حدث السيد الجليل والعالم النبيل بهاء الدين علي بن عبد الحميد الحسيني النجفي النيلي المعاصر للشيخ الشهيد الأول (رحمة الله) في كتاب (الغيبة) عن الشيخ العالم الكامل القدوة المقرئ الحافظ المحمود الحاج المعتمر شمس الحق والدين محمد بن قارون قال:
دعيت إلى إمرأة فأتيتها وأنا أعلم مؤمنة من أهل الخير والصلاح فزوجها أهلها من محمود الفارسي المعروف بأخي بكر ويقال له لأقاربه: بنو بكر وأهل فارس مشهورون بشدة التسنن والنصب والعداوة لأهل الإيمان وكان محمود هذا أشدهم في الباب وقد وفقه الله تعالى للتشيع دون أصحابه.
فقلت لها: واعجباه كيف سمح أبوك بك؟ وجعلك مع هؤلاء النواصب؟ وكيف اتفق لزوجك مخالفة أهله حتى تفرضهم؟ فقالت لي أيها المقرئ إن له حكاية عجيبة إذا سمعها أهل الأدب حكموا أنها من العجب قلت: وما هي؟ قالت: سله عنها سيخبرك.
قال الشيخ: فلما حضرنا عنده قلت له: يا محمود ما الذي أخرجك عن ملة أهلك وأدخلك مع الشيعة؟ فقال يا شيخ لما اتضح لي الحق تبعته أعلم أنه قد جرت عادة أهل الفرس أنهم إذا سمعوا بورود القوافل عليهم خرجوا يتلقونهم فاتفق إنا سمعنا بورود قافلة كبيرة فخرجت ومعي صبيان كثيرون وأنا إذ ذاك بي مراهق فاجتهدنا في طلب القافلة بجلهنا ولم نفكر في عاقبة الأمر وصرنا كلما انقطع منا واد لم نكن نعرفه وفيه شوك وشجر ودغل لم نر مثله قط فأخذنا في السير حتى عجزنا وتدلت ألسنتنا على صدورنا من العطش فأيقنا بالموت وسقطنا لوجوهنا.
فبينما نحن كذلك إذا بفارس على فرس أبيض قد نزل قريباً منا وطرح مفرشاً لطفياً لم نر مثله منه رائحة طيبة، فالتفتنا إليه وإذا بفارس آخر على فرس أحمر عليه ثياب بيض وعلى رأسه عمامة لها ذؤابتان فنزل على ذلك المفرش ثم قام فصلى بصاحبه ثم جلس للتعقيب.
فالتفت إلي وقال: يا محمود! فقلت بصوت ضعيف: لبيك يا سيدي، قال: ادن مني فقلت: لا استطيع لما بي من العطش والتعب قال: لا بأس عليك.
فلها قالها حسبت كأن قد حدث في نفسي روح متجددة فسعيت إليه حبواً فمر يده على وجهي وصدري ورفعها إلى حنكي فرده حتى لصق بالحنك الأعلى ودخل لساني في فمي وذهب ما بي وعدت كما كنت أولاً.
فقال: قم وائتني بحنظلة من هذا الحنظل وكان في الوادي حنظل كثير فأتيته بحنظلة كبيرة فقسمها نصفين وناولينها وقال: كل منها فأخذتها منه ولم أقدم على مخالفته وعندي أمرني أن أكل الصبر لما أعهد من مرارة الحنظل فلما ذقتها فإذا هي أحلى من العسل وأبرد من الثلج وأطيب ريحاً من المسك شبعت ورويت.
ثم قال لي: ادع صاحبك فدعوته فقال بلسان مكسور ضعيف لا أقدر على الحركة فقال له: قم لا بأس عليك فأقبل إليه حبواً وفعل معه كما فعل معي ثم نهض ليركب فقلنا بالله عليك يا سيدنا إلا ما أتممت علينا نعمتك وأوصلتنا إلى أهلنا فقال: لا تعجلوا وخط حولنا برمحه خطة وذهب هو وصاحبة فقلت لصاحبي: قم بنا حتى نقف بإزاء الجبل ونقع على الطريق فقمنا وسرنا وإذا بحائط آخر وهكذا من أربع جوانبنا. فجلسنا نبكي على أنفسنا ثم قلت لصاحبي: ائتنا من هذا الحنظل لنأكله فأتى به فإذا هو أمر من كل شيء وأقبح فرمينا به ثم لبثنا هنيئة وإذا قد استدار من الوحش ما يعمل إلا الله عدده وكلما أرادوا القرب منا منعهم ذلك الحائط فإذا ذهبوا زال الحائط وإذا عادوا عاد.
قال: فبتنا تلك الليلة آمنين حتى أصبحنا وطلعت الشمس واشتد الحر وأخذنا العطش فجزعنا أشد الجزع وإذا بالفارسين قد أقبلا وفعلا كما فعلا بالأمس فلما أراد مفارقتنا قلنا له: بالله عليك ألا أوصلتنا إلى أهلنا فقال: أبشرا فسيأتيكما من يوصلكما إلى أهليكما ثم غابا.
فلما كان آخر النهار إذا برجل من فراسنا ومعه ثلاث أحمرة قد أقبل ليحتطب فلما رآنا ارتاع منا وانهزم وترك حميره فصحنا إليه باسمه وتسمينا له فرجع وقال يا ويلكما أن أهاليكما قد أقاموا عزاء كما قوماً لا حاجة في الحطب فقمنا وركبنا تلك الأحمرة فلما قربنا من البلد دخل أمامنا ففرحوا فرحاً شديداً وأكرموه وأخلعوا عليه.
فلما دخلنا إلى أهلنا سألوا عن حالنا فكينا لهم بما شاهدناه فكذبونا وقالوا هو تخيل لكم من العطش.
قال محمود: ثم أنساني الدهر حتى كأن لم يكن ولم يبق على خاطري شيء منه حتى بلغت عشرين سنة وتزوجت وصرت أخرج في المكاراة ولم يكن في أهلي أشد مني نصياً لأهل الإيمان سيما زوار الأئمة عليهم السلام بـ (سر من رأى) فكنت اكريهم الدواب بالقصد لأذيتهم بكل ما أقدر عليه من السرقة وغيرها وأعتقد أن ذلك مما يقريني إلى الله تعالى.
فاتفق أني كريت دوابي لقوم من أهل الحلة وكانوا قادمين إلى الزيارة منهم ابن السهيلي وابن عرفة وابن حارب وابن الزهدري وغيرهم من أهل الصلاح ومضيت إلى بغداد وهو يعرفون ما أنا عليه من العناد فلما خلوا بي من الطريق وقد امتلأوا علي غيظاً وحنقاً لم يتركوا شيئاً من القبيح إلا فعلوه بي وأنا ساكت لا أقدر عليهم لكثرتهم فلما دخلنا بغداد ذهبوا إلى الجانب الغربي فنزلوا هناك وقد امتلأ فؤادي حنقاً.
فلما جاء أصحابي قمت إليهم ولطمت على وجهي وبكيت فقالوا ما لك؟ وما دهاك؟ فحكيت لهم ما جرى علي من أولئك القوم فأخذوا في سبهم ولعنهم وقالوا طب نفساً فإنا نجتمع معهم في الطريق إذا خرجوا ونصنع بهم أعظم مما صنعوا.
فلما جن الليل أدركتني السعادة فقلت في نفسي: إن هؤلاء الرافضة لا يرجعون عن دينهم بل غيرهم إذا زهد يرجع إليهم فما ذلك إلا لأن الحق معهم فبقيت مفكراً في ذلك وسألت ربي بنبيه محمد (صلى الله عليه وآل وسلم) أن يريني في ليتي علامة استدل بها على الحق الذي فرضه الله تعالى على عباده.
فأخذني النوم فإذا أنا بالجنة قد زخرفت فإذا فيها أشجار عظيمة متخلفة الألوان والثمار ليست منها أشجار الدنيا لأن أغصانها مدلاة وعروقها إلى فوق ورأيت أربعة انهار: من خبر ولبن وعسل وماء وهي تجري وليس لها جرف بحث لو أرادت النملة أن تشرب منها لشربت ورأيت نساء حسنة الأشكال ورأيت قوماً يأكلون من تلك الثمار ويشربون من تلك الأنهار وأنا لا أقدر على ذلك فكلما أردت أن أتناول من الثمار تصعد إلى فوق وكلما هممت أن أشرب من تلك الأنهار تغور إلى تحت فقلت للقوم: ما بالكم تأكلون وتشربون؟ وأنا لا أطيق ذلك؟ فقالوا إنك لا تأتي إلينا بعد.
فبينا أنا كذلك وإذا بفوج عظيم فقلت: ما الخبر؟ فقالوا سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام قد أقبلت فإذا بأفواج من الملائكة على أحسن هيئة ينزلون من الهواء إلى الأرض وهم حافون بها، فلما دنت وإذا بالفارس الذي قد خلصنا من العطش بإطعامه لنا الحنظل قائماً بين يدي فاطمة (عليها السلام) فلما رأيته عرفته وذكرت تلك الحكاية وسمعت القوم يقولون: هذا (م ح م د) بن حسن الحسن القائم المنتظر فقام الناس وسلموا على فاطمة عليها السلام فقمت أنا وقلت السلام عليك يا بنت رسول الله فقالت وعليك السلام يا محمود أنت الذي خلصك ولدي هذا من العطش؟ فقلت: نعم يا سيدتي! فقالت إن دخلت مع شيعتنا أفلحت فقلت أنا داخل في دينك ودين شيعتك مقر بإمامة من مضى من بنيك ومن بقي منهم فقالت: أبشر فقد فزت.
قال محمود فانتبهت وأنا أبكي وقد ذهل عقلي مما رأيت فانزعج أصحابي لبكائي وظنوا أنه مما حكيت لهم فقالوا طب نفساً فوالله لنتقمن من الرافضة فسكت عنهم حتى سكتوا وسمعت المؤذن يعلن بالآذان فقمت إلى الجانب الغربي ودخلت منزل أولئك الزوار فسلمت عليهم فقالوا: لا أهلاً ولا سهلاً أخرج عنا لا بارك الله فيك فقلت: إني قد عدت معكم ودخلت عليكم لتعلموني معالم ديني فبهتوا من كلامي وقال بعضهم: كذب وقال آخرون: جاز أن يصدق.
فسألوني عن سبب ذلك فحكيت لهم ما رأيت فقالوا: إن صدقت فإنا ذاهبون إلى مشهد الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) فامض معنا حتى نشيعك هناك فقلت: سمعاً وطاعة وجعلت أقبل أيديهم وأقدامهم وحملت إخراجهم وأنا أدعو لهم حتى وصلنا إلى الحضرة الشريفة فاستقبلنا الخدام ومعهم رجل علوي كان أكبرهم فسلموا على الزوار فقالوا له: افتح لنا الباب حتى نزور سيدنا ومولانا فقال: حباً وكرامة ولكن معكم شخص يريد أن يتشيع ورأيته في منامي واقفاً بني يدي سيدتي فاطمة الزهراء صلوات الله عليها فقالت لي: يأتيك غداً رجل يريد أن يتشيع فافتح له الباب قبل كل أحد، ولو رأيته الآن لعرفته.
فنظر القوم بعضهم إلى بعض متعجبين فقالوا: فشرع ينظر واحد واحد فقال الله أكبر هذا والله هو الرجل الذي رأيته ثم أخذ بيدي فقال القوم: صدقت يا سيد وبررت وصدق هذا الرجل بما حكاه واستبشروا بأجمعهم وحمدوا الله تعالى ثم أنه أدخلني الحضرة الشريفة وشيعني وتوليت وتبريت.
فلما تم أمري قال العلوي وسيدتك فاطمة تقول لك سيحلقك بعض حطام الدنيا فلا تحفل به وسيخلفه الله عليك وستحصل في مضايق فاستغث بنا تنج فقلت: السمع والطاعة وكان لي فرس قيمتها مائتا دينار وخلف الله على أوالي من والاهم وأعادي من عاداهم وأرجو بهم حسن العاقبة.
ثم أني سعيت إلى رجل من الشيعة فزوجني هذا المرأة وتركت أهلي فما قبلت أتزوج منهم وهذا ما حكى لي في تاريخ شهر رجب سنة (788هـ) والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله.