في مثل هذه الظروف، كيف ستدوم حكومة الإمام المهدي (عج)؟ وإن كانت الفرصة مؤاتية لصولة المنافقين، ومن الممكن أن يجتمع عدد من المنافقين الانتهازيين لهدم كل الجهود. فهل يمكن تحقق المجتمع المهدوي رغم هذه المشاكل؟ وكيف يمكن أن لا ينمو النفاق في عهد الإمام بل يُذلّ أيضاً مع حفظ كرامة الإنسان؟
الجواب هو أن «الالتزام برعاية الكرامة الإنسانية» كان وسيكون واحداً من خصائص الأئمة المعصومين (ع). غير أن افتضاح النفاق وذلته سيتحقق إثر أدلة أخرى. فبصيرة الناس من جانب، وكثرة الخواص الصالحين من جانب آخر، بالإضافة إلى شدة الإمام في التعامل مع الخواص الصالحين المحيطين به والذين هم من ولاته، توجب ذلة المنافقين وافتضاحهم.
إذا تم التعامل مع الولاة بشدة، لا يلجأ أحد للنفاق طمعاً للوصول إلى المقام. وإذا كثُر عدد الخواص الصالحين، لا يستطيع الخواص الطالحون أن يضغطوا على وليّ الأمر للوصول إلى مآربهم. وإذا كان الناس من أهل البصائر، سيفتضح أدنى ما يقوم به شخص من تصرّف نفاقيّ، ولا حاجة عندئذ لاكتشاف النفاق إلى إفشاء أسمائهم من قبل الإمام. وعند ذلك لا يسوغ الترحّم على المنافقين؛ لأنهم من جانب كانت لديهم الفرصة الكافية لاختيار الطريق الصحيح، ومن جانب آخر، يحق للناس الذين تحلّوا بالبصيرة وعرفوا المنافقين أن يعيشوا بسلام واستقرار عبر القضاء عليهم. فقد حُفظت كرامة المنافقين لأن الفرصة كانت متوفرة لديهم وهم الذين فضحوا أنفسهم، ولوحظت كرامة عامة الناس أيضاً لأنهم هم الذين اتّصفوا بالبصيرة وفضحوا المنافقين.

في زمن الظهور، تتهيأ الأرضية لمواجهة المنافقين

فلو شاهدنا أن الإمام يعمل في الظاهر على خلاف سيرة آبائه الطاهرين، فليس دليله بأن تلك الأسس قد ارتفعت، بل لأن الأرضية قد تهيأت لتطبيق أسس أخرى؛[1] ومن أهم تلك الأسس، هي تطبيق حكم الله بشأن المنافقين حيث قال: ﴿یا أَیُّهَا النَّبِیُّ جاهِدِ الْکُفَّارَ وَالْمُنافِقینَ وَاغْلُظْ عَلَیْهِمْ!﴾[2] ، ولو أن الجهاد مع المنافقين والغلظة عليهم قلّما نشهدها في صدر الإسلام، فإن ذلك ناجم من قلبة البصيرة عند الناس وقلة الخواص العارفين.[3] وهذان العاملان يمثلان جزءاً من أسرار وأسباب مظلومية أولياء الله.
الإشکال الثاني: أساساً لا يتحقق الوضع المنشود بالكامل في ظل حكومة الموعود إلّا إذا انتهج الناس كلهم النهج الإلهي. بيد أنّ التجربة التاريخية لحياة البشر تكشف بأن أكثر الناس لا يخضعون للأوامر الإلهية. فيكيف أنهم سيتبعون الحق بعد ظهور الإمام بصورة شاملة وثابتة، ويعبّدون الطريق لاستقرار الحكومة الموعودة واستدامتها؟ هل ستتغير ذائقة الناس تغييراً غريزياً خاصاً، أم أنّ الخوف من حاكمية الدين تسلب منهم التجرؤ على المعصية؟ وبعبارة أخرى، هل ستسلب قدرة التفكير ضد الحق، أم سترتفع أرضية الحديث عن الآراء الباطلة من الأساس؟
يكمن الجواب عن هذه الأسئلة في سرّ حاكمية الحق. ولعل أهم سرّ لحاكمية الولاية الإلهية المطلقة هو أن المكر والجور سينقضي أمدهما في ظلّ هذه الحكومة سيما إذا وصلت إلى ذروة اقتدارها، وانقضاء فترة الطغيان وتحرّر الناس من أسر الطواغيب يوجب تعبيد الطريق لهدايتهم. وفي مثل هذه الأوضاع، سيتقبّل أكثر الناس الحق عقلاً وقلباً وبصورة طبيعية جداً وسيتخذون تلقائياً موقفاً صحيحاً تجاه الدين؛ ذلك الموقف الذي تقتضيه الفطرة ويؤكّد عليه الأنبياء.

حاکمیة الطاغوت، سبب أکثر الانحرافات

على أساس هذا التحليل، فإنّ سبب أكثر الانحرافات والمزلات في الوقت الحاضر، هو عدم حاكمية الحق وبتعبير أدق، حاكمية الطاغوات. وقد صرّح القرآن بذلك معتبراً بأن الطاغوت أشدّ وقعاً على الناس من الكفر حيث قال: ﴿وَالَّذینَ کَفَرُوا أَوْلِیاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ یُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَی الظُّلُماتِ.﴾[4]
وإذا ما نظرنا اليوم إلى ساحة الفكر والعلم، لوجدنا بوضوح أنّ العلم لم يسلك طريقه الطبيعي، وأنّ هذه الأفكار الباطلة لم تتبلور إثر التفكير البشري. ولو أمعنّا النظر، لوجدنا أنّ الأفكار اللاإنسانية واللادينية هي إما وليدة هيمنة الطواغيت الفاسدين والمفسدين أو نتيجة غير مباشرة للفساد والظلم الذي أحلّوه بالمجتمعات البشرية. وغالباً ما نجد العلم والفكر على مرّ التاريخ رازحاً تحت سيطرة الجائرين وعبّاد الأموال، وكلّما اقتضت الظروف، استخدموا العلم وسيلة لتحقيق مطامعهم والوصول إلى مآربهم.

الحرية الكاملة تحت ظل حاكمية الولاية

وعندما يصل الناس إلى الحرية الكاملة على أثر حاكمية الولاية، وتوضع عن أفكارهم الأغلال والسلاسل،[5] يتفكرون ويتحدثون بشكل صحيح. وفي هذه الصورة تقترب المسافة من شمس الحقيقة ويغطّي النور الخافقين. ولا تبقى إلّا الخفافيش الميّالة إلى الظلمة التي انتهجت سوء التفكير لمرض في قلبها. فهم حينما لا يجدون موقعاً لهم في أوساط أهل البصائر، سيختمون على أفواههم الثرثارة ولا يبقى مجال لمهاتراتهم التي لا طائل من ورائها في المجتمع.
ولابد أن يعنى بهذه المسألة كل من ينزع إلى الأدب والثقافة طلباً للراحة؛ وهي أنه لا يمكن هداية الخلق من دون السعي لإقامة حكومة الحق؛ ولا يمكن بسط المعرفة والمعنوية من دون إمساك زمام الحكم. فإن دائرة تأثير أي جهد لهداية الناس في عهد حكومة الطاغوت محدودة للغاية.

يتبع إن شاء الله...

[1].عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: «قُلْتُ لَهُ: صَالِحٌ مِنَ الصَّالِحِينَ سَمِّهِ لِي - أُرِيدُ الْقَائِمَ (ع) - فَقَالَ: اسْمُهُ اسْمِي. قُلْتُ: أَيَسِيرُ بِسِيرَةِ مُحَمَّدٍ (ص)؟ قَالَ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ يَا زُرَارَةُ. مَا يَسِيرُ بِسِيرَتِهِ. قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، لِمَ؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ص) سَارَ فِي أُمَّتِهِ بِاللِّينِ [بِالمِنًّةِ]، كَانَ يَتَأَلَّفُ النَّاسَ، وَالْقَائِمُ (ع) يَسِيرُ بِالْقَتْلِ، بِذَلِكَ أُمِرَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي مَعَهُ، أَنْ يَسِيرَ بِالْقَتْلِ وَلَا يَسْتَتِيبَ أَحَداً، وَيْلٌ لِمَنْ نَاوَاهُ.» الغیبة النعماني، ص231.
وعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَقُولُ: «لَسِيرَةُ عَلِيٍّ (ع) فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ كَانَتْ خَيْراً لِشِيعَتِهِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ. إِنَّهُ عَلِمَ أَنَّ لِلْقَوْمِ دَوْلَةً فَلَوْ سَبَاهُمْ لَسُبِيَتْ شِيعَتُهُ. قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْقَائِمِ (ع) يَسِيرُ بِسِيرَتِهِ؟ قَالَ: لَا، إِنَّ عَلِيّاً (ع) سَارَ فِيهِمْ بِالْمَنِّ لِلْعِلْمِ مِنْ دَوْلَتِهِمْ، وَإِنَّ الْقَائِمَ عَجَّلَ اللَّهُ فَرَجَهُ يَسِيرُ فِيهِمْ بِخِلَافِ تِلْكَ السِّيرَةِ، لِأَنَّهُ لَا دَوْلَةَ لَهُمْ.» الکافي، ج5، ص33.
وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ هَارُون‏ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) جَالِساً فَسَأَلَهُ مُعَلَّى بْنُ خُنَيْسٍ: أَ يَسِيرُ الْقَائِمُ (ع) بِخِلَافِ سِيرَةِ عَلِيٍّ (ع)؟ قَالَ: «نَعَمْ وَذَلِكَ أَنَّ عَلِيّاً سَارَ بِالْمَنِّ وَالْكَفِّ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ شِيعَتَهُ سَيُظْهَرُ عَلَيْهِمْ [مِنْ بَعْدِهِ] وَإِنَّ الْقَائِمَ إِذَا قَامَ، سَارَ فِيهِمْ بِالسَّيْفِ وَالسَّبْيِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ شِيعَتَهُ لَمْ يُظْهَرْ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً.» تهذیب الأحکام، ج6، ص154؛ الغیبة للنعماني، ص232.
علماً بأن بعض الروايات تشير إلى أن الإمام يعمل على سيرة رسول الله (ص) أو أمير المؤمنين (ع) في موضوع معين. (كالأحاديث الواردة في الهامش ص ؟؟؟) وبأدنى تأمّل يتضح أن لا تعارض بين هاتين الطائفتين من الروايات ويمكن الجمع بينهما. فإن الإمام (ع) يسير في بعض المسائل على سيرة النبي (ص) ويخالفه في البعض الآخر لتوافر أرضية تطبيق بعض الأحكام والأسس التي لم تكن متوافرة آنذاك. والروايات الواردة في الهامش ص ؟؟؟، قد تؤيّد هذا الرأي.
[2].سورة التوبة، الآیة 73.
[3].فعلى سبيل المثال، قال رسول الله (ص) في سبب عدم مجازاة المتآمرين على قتله: «أَکْرَهُ أَنْ یَتَحَدَّثَ النَّاسُ وَیَقُولُوا إِنَّ مُحَمَّداً قَدْ وَضَعَ یَدَهُ فِي أَصْحَابِهِ.» وذلك لفقدان البصيرة عند الناس. إعلام الوری، ص123. وأمير المؤمنين أيضاً لم يتعامل بشدة مع المنافقين حفظاً لشيعته، وأما في زمن ظهور الإمام الحجة (عج)، فسيتم التعامل مع المنافقين كالفكار، فعن الإمام الباقر (ع): «ثُمَّ یَدْخُلُ الْکُوفَةَ فَیَقْتُلُ بِهَا کُلَّ مُنَافِقٍ مُرْتَاب.» الإرشاد للمفید،ج2،ص384. وعن الإمام الصادق (ع): «لَا یَقْتُلُ أَحَداً مِنْهُمْ إِلَّا کَافِرٌ أَوْ مُنَافِقٌ.» بحار الأنوار، ج52، ص386.
[4].سورة البقره، الآیة 257.
في خصوص معنى الآية، أشكل البعض بأن الكافر كيف يكون له نور أو أنه في نور حتى يُخرجه الطاغوت من النور إلى الظلمة. يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان، في ذيل هذه الآية: «... لكن يمكن أن يقال: إن الإنسان بحسب خلقته على نور الفطرة، هو نور إجمالي يقبل التفصيل، وأما بالنسبة إلى المعارف الحقة والأعمال الصالحة تفصيلاً فهو في ظلمة بعد لعدم تبين أمره، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما، والمؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلاً، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيلية.» الميزان، ج‏2، ص364.
ويقول آية الله الشيخ مكارم الشيرازي: «يمكن أن يقال أنّ الكفّار ليس لهم نور فيخرجوا منه، ولكن مع الالتفات إلى أنّ نور الإيمان موجود في فطرتهم دائما فينطبق عليه هذا التعبير انطباقاً كاملاً.» الأمثل، ج2، ص266.
ويقول آية الله الشيخ جوادي الآملي في تفسير هذه الآية: «ثمرة التمسّك بالعروة الوثقى، هي الإيمان الأمثل والنور، ونتيجة تقبل ولاية الطاغوت، هي ازدياد الكفر والظلمة. فإنّ الله يتولّى المؤمنين ويدفع أو يرفع عنهم الظلمة؛ أما الطاغوت الذي هو عدوّ للمؤمن والكافر، فهو يُلقي درس الطغيان ويرفع بذلك نور الفطرة ويدسّ الكافر في الظلمة.» تفسیر تسنیم، ج12، ص194.
[5].﴿يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتي‏ كانَتْ عَلَيْهِمْ.﴾ سورة الأعراف، الآیة 157.