جارتنا سيدة مسيحية اكملت عقدها الخامس، وهي نازحة من كركوك بعد ان اغتال مجهولون "مسلمون طبعا" فردا من عائلتها. ورغم ذلك فهي لا تشعر بأنها في عداوة مع المسلمين، وتنهمر دموعها كلما شاهدت شيعة او سنة يلقون مصارعهم بتطاحننا الغامض في قلب العالم القديم. وبمجرد ان قدمت زوجتي لعائلتها استشارات طبية بسيطة، شعرت السيدة بامتنان الكرماء، فراحت تغدق علينا بأطباق المائدة العراقية التي يتقن اهلنا المسيحيون اعدادها، وبتلك النفس الطيبة الودودة تدعو وهي تقدم لنا الطعام، ان يعم السلام بلادنا، وتسألني ببراءة شديدة ودونما خبرة في لاهوت او فلسفة: الا تعتقد يا ولدي ان الله اراد وقدّر ان يخلقنا متنوعين، في ادياننا ومذاهبنا وعاداتنا وطريقة حياتنا؟ ألم يكن الرب قادرا على ان يخلقنا جميعا من دين واحد بل وقبيلة واحدة؟ لماذا اذن خلقك في اسرة من ذلك المذهب وخلقني في عائلة من هذا الدين؟ هل اخترنا نحن ادياننا ومذاهبنا ليحاسبنا عليها هذا المسلح وذاك الانتحاري؟ ان اسئلتها لا تنتهي وأنا بلا اجابات، تقول: لماذا نجحت بريطانيا واميركا وغيرهما، في تأسيس مجتمع يعيش فيه بسلام المسيحي والبوذي، السافرة والمحجبة؟ حتى ان قريبا لها في كاليفورنيا، اخبرها بأن بعض الناس هناك يعبدون "الكائنات الفضائية" ورغم ذلك لم يتعرض لهم احد، وهي تقول ان الرب "قلبه كبير" سيرحمهم اذا كانوا صالحين محبين للسلام، فكلنا "خلقة الله".لكن اهل العالم القديم لن يقتنعوا بسهولة، بحكمة جارتنا المسيحية، وآخر دليل على موهبتنا في تفريخ النزاعات والقمع والاخضاع، ما قرأته اليوم في صحف طهران. اذ ان المتشددين هناك افتعلوا نزاعا جديدا مع مؤيدي الرئيس حسن روحاني، وأخذوا بتقسيم الحجاب في ايران الى نوع "يطير" ونوع لا يطير، طبقا لاجراءات الشرطة هناك، وبالتفصيل اللاحق.ان الرئيس الايراني المدعوم من التيار الاصلاحي المقموع، يواجه مسؤوليات تتنوع بشكل دراماتيكي، وإذا كان مضطرا لفتح كلتا عينيه على الملف النووي وتفرعاته لاستثمار "مكالمة القرن" مع اوباما، فإنه مطالب بملاحقة كل تفاصيل "القمع" الناعم والخشن الذي يتعرض له الجمهور الاصلاحي في ايران. وقد اطلق في الاونة الاخيرة نداء الى اجهزة الامن، يرجوهم فيه ان "يحفظوا كرامة الانسات والسيدات" اثناء تطبيق ما يعرف بسياسة "الامن الاخلاقي" ويجري بموجبها ملاحقة النساء اللواتي يرتدين "حجابا سيئاً". روحاني في احد خطاباته قال ان المشكلة الاساسية التي تواجه النساء واجهزة الامن هي عدم توفر "مسطرة" تميز الحجاب الجيد عن الحجاب السيء، ودعا الشرطيين والشرطيات الى التعامل بشكل متسامح مع فتيات وسيدات يرتدين حجابا لا يتفق مع المقاييس الصارمة.لكن الرد جاء على الرئيس على شكل اجراء تعسفي يوسع دائرة تطبيق "الامن الاخلاقي" الى صالات المسافرين في مطارات ايران، ويمنع "باد حجابي" او "الحجاب السيء" من ركوب الطائرة، كعقوبة مشددة، والمتشددون يقولون ان العقوبات "الاخلاقية" لابد ان تشدد لان سنوات طويلة من تطبيقها على الايرانيات، لم تنجح في اقناع الفتيات باعتماد الحجاب الصارم "المسموح له بالطيران".احد المعلقين الاصلاحيين كتب على حسابه في تويتر، رجاء الى سلطات الامن، قال فيه: ليس من اجل معايير التسامح، ولا قواعد العيش المشترك او التحول الديمقراطي، ولكن من اجل ان نتيح لروحاني ان يركز على الملف النووي، ولعله سينجح في تخفيف ولو ١٠٪ من ممكنات الشر في الشرق الاوسط، امهلونا بعض الوقت حاولوا ان تصبروا وتتجاهلوا حكاية الحجاب الذي لا يطير!المعلق الايراني لا يسخر، فهو يثير واحدا من اخطر الاسئلة التي تواجه التيار الديني المتشدد في كل مكان. اذ انه يحتاط في حجاب المرأة ولا يحتاط في ذبح العزّل وارتكاب اشنع اساليب الاضطهاد. وفوق هذا وذاك وطبقا لمعلقنا الايراني، فإنهم يريدون مشاغلة روحاني عن احلام نزع التوتر.ان المتشددين ايضا "خلقة الله".. أليس كذلك يا جارتي العزيزة؟