم يحبّ هذه النخلة، وكان يسقيها عندما كانت خضراء، ثم جاء يوم ماتت فيه النخلة ‏وأصبحت جذعاً يابساً، ثم قطع الجذع من أعلاه وأصبحت تلك النخلة الباسقة مجرّد جذع ‏قصير. ‏
و لكن ميثم كان يداوم على زيارة النخلة كلّما سنحت له الفرصة، فمن هو ميثم هذا؟ وما هي ‏قصّته مع جذع النخلة؟ ‏
‏ ‏
أصله ‏
ولد ميثم التمار في " النهروان " بالقرب من مدينة الكوفة وأصله من فارس وكان في صباه ‏غلاماً لامرأة من " بني أسد ". ‏
وذات يوم اشتراه الإمام علي عليه السَّلام وأعتقه أي أعاد له حرّيته. ‏
كان الإمام علي منذ شبابه، يحفر الآبار والعيون ويسقي البساتين فإذا توفر لديه بعض المال ‏اشترى به عبداً أو جارية ثم يهبهما الحرّية. ‏
‏ عندما استعاد ميثم حرّيته اتجه إلى سوق الكوفة وأصبح بائعاً للتمر، وعاش حياة بسيطة. ‏شيء واحد كان ينمو في قلبه: إيمانه بالإسلام وحبّه لعلي بن أبي طالب عليه السَّلام . ‏
لقد علّمه الإمام أن الإسلام هو طريق الحريّة، فإذا أراد المرء أن يحيا كريماً ويموت سعيداً ‏فما عليه إلاّ أن يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يخشى أحداً إلاً الله. ‏
وكان الإمام علي عليه السلام يحبّ ميثماً لصفاء روحه وطهارة نفسه، لهذا كان يقصده في ‏دكانه في السوق ويتحدّث إليه ويعلّمه. وكان ميثم يُصغي إلى أحاديث الإمام لأنّه يعرف أن ‏عليّاً هو باب مدينة علم النبي صلى الله عليه وآله وقد قال سيّدنا محمّد صلى الله عليه وآله : ‏أنا مدينة العلم وعلي بابها. ‏
‏ ‏
الاسم الحقيقي ‏
لو لا ذلك اللقاء لظلّ ميثم غلاماً عند تلك المرأة الأسدية ولكان اسمه " سالماً ". ‏
عندما ما اشتراه الإمام من المرأة سأله عن اسمه فقال: ‏
ـ اسمي سالم. ‏
فقال الإمام: ‏
ـ لقد أخبرني رسول الله ان اسمك عند العجم ميثم. ‏
فقال ميثم بدهشة لأن أحداً لا يعرف اسمه الحقيقي: ‏
ـ صدق الله ورسوله. ‏
و منذ ذلك الوقت وميثم لا يفارق الإمام علي عليه السلام. ‏
لقد وجد التلميذ اُستاذاً عظيماً تربّى في أحضان الرسالة. ‏

في الصحراء ‏
كان الإمام علي عليه السلام يخرج إلى الصحراء ليلاً يعبد الله ويدعو، ويصطحب معه في ‏بعض الأحيان رجلاً من أصحابه فيفيض عليه من علوم الوحي ما شاء الله. ‏
كان يصطحب معه ميثماً إلى الصحراء فيتحدّث إليه ويعلّمه ويخبره بما سيحصل في مستقبل ‏الأيام، والإمام لا يعلم الغيب ولكنه يحفظ ما سمعه من سيّدنا محمّد صلى الله عليه وآله الذي ‏أخبره بأشياء كثيرة تحصل في المستقبل. ‏
وكان ميثم يصغي إلى كلّ ما يسمعه فإذا قام الإمام للصلاة صلّى خلفه ويصغي بخشوع إلى ‏مناجاة الإمام فتنطبع في فؤاده الحروف وتضيء في نفسه الكلمات. ‏

في دكان التمار ‏
ذات يوم ذهب الإمام علي عليه السلام إلى دكان التمر في السوق وجلس مع ميثم. ‏
عرضت لميثم التمار حاجة فاستأذن الإمام لقضائها وغادر الدكان. ‏
ظلّ الإمام في الدكان ليبيع التمر. وفي الأثناء جاء رجل واشترى تمراً بأربعة دراهم ‏ومضى. ‏
‏ عندما جاء ميثم ورأى الدراهم تعجب لأن الدراهم كانت مزيّفة. ‏
ابتسم الإمام وقال: ‏
ـ سوف يعود صاحب الدراهم. ‏
تعجّب ميثم مرّة اُخرى، إذ كيف سيعود بعدما اشترى تمراً جيداً بدراهم مزيّفة. ‏
وبعد ساعة جاء صاحب الدراهم وقال بانزعاج: ‏
ـ لا أُريد هذا التمر انّه مرّ كالحنظل.. كيف يكون التمر مرّاً؟! ‏
فقال الإمام: ‏
ـ كما تكون دراهمك مزيفة. ‏
فتح صاحب الدراهم فمه دهشة، وأخذ دراهمه. ‏

حبر الأمّة ‏
كان ميثم عالماً كبيراً، فلقد تلقى علمه عن الإمام علي عليه السلام، قال يوماً لحبر الأمّة عبد ‏الله بن عباس: ‏
ـ يا بن عباس سلني ما شئت من تفسير القرآن، فلقد تعلمت تنزيله من أمير المؤمنين ‏وعلّمني تأويله. ‏
فكان ابن عباس يجلس كما يجلس التلميذ أمام معلمه يتعلّم دروس التفسير وعلم التأويل. ‏
كان ميثم التمار عندما يرى عمرو بن حريث وهو من زعماء أهل الكوفة يقول له: ‏
ـ سوف أصبح جارك فأحسن جواري. ‏
فيتعجب عمرو ويقول: ‏
أتريد شراء دار ابن مسعود أم دار ابن الحكم؟ ‏
ولكن ميثم كان يسكت، ويبقى عمرو بن حريث في حيرة، ترى ماذا يقصد ميثم بذلك؟ ‏



السوق ‏
وعندما أصبح زياد بن أبيه حاكماً على الكوفة، راح يطارد أصحاب الإمام ويقتلهم الواحد ‏بعد الآخر بأوامر معاوية الحاقد على الإمام علي وأصحابه، فكان يأمر بشتم الإمام فوق ‏المنابر كلّ يوم. ‏
ذات يوم جاء اهل السوق إلى ميثم واشتكوا عنده مما يلاقونه من الظلم، وقالوا له: ‏
ـ انهض معنا إلى الأمير نشكو إليه عامل السوق، ونسأله أن يعزله ويولّي علينا غيره. ‏
مضى ميثم معهم فدخل القصر وحدّث الوالي مما يعانيه الباعة في السوق. ‏
كان أحد الجلاوزة من الحاقدين قد غاظه منطق ميثم وشجاعته فقال: ‏
ـ أتعرف هذا أيها الأمير؟ انّه الكذاب مولى الكذّاب. ‏
كان يعني أنّه أحد أصحاب الإمام علي عليه السَّلام . ‏
قال ميثم: ‏
ـ بل أنا الصادق مولى الصادق أمير المؤمنين حقّاً. ‏
كان حبيب بن مظاهر صحابياً جليل القدر لازم الإمام بعد وفاة سيّدنا محمّد صلى الله عليه ‏وآله وكان من حواريه أي من أقرب أصحابه ذات يوم مرّ ميثم وكان راكباً فرساً بمجلس ‏لبني أسد، وكان حبيب بن مظاهر هو الآخر راكباً فرساً أيضاً قادماً من الجهة المقابلة فتقابلا ‏أمام بني أسد فتحدّثا قليلاً وكان بنو أسد يصغون إليهما. ‏
قال حبيب مبتسماً: ‏
ـ لكأني بشيخ أصلح ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق قد صلب في حبّ أهل بيت ‏نبيّه. ‏
فقال ميثم: ‏
ـ وأنا أعرف رجلاً أحمر له ضفيرتان يخرج لنصرة ابن بنت نبيّه فيقتل ويجال برأسه ‏بالكوفة. ‏
افترق الصديقان، وظل بنو أسد يتهامسون فقالوا: ‏
ـ ما رأينا أكذب من هذين. ‏
وفي الأثناء مرّ " رشيد الهجري " وكان صديقاً لهما وهو من حواري الإمام علي أيضاً فسأل ‏عنهما، فقالوا: ‏
ـ كانا هنا ثم افترقا.. وقد سمعناهما يقولان كذا وكذا. ‏
ابتسم رشيد وقال: ‏
ـ رحم الله ميثماً لقد نسي أن يقول: ويزاد في عطاء الذي يجيء بالرأس مائة درهم. ‏ومضى رشيد فيما ظل بنو أسد متعجبين منه فقالوا: ‏
ـ وهذا والله أكذب منهما. ‏
وتمرّ الأيام حتى إذا حلّ شهر المحرّم من سنة إحدى وستين للهجرة رأوا رأس حبيب بن ‏مظاهر فوق رمح طويل يطوف به جلاوزة ابن زياد في شوارع الكوفة. ‏

القافلة ‏
عندما مات معاوية بن أبي سفيان جاء إلى الحكم بعده ابنه يزيد، وكان يزيد شاباً في الثلاثين ‏من عمره، يشرب الخمر ويقضي وقته في اللعب واللهو مع الكلاب والقرود. ‏
لهذا امتنع الإمام الحسين عن مبايعته لأنّه ليس أهلاً للخلافة وإدارة شؤون المسلمين. وكان ‏أهل الكوفة قد ملّوا ظلم معاوية فأرسلوا إلى الإمام الحسين لكي يأتي إليهم ويخلّصهم من ‏ظلم بني أُمية. ‏
نقل الجواسيس ما يجري في الكوفة إلى يزيد، وكان يزيد يستشير " سرجون " وهو رجل ‏نصراني يحقد على المسلمين. ‏
أشار سرجون في تعيين عبيد الله بن زياد حاكماً على الكوفة إضافة إلى البصرة. ‏

السجن ‏
عندما وصل عبيد الله بن زياد الكوفة بدأ بحملة اعتقالات واسعة وزجّ الكثير من المسلمين ‏في السجون، خاصّة أصحاب الإمام علي والذين يؤيدون الإمام الحسين عليه السَّلام . ‏
و كان مصير ميثم السجن، وتلا ذلك اعتقال المختار الثقفي وعبد الله بن الحارث فكانوا في ‏زنزانة واحدة. ‏
عندما وقعت مذبحة كربلاء وقتل سبط النبي صلى الله عليه وآله وصل الخبر إلى السجناء ‏فتألموا. ‏
قال المختار لصاحبيه في السجن ميثم التمار وعبد الله بن الحارث: ‏
ـ استعدا للقاء الله، فهذا الظالم لن يتورّع عن قتل الناس جميعاً بعدما قتل الحسين. ‏
فقال عبد الله بن الحارث: ‏
ـ نعم إن لم يقتلنا اليوم فسيقتلنا غداً. ‏
فقال ميثم: ‏
ـ كلا لن يقتلكما. ‏
و التفت إلى المختار وقال: ‏
ـ أخبرني حبيبي علي عليه السَّلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّك ستخرج وستثأر ‏من قتلة الحسين وأنصاره وتطأ بقدمك رأس الطاغية عبيد الله بن زياد. ‏
ثم قال لعبد الله بن الحارث: ‏
ـ وأما أنت فستخرج وتتولّى حكم البصرة. ‏

الإيمان ‏
لقد وهب الله ميثماً إيماناً عميقاً، فكان صلِباً لا يخاف الظالمين. كان الناس يخافون من عبيد ‏الله بن زياد ويرتعدون أمامه، اما ميثم التمار فكان ينظر إليه بدون اكتراث. ‏
في زمن معاوية وابنه يزيد كان حبّ الإمام علي عليه السَّلام جريمة كبرى، يعاقبون عليها ‏كلّ من يتهم بها. ‏
فكان الشرطة يطاردون أصحاب الإمام، يهدمون دورهم ويلقونهم في السجن أو يقتلونهم. ‏
كان الإمام علي يعرف ذلك، لهذا أوصى أصحابه. ‏
فقد قال لميثم ذات يوم: ‏
ـ كيف أنت يا ميثم إذا دعاك بنو أمية إلى البراءة مني. ‏
قال ميثم: ‏
ـ والله لا أبرأ منك. ‏
كان ميثم يعتقد أن البراءة من الإمام يعني براءة من الإسلام، والبراءة من الإسلام يعني ‏الكفر. ‏
فقال الإمام: ‏
ـ إذن والله تقتل وتصلب. ‏
قال ميثم: ‏
ـ أصبر فان هذا في سبيل الله قليل. ‏
فقال الإمام: ‏
ـ ستكون معي في الجنة. ‏

النهاية ‏
بعد استشهاد الإمام الحسين في كربلاء قام عبيد الله بن زياد بقتل الكثير من أصحاب الإمام ‏علي عليه السَّلام وفي طليعتهم ميثم التمار. ‏
أمر عبيد الله بن زياد بإحضاره من السجن وقال له باستعلاء: ‏
ـ لقد سمعت بأنك من أصحاب علي. ‏
ـ نعم. ‏
ـ تبرأ منه. ‏
ـ فإذا لم أفعل. ‏
ـ سأقتلك إذن. ‏
ـ والله لقد أخبرني أمير المؤمنين بأنك ستقتلني وتصلبني وتقطع يدي ورجلي ولساني. ‏
صاح ابن زياد بعصبية: ‏
ـ سأكذب أمامك. ‏
ابتسم ميثم ساخراً من هذا الأحمق. ‏
أمر ابن زياد الجلاوزة بصلبه على جذع النخلة قرب دار عمرو بن حريث وأن يقطعوا يديه ‏ورجليه فقط.