بقلم فضيلة المحروس13/ نوفمبر 2013
إيمان يتحدى الموت
يعجز المرء هنا أن يصف معنويات وعزائم هذه المرأة الجسور، الصبور؛ الذي لا يقاس حدٌ ولا مدٌ لصبرها وثباتها العظيم، وبالخصوص في ذلك اليوم العظيم "يوم العاشر من المحرم"؛ الذي جسدّت فيه كل معاني الصمود والثبات بمثولها ووقوفها الكبير أمام جسد أخيها وملاذها ونور عينها والبقية الباقية لها من أهلها الحسين عليه السلام في ساحة نينوى، وهي تنظر إليه مقّطع الأعضاء، مفرّق الأشلاء، مثخنٌ بضربات الرماح والسيوف والطعنات التي نزلت عليه كشآبيب المطر من قبل شر الأعداء.
وبناءًا على روايات أهل البيت عليهم السلام قدّرت احصائيات واقعة كربلاء عدد الضربات الواقعة على جسد الحسين عليه السلام بـ 33 طعنة رمح و34 طعنة سيف وجراحات أخرى من أثر وقع النبال عليه. وذكر انه حينما سلب قميص الحسين عليه السلام وجد فيه أثر 1900 من الجراحات، حتى وصف قميصه الرواة بأنه كان كالقنفد من كثرة الضربات أي كانت الطعنة فيه على الطعنة والرمية على الرمية لذا يرجو مراجعة مصادرنا التأريخية لابن طاووس في اللهوف والمجلسي في البحار والبهباني في الدمعة الساكبة..
ويعزّ على عقيلة بني هاشم زينب صلوات الله عليها أن ترى أعضاء أخيها الحسين الطاهرة في هذه الحال مرمية فوق الثرى ممرغة في التراب المدمى وهي التي كانت يوماً من الأيام موضع قبلات ثغر جدها المصطفى صلى الله عليه وآله وموضع بكائه ايضاً حيث كان دائماً يقبلها ويبكي ويقبل نحره وقلبه وجبهته وأسنانه وكل ناحية في بدنه.
وأشار الرواة إلى ذلك ما نصه (حدَّثني الحسن بن عبدالله بن محمّد بن عيسى، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن عليِّ بن شجرة، عن سَلامٌ الجعفيِّ، عن عبدالله بن محمّد الصّنعانيِّ، عن أبي جعفرعليه السلام (قال: كان رَسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا دخل الحسين عليه السلام جذَبه، ثمّ يقول لأمير المؤمنين عليه السلام: أمسكه، ثمَّ يقع عليه فيقبّله ويبكي فيقول: يا أبه لم تبكي؟ فيقول: يا بني اُقبّل موضع السّيوف منك وأبكي، قال: يا أبه واُقتَل؟ قال: إي والله وأبوك وأخوك وأنت، قال: يا أبه فمصارعنا شتّى؟ قال: نعم يا بنيَّ، قال: فمن يزورنا مِن اُمّتك؟ قال: لا يزورني ويزور أباك وأخاك وأنت إلاّ الصّدِّيقون مِن اُمّتي) .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقّبل هذه الأعضاء الشريفة ويقول: (حُسينٌ منّي، وأنا من حُسين، أحَبَّ الله من أحبَّ حُسيناً، حُسينٌ سِبْط من الأسباط) ، فكيف بقلبه صلى الله عليه وآله أن يرى من ذبح الحسين عليه السلام وأمر بقتله وحمل أهله على أقتاب الجمال؟!
هل كانت السيدة زينب عليها السلام تعلم بتفاصيل استشهاد أخيها الحسين عليه السلام قبل يوم عاشوراء أو بالذي سيجري عليه وعلى جسده الطاهر؟
ثمة شواهد تدلنا على ان السيدة زينب عليها السلام كانت مستعلمة قبل واقعة الطف بحال استشهاد أخيها الحسين عليه السلام وما سيجري عليه وعلى جسده الطاهر.
ذكر أن الإمام الحسين عليه السلام نعى نفسه كثيراً في عدة مرات وفي عدة مواطن، وتحدث فيها عن تفاصيل موته ومصرعه الشريف في كربلاء وما سيلاقيه جسده الطاهر وأعضاؤه الشريفة من حدة سيوف بني أمية الملاعين. وسمعت الحوراء زينب عليها السلام ذلك في جميع تلك المواطن وذلك لشدة ملازمتها لأخيها الحسين عليه السلام في تلك الفترة العصيبة.
- وجاء في خطبة الإمام الحسين عليه السلام الشريفة التي ألقاها على أصحابه وهم سائرون من الحجاز إلى العراق، قائلاً: (وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً. لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين ...). وصرح في مواطن عدّة بأنّ بني أمية غير تاركيه حتى لو كان في جحر ضب لاستخرجوه وقتلوه، وقال عليه السلام للعكرمي في بطن عقبة: (ليس يخفى عليّ الرأي ولكنهم لا يدعونني حتى يخرجوا هذه العلقة من جوفي)
- و (روي الإمام الصادق عليه السلام في الأمالي: ثم إن الحسين عليه السلام أمر بحفيرة فحفرت حول عسكره تشبه الخندق وأمر فحُشيت حطباً، وأرسل علياً ابنه عليه السلام في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ليستقوا الماء وهم على وجل شديد وأنشأ الحسين عليه السلام يقول:
يا دهر اُفٍ لك من خليــل كم لك في الاشراق والاصيل
من طالب وصاحب قتيــل والدهرُ لا يقنعُ بالبديـــل
وإنما الامر إلى الجليل وكلُ حيّ سالكٌ سبيلـي
- وأشارت المقاتل إلى ان الإمام الحسين عليه السلام أخبر أخته السيدة زينب عليها السلام في كربلاء المقدسة عن إقتراب حتفه وأجله حينما رأى جده رسول الله صلى الله عليه وآله في رؤيا وأمره بالإستعجال، وجاءت ( قال: ثم ان عمر بن سعد نهض إليه عشية الخميس لتسع مضين من المحرم، ونادى: يا خيل الله اركبي وابشري: فركب في الناس، ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمام بيته محتبيا بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه وسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها فقالت: يا أخي! اما تسمع الأصوات قد اقتربت قال: فرفع الحسين رأسه، فقال: إني رأيت رسول صلى الله عليه وآله في المنام فقال لي انك تروح إلينا، قال: فلطمت أخته وجهها، وقالت: يا ويلنا! فقال: ليس لك الويل يا أخية اسكني، رحمك الرحمن)
- ونقل الشيخ المفيد في (ارشاده) (قال علي بن الحسين عليه السلام: إني جالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمتي زينب تمرضني، إذ أعتزل أبي في خبائه وعنده جون مولى أبي ذر الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:
يـــا دهــر أف لــك مـــن خليـل كم لــــك بالإشــــراق والأصيل
مــــن صــــاحب أو طالب قتيل والـــدهر لا يــــقنع بالبديــــــل
وإنــمــا الأمــر إلى الــجــلـيــل وكــــــل حــــي ســالك سبيـــل
فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى فهمتها وعرفت ما أراد، فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت وعلمت أن البلاء قد نزل.
وأما عمتي فلما سمعت ما سمعت وهي امرأة، ومن شأن النساء الرقة والجزع فلم تملك نفسها إذ وثبت تجر ثوبها وأنها لحاسرة حتى انتهت إليه فقالت واثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة، وأبي علي، وأخي الحسن، يا خليفة الماضين وثمال الباقين. فنظر إليها الحسين فقال لها: يا أخيه لا يذهبن حلمك الشيطان، واغرورقت عيناها بالدموع وقال: لو ترك القطا ليلاً لنام. فقالت: يا ويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصاب. فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي. ثم لطمت وجهها وهوت إلى جيبها فشقته وخرت مغشيا عليها. فقام إليها الحسين فصب على وجهها الماء وقال: أيهاً يا أختاه أتقى الله وتعزي بعزاء الله، وأعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجهه..) .
ان معرفة السيدة زينب عليها السلام بكل هذه الأمور قبل فاجعة يوم الطف لا يقلل أو يخفف من شدة الفاجعة على قلبها لأن معرفة الحال قبل وجوده شيء ووجوده في الواقع شيء أخر وشتان بين الأمرين، فمثولها أمام جسد أخيها المقطّع كان واقعاً مشهوداً أمامها وملموساً ومحسوساً بجميع حواسها ومشاعرها وجوارحها. صحيح إن السيدة زينب عليها السلام تجلدت عنده بالصبر والتقوى والإيمان إلا أن مصابها به حتماً كان فجيعاً وعظيماً على قلبها وقد هزها من الأعماق، فبفقده فقدت السيدة زينب عليها السلام كل شيء، فقدت عزها ودلالها ومعينها ومصبّرها. لقد ذهب عنها الأخ الذي كان بالأمس معها يصبرها ويواسيها ويمسح على قلبها الطاهر. فأصبحت من بعده ثكلى وحيده فريدة.
اذن فبأي حال استقبلت هذه السيدة الجليلة هذا المشهد العظيم!. وما الموقف الذي صنعته في تلك اللحظات الخطيرة الحزينة!!
لقد ذكرت كتب السيرّة إن السيدة زينب عليها السلام جلست عند موضع رأس أخيها الحسين عليها السلام تندبه وتنعاه وتبكي عليه وتقبل أوداجه المقطعة ونحره المحزوز، وتشتكي فعل القوم عند جدها رسول الله صلى الله عليه وآله الذي رأته في تلك اللحظات، فصارت عنده تشكو بقلبٍ حزين وصوتٍ شجي، (ثم مرت زينب عقب قتل أخيها الحسين فوجدته صريعاً، فقالت: (يا محمّداه! هذا حسين بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، وذرّيتك مقتّلة فأبكت بكلامها هذا كل عدو وصديق..) .
وجاء بعد وصف حز رأس الحسين عليه السلام من قبل شمر بن ذي الجوشن وأرساله إلى ابن سعد ثم إلى ابن زياد لعنهم الله ما نصه (... قال الراوي: فوالله لا أنسى زينب وهي تندب الحسين وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب: يا محمداه، صلى عليك ملائكة السماء، هذا حسينك مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى، وإلى محمد المصطفى وإلى علي المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيد الشهداء. يا محمداه، هذا حسين بالعراء تسفي عليه ريح الصبا. واحزناه، واكرباه عليك با أبا عبد الله. اليوم مات جدي رسول الله. يا أصحاب محمد، هؤلاء ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا ـ إلى أن يقول المؤلف ـ قال: فأبكت والله كل عدو وصديق. ثم ان سكينة بنت الحسين اعتنقت جسد أبيها فاجتمع عدة من الأعراب حتى جروها عنه...) .
- (واندفعت زينب من خبائها نحو أخيها حاسرة الرأس ملتاعة وزعقت بكل قواها... واحسيناه. ثم سقطت مغمى عليها من الحزن العميق...). ونسبت إليها عليها السلام مخاطبة جدها الرسول الكريم:
هذا الذي قد كنت تلثم نحره أمسى نحيرا من حدود صبائها
من بعد حجرك يارسول اللّه قد القى طريحا في ثرى رمضائها
وجاء (نعم قد قبّلت موضعا واحدا من بدنه المبارك، ولم يقبّله المصطفى صلى الله عليه وآله، فإنها قبّلت النحر المنحور، والودج المقطوع، أي باطن ما قبّل النبي صلى الله عليه وآله ظاهره.ولذلك نادته حين وضعت وجهها على نحره المبارك، وأخبرته بأن هذا حسين مقطّع الأعضاء، ثم أخبرته بأن هذا الحسين محزوز الرأس من القفا.
من أين علمت زينب عليها السلام بذلك؟ (الأول: أن تكون قد شاهدت ذلك حين ذبحه، لكنه خلاف ما يظهر من الروايات الدالة على أنه عليه السلام أمرها بالرجوع إلى الخيام. والثاني: أن تكون قد سمعت بذلك من الناس الذين حضروا ونقلوه أو نادوه بذلك فسمعته، وهو بعيد أيضاً. والثالث: أن تكون قد استنبطت ذلك حين رأت الجسد الشريف، فإنها رأته مطروحا بكيفية علمت أنه قد حزّ رأسه من القفا، وذلك أنها رأته مكبوبا على وجهه، فعظمت مصيبتها بذلك، وإن كانت مصيبتها بعُريه عليه السلام أعظم من أصل القتل، فلهذا نادت جدها الحبيب صلى الله عليه وآله مخبرة بقتله وبأنه محزوز الرأس من القفا وبعدما انتهت العقيلة زينب صلوات الله عليها من بث حزنها وشكواها ولوعتها إلى جدها المصطفى ، توجهت نحو جسد أخيها الحسين عليه السلام وتمالكت أعصابها وربطت على قلبها ثم رفعت جثمانه الشريف قائلة (اللهم تقبل هذا القليل من القربان...)
إن موقف السيدة زينب عليها السلام الذي سجلته يوم عاشوراء عند جسد أخيها الحسين عليه السلام، وتسليمها ورضاها فيه لأمر الله تعالى وقدره وقضائه نظير الموقف الذي سجله نبينا إبراهيم في ابنه إسماعيل على نبينا وآله وعليهما السلام في حال تسليمهما ورضاهما وامتثالهما لأمر الله تعالى وقضائه في قصة القربان والفداء وتصديق الرؤيا كما جاء ذلك في الآية المباركة:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ *وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ،
لقد أذهلت السيدة زينب عليها السلام بموقفها المميز وهي المرأة بين أعداد كثر عقلاء المفكرين الذين إحتاروا في وصف حقيقته:
- فمنهم من قال (أهو الإيمان الثابت المستأصل في النفس، المستغرق للحواس والمشاعر، أم هو الإنصهار في بوتقة الإسلام. أو الرضا بمكروه القضاء والصبر في أعلى صوره وأسمى غاياته أو اجتمعت هذه كلها عندها ، فغدت ملاكاً سماوياً في أرض البطولات
- ومنهم من أشار إلى نفس المعنى حين قال: (فمن عجيب صبرها وإخلاصها وثباتها ما نقله في الطراز المذهب أنها سلام الله عليها وعلى جدها وأبيها وأمها وأخويها، لما وقفت على جسد أخيها الحسين عليه السلام قالت: اللهم تقبل منا هذا القليل من القربان قال: فقارنت أمها في الكرامات والصبر في النوائب بحيث حرقت العادات ولحقت بالمعجزات. قال المؤلف النقدي: فهذه الكلمات من هذه الحرة الطاهرة، في تلك الوقفة التي رأت بها أخاها العزيز بتلك الحالة المفجعة، التي كانت فيها تكشف لنا عن قوة إيمانها ورسوخ عقيدتها وفنائها في جنب الله تعالى، وغير ذلك مما لا يخفى على المتأمل) .
- ومنهم من غاص بعمق في تفاصيل الحادث وأخذ يتساءل عن زمن وقوف زينب عليها السلام أمام جسد أخيها أهو في الليل أم في النهار، بعد المقتل مباشرة أم في اليوم الحادي عشر من المحرم.
- ومن عظم وشدة الفاجعة بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام قيل إنه بكاه حتى عدوه وقاتله لا سيما حينما خرجت إليه أخته زينب عليها السلام تنعاه وتندبه في ساحة القتال وهو مسجى على الأرض وقطع الأوصال وحوله سيوف الأعداء مشرعة وقد أثخن بالجراح. وجاء أنها ( خرجت حفيدة الرسول من خبائها، وهي تندب أخاها بأشجى ما تكون الندبة وتقول بذوب روحها: (ليت السماء وقعت على الأرض..). وصاحت بالخبيث الدنس عمر بن سعد قائلة: (يا عمر، أرضيت أن يقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه...). فأشاح الخبيث بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته المشؤومة . حتى وجم القوم مبهوتين، وفاضت دموعهم ، وبكى العدو والصديق، فقد استبان عظم الجريمة التي اقترفوها وودّوا أنّ الأرض قد خاست بهم) .
فأين كانت عاطفة عمر بن سعد وغيره حينما حزّوا بسيوفهم رأس سيد شباب الجنة الحسين عليه السلام؟!!
أي عدو هذا الذي يمكنه أن يبكي ويتألم ويحس أمام جريمة بشعة هو صانعها ومبتدعها والمسؤول الأول والأخير عن تنفيذها، اليست دموعه هذه دموع الخدعة