مقال لأحمد مطر
لا يهمني أن تظلّ قضية قبرص بلا حل الى أبد الآبدين، لكنني، مع ذلك، مضطر الى متابعة تطوراتها بسبب اضطراري الى حلاقة شعري شهرياً، ذلك لأن حلاقي قبرصي يوناني، وهو ينتظرني بفارغ الصبر ليناقش معي، حال جلوسي على الكرسي، آخر مستجدات تلك القضية، ولا بد لي من مجاراته، كي أستطيع من خلال تعاطفي أن ألفت نظره، بين الحين والآخر، الى الاهتمام بالقضية ذات الأولوية التي جئت من أجلها: حلاقة شعري!
كان ولدي بصحبتي حين توجهت الى الحلاق في المرة الأخيرة، ووجدتني أشكو إليه كأنني مقبل على كارثة: لا أدري ماذا أصنع؟ لقد شغلني مرضي عن متابعة أهم ما يتعلق بقضية بلادي، فما بالك بقضية قبرص؟
تساءل ولدي بدهشة: وما شأنك بقبرص؟!
قلت له: إنه شأني... وسترى أنّ صديقي جورج سيبدأ المعزوفة حتى قبل جلوسي على الكرسي. شعري مبرمج على ذلك، إذ لا يمكن لجورج أن يقصّه دون أن يقصّ عليّ قضيته.
بادرني ولدي بطوق نجاة: اسبقه أنت هذه المرة. اخترع فاجعة من أيّ نوع واشغله بها حتى النهاية.
وجدتها فكرة جيدة، فبدأت أبرم خيوط المأساة القابلة للاستطالة، حتى إذا دخلنا الصالون ووجدناه خالياً من الزبائن، ساورني القلق، فهمست لولدي: لن يكون متعجلاً. لديه وقت كاف لأخذ حصة وافرة من الكلام.
حييت جورج، وانطلقت رأساً نحو المغسلة، فتبعني وهو يسألني عن الأحوال، وتلك هي عادته قبل أن يبدأ العزف... فاغتنمت الفرصة حالاً وأطلقت زفرة حارقة: أوه يا جورج لا تسأل إنها كارثة كارثة بالمعاني كلها. لم يبق لي من أسرتي سوى أمي، وهي عجوز متهالكة لا أظنها ستعيش بعد هذه الصدمة.
تباطأ جورج وهو يصب الشامبو في كفه استعداداً لفرك شعري، وتساءل بهلع واضح: ماذا حدث؟
قلت له وأنا أخفي ابتسامتي في قعر المغسلة: لا أدري من أين أبدأ، لقد وقع انفجار في البصرة فأودى بحياة جميع أهلنا في ميسان.
صفر جورج متاثراً وأبدى جميع ألوان الحزن والأسى وكفت يداه عن فرك شعري، لكنني في اللحظة نفسها، كنت مشفقاً على ولدي الذي أعلم أنه كان يحاول جاهداً كتم ضحكته، فالمسافة بين البصرة وميسان تستغرق ساعتين بالسيارة إذا انطلقت باقصى سرعتها.
قلت بحسرة: شكراً لله على أن أمي لم تكن في ميسان عند وقوع الانفجار. لا أحد يعلم على وجه اليقين من هم الأوغاد الذين وراء الانفجار.
فرك جورج شعري بعصبية ومضى في التضامن معي الى أقصى حد. إذ بادر متطوعاً بأريحية إلى كشف الغموض عن هذه القضية: إنهم الأتراك صدقني هذا ما يفعلونه دائماً. إنهم يغتنمون أي فرصة للقيام بالتخريب ولا تنس أن الأبواب مشرعة أمامهم بسبب علاقتهم القوية بأميركا وإسرائيل سلني عنهم.
ثم لفّ شعري المبلل بالمنشفة وقادني الى الكرسي قائلاً: من كان باعتقادك وراء الانفجارات في أثينا؟ إنهم هم. ساءهم أن يصوت القبارصة اليونانيون ضد انضمامهم الى الاتحاد الأوروبي. يحسبوننا أغبياء لنقول نعم... كلا عليهم أن يدفعوا الثمن أولاً برفع أيديهم عنا نحن القبارصة اليونانيين والأتراك. لا شأن لنا بتركيا فليرفعوا أيديهم عنا.
ومضى يطقطق بالمقص ليصنع توازناً بينه وبين طقطقة فكيه.
ولمحت في المرآة وجه ولدي ورأيته يرفع يديه وحاجبيه معاً إشارة إلى ألا فائدة إطلاقاً من طوق النجاة، ما حفزني على مقاومة الغرق بكل ما أوتيت من قوة فخبطت الموج بيدي العاريتين محولاً الموضوع نحو جهة بعيدة: إسمع يا صديقي جورج. لدينا نكتة تروى عن صاحب الجمل. إنه تلميذ مهووس بالجمل، فمهما كان موضوع درس الإنشاء فإنه لا بد من أن يتحوّل بين يديه الى حديث عن الجمل... وقد وجد المدرس أنّ الحل الوحيد لهذه المعضلة أن يوجّه التلامذة لكتابة موضوع عن الكومبيوتر، فبدأ صاحبنا موضوعه قائلاً: الكمبيوتر جهاز الكتروني حديث قد انتشر في جميع مدن العالم، لكنه لم يصل الى الصحراء، فأهل الصحراء لا يتمتعون بخدمة الكهرباء، وهم يعيشون متنقلين طلباً للعشب، ووسيلة تنقلهم (الجمل)، والجمل حيوان يستطيع أن يختزن في جوفه الماء والطعام لفترة طويلة... وهكذا.
لم يبق أمام المدرسة، بعد هذا، إلا أن تطرد هذا التلميذ، فكتب شكوى الى مدير التربية قال فيها: إنني على رغم ظلم المدرّس لي، فقد تحملت هذا الظلم طويلاً، وصبرت عليه صبر الجمل، والجمل كما يعرف سعادتك حيوان يعيش في الصحراء، ويتصف بالصبر والقدرة على اختزان الماء في جوفه لفترة طويلة.
انفجر جورج ضاحكاً، ونسى كلّ ما كان من كارثتي التي تبكي الحجر، فحمدت الله على نجاتي، وغمزت لابني في المرآة، فوجدته يبتسم فرحاً لقدرتي على الانتصار أخيراً.
وطقطق جورج بالمقص فالتهم خصلة من شعري، لكنه لم يلبث أن توقف، وقال وهو لا يزال يضحك: أتعرف؟ أصبت الهدف تماماً. إن صاحب الجمل هذا مثل تركيا بالضبط. كلّما حاولنا أن ننجو بأنفسنا باعتبارنا دولة اسمها قبرص، عضّت علينا بأسنانها باعتبار أنّ نصف القبارصة أتراك.
ومضى في معزوفته حتى نهايتها المعهودة، وهو لا يكفّ عن الضحك، بين الفينة والأخرى، من صاحب الجمل، من دون أن يخطر في باله أنّه هو نفسه صاحب الجمل!
قلت لولدي بعد مغادرتنا الصالون: لم يعد في القوس منزع... إمّا أن تحلّ قضية قبرص، وإمّا أن أبدل هذا الحلاق. لكن المشكلة هي أنني لا أستطيع تبديله... هو حلاق جيد.
قال ولدي، وقد تأكد أنّ جورج محصّن ضدّ أي خطة حربية مهما كانت بارعة: ليس أمامك إذاً، إلا أن تحلّ قضية قبرص.
******************
ملاحظة شخصية:
وانا اقرأ المقال تذكرت العراقيين الذين يناقشون باستمرار ماسيهم ولو عرضت الماساة نفسها على 10 منهم فسيجد كل واحد منهم جملا لينتهي اليه وهو نفس الجمل الذي يكرهه اما لأسباب سياسية او طائفية او قومية ...سواء كان لذلك الجمل في الموضوع ناقة او جمل او لم يكن ...
اتمنى ان نال المقال استحسانكم.