TODAY - 19 June, 2011
كلهم يحرقون القرآن
أمل عبد العزيز الهزاني
في أحد فنادق العاصمة واشنطن الواقع بين البيت الأبيض ومبنى الكونغرس، كنت أتصفح كتاب خدمات النزلاء، فلفتني عبارة «خدمات دينية»، وبفضول، اتصلت بخدمة العملاء لأستفسر عن هذه الخدمة، فرد علي «مايكل» بسؤال عن الدين الذي أستفسر عن خدماته، قلت له إنه الإسلام، فقال إن الفندق يقدم خدمة توصيل إلى مسجد يبعد خمس دقائق عن الفندق، قلت له وماذا عن اتجاه الصلاة، وكنت متعمدة أن لا أذكر كلمة «مكة» أو «القبلة» لأقيّم مدى معرفة إدارة المكان بالتفاصيل، فاستأذن لنصف دقيقة ثم عاد متحمسا ليشرح لي اتجاه مدينة Holy Mecca بالنسبة لغرفتي، على حد قوله. ولو قلت إني يهودية أو بوذية بالتأكيد سيكون لي نصيب من خدماتهم.
يظن المرء للحظة أن سكان هذا البلد كلهم مثل مايكل، على درجة عالية من الانفتاح واحترام ثقافات الآخرين، ولكن للأسف هذا غير صحيح، أميركا مثل أي بلد آخر فيها مجانين من المتطرفين من جميع الأديان والميول السياسية والثقافية، فيها صقور، وحمائم، ومرتزقة من الغربان.
الساسة الأميركيون هذه الأيام يشجبون نية إحدى الكنائس في فلوريدا حرق نسخ من القرآن الكريم، ووصموا الفعل بالأحمق والوقح والخطير، والمتدينون المعتدلون من اليهود والمسيحيين في أوروبا وأميركا والبلاد العربية تبرأوا من هذا العمل، الفاتيكان يندد، والمجلس اليهودي في ألمانيا يعتبره استفزازيا وإهانة لكتاب مقدس، في حين يتحضر المتطرفون لإحراق القرآن في ذكرى الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، فهناك دائما تفاحة فاسدة في الصندوق. ولا أعرف لماذا لم يحتفل هؤلاء بحرق القرآن الكريم في الذكرى الأولى لأحداث سبتمبر، أو لماذا لم ينتظروا السنة المقبلة لإحياء ذكرى مرور عشر سنوات على الحدث الكبير.. لماذا هذا العام؟
التهديد بحرق القرآن الكريم جريمة حتى قبل تنفيذ التهديد، لأنه استفزاز لمشاعر أكثر من مليار إنسان، تماما كما أن مشروع بناء مسجد في موقع برجي التجارة في نيويورك استفزاز لمشاعر الأميركيين المعتدلين، بل وأشعل التطرف في نفوس الصامتين كما حصل مع القس جونز الذي ربط تعليق حرق القرآن بتغيير موقع بناء المسجد من على أرض هجمات سبتمبر. هذا المسجد جلب المفاسد حتى قبل إقامته، أضر بمصالح المسلمين وهو مجرد «تهديد» بالبناء مثل التهديد بحرق القرآن، وسيظل يجر وراءه البلايا حتى تنطفئ فكرته. يقول أحد الغاضبين من مشروع المسجد: «كان الأولى بالمسلمين طرح مشروع بناء مركز لحوار الأديان لضرب فكرة التطرف في موقع شهد بشاعة التطرف». قلت له بل لا داعي لبناء أي شيء، دعوا المكان خاويا من ضجيج الجدال والنزاعات ليجد أهالي الضحايا مساحة يضعون فيها باقة من الزهور كل عام دون أن تختلط مشاعر حزنهم بالضغينة، لا تضيقوا عليهم مساحات الذكرى. هذا المركز الإسلامي المزمع بناؤه سيتحول إلى مركز محاماة للدفاع عن الإسلام، ولكنه سيكون دفاعا ضعيفا، لأن المحامي يترافع وقدمه فوق جثة الضحية.
وفي القرآن الحكيم آية تمثل درسا في الدبلوماسية والحنكة في التعامل مع الاختلاف، يجب أن يعيه إمام مسجد نيويورك والمسلمون المتحمسون، فالله تعالى يقول: «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ»، لأن الاستفزاز عواقبه وخيمة، لمن يدرك أبعاد الآية.
والمخجل أن أكثر من برع في الإساءة لقيم الدين الإسلامي تحديدا هم المسلمون أنفسهم، فالتاريخ الإسلامي مليء بحوادث قتل وترويع وقعت في مساجد، وقتل فيها أبرياء، ولم تحترم فيها قدسية المكان أو حرمة العبادة. وفي التاريخ المعاصر عشرات من المساجد في العراق وباكستان وأفغانستان وأذربيجان وإيران والصومال واليمن تم تفجيرها بما فيها من مصلين وبما فيها من مصاحف على أيدي مسلمين متطرفين. والمزعج أن تمر مثل هذه الأخبار دوريا دون أن تجد استنكارا يليق بفحش هذا العمل، بينما يجد التهديد بحرق القرآن في كنيسة من قبل متطرفين مسيحيين سخطا عارما بين المسلمين، على الرغم من أن لا فرق في الجريمة، فالهدف واحد، وهو محاولة الإساءة لقيمة دينية عليا. المتابع للأخبار يجد مفارقة عجيبة، فباكستان التي تشهد تفجيرات يعقبها صمت بعد كل صلاة جمعة، وكثير من المواقع المستهدفة هي مساجد بما فيها من مصلين ومصاحف، يخرج أهلها للشوارع منددين بمخطط القس جونز الداعي لحرق القرآن الكريم!! في دلالة واضحة على أن الموقف ليس دينيا بقدر ما هو سياسي.
قد يمضي القس جونز في مخططه، أو قد يتراجع فيظهر آخر، قد يرد الأشرار من الطرف المقابل بتفجير كنائس أو استهداف قوات أميركية بدعوى انتقام مزيفة، بكل أسف علينا أن نقبل فكرة وجود المتطرفين في كل دين وفي كل مجتمع، يظهرون فجأة بفكرة مخيفة أو عمل بشع، نشاهدهم اليوم ينفذون تفجيرات في باكستان ويمنعون جهود الإغاثة من الوصول إلى المنكوبين من الفيضانات، نشاهدهم يهددون بحرق كتاب مقدس أو يرتكبون مذبحة في مسجد، أو يرفعون أصواتهم بالابتهال بالهلاك بالطاعون لمن يسعى للسلام.
لا فرق بين متطرف مسلم أو يهودي أو مسيحي، فكلهم محاور للشر.
*نقلاً عن "الشرق الأوسط" اللندنية