وعلى سبيل المقدمة ولاتضاح السؤال أكثر، نقول بأن من الأسس المهمة في دين الإسلام هي مراعاة كرامة الإنسان، إلى درجة يمكن أولاً أن يترعرع المنافقون في المجتمع الديني، (وهم الذين يُبطنون الكفر ويُظهرون الإيمان والإسلام.) وأولياء الله بكرمهم يُغلقون أبواب التجسّس والإفشاء من خلال علم الغيب أو بعض المعلومات الطبيعية ويسترون عيوبهم عبر التعامل معهم إنسانياً. وثانياً تُتاح للمنافقين الفرصة بأن يصولون في المجتمع الديني ويُحبطون بعض تدابير أولياء الله. ويكتفي أولياء الله أيضاً في الأغلب بالإفشاء العام وتنمية البصيرة ولا يشيرون بأصابع الكلام إليهم مباشرة إلّا إذا كشف المنافقون الستار عن وجوههم الحقيقية أو تسببوا لأن تُهدِّد المجتمع الديني أخطارٌ جسيمة.
ومن الطبيعي في ظلّ هذا المنهج، أن ينحرف الضعاف من المؤمنين بواسطة المنافقين بسهولة، وأن يستولي اليأس واللبس على عامة الناس أيضاً متأثرين بهذه الأجواء السائدة.
وهناك أيضاً وجه آخر للاهتمام بكرامة الإنسان وهو المهلة التي يُمهلها الله لعامة الناس من أجل أن يميزوا الحق عن الباطل بفكرهم وطينتهم الطاهرة. فإن فرصة التفكير والتحليل التي يوفّرها الله للناس هي ضرب من ضروب تكريم الإنسان، وإن كان أولياء الله يحتملون أنواع المظلومية في هذا الطريق.

منهج القرآن: ذكر علامات المنافق

واحدة من مصاديق هذا الإمهال في مسألة مراعاة كرامة الإنسان في صدر الإسلام، هو عدم إفشاء أسماء المنافقين. فقد أشار القرآن الكريم إلى علامات المنافقين[1] ولم يذكر أسماءهم في مجتمع المدينة الصغير. إلّا أنّ المنافقين كانوا قلقين من أن يفضحهم الله عبر الوحي.[2]

اتباع النبي (ص) المنهج القرآني

وقد اتبع النبي الأكرم نفس هذا المنهج، فكان يشير إلى المصاديق بالتلميح على وجه العموم وبالتصريح على وجه الخصوص. ومن الأمثلة البارزة لهذا الأسلوب في التعامل هو قضية اغتيال النبي (ص) الفاشل عند عودته من غزوة تبوك:
في طريق العودة من غزوة تبوك، تآمر جمع من المنافقين على اغتيال النبي (ص) وذلك بإسقاطه من أعلى الجبل. فأخبر جبرئيل الأمين النبي (ص) بهذه المؤامرة. فوضع رجلين من أصحابه حماية له، وأحبطوا مؤامرة المنافقين وعرفوا المتآمرين بأجمعهم حيث كانوا من وجوه المدينة، وأرادوا مجازاتهم على صنيعهم هذا فمنعم النبي من ذلك ولم يسمح لهم بذكر أسمائهم.[3]
فواصل هؤلاء المنافقون مسيرتهم وبقيت لهم مكانتهم المرموقة في المجتمع الإسلامي المدني، ودبّروا خططاً أخرى وطبقوا بعض مؤامراتهم واكتسبوا نجاحاً ملحوظاً في النيل من الحق. وهذا ما هو مشهود في عهد أمير المؤمنين (ع) أيضاً ولابد من التعرض لذلك في البحث عن سيرته السياسية.
والسؤال المهم هنا هو أنّ من يريد أن يحكم بهذه الطريقة، وأن يراعي كرامة الناس إلى هذا المستوى، فهل ستستمر حكومته؟ ولو أن الإمام المهدي (عج) سينتهج نهج النبي (ص) في حكومته، فهل هو أمر ممكن التحقق؟ وهل ستدوم حكومته؟

النفاق أحد العوارض الطبیعیة لسيادة القيم في المجتمع

والمسألة المهمة التي يجدر الاهتمام بها إضافة إلى ما ذُكر، هي أنّ النفاق يعتبر من بدايات العوارض الطبيعية لسيادة القِيم في المجتمع. فإنّ المبادئ والقيم إذا سادت في مجتمع ما، سواء كانت سيادة ثقافية (شيوع القيم في المجتمع) أو حكوميه، ستؤول بالتالي إلى ظهور النفاق.
لأنّ من لا يؤمن بقيم المجتمع، ينساق إلى التظاهر والنفاق من أجل الحفاظ على موقعه ومكانته الاجتماعية. ورغم أنه يرفض المبادئ، يظهر بمظهر إنسان مبدئي مدافع عن القيم والمبادئ. أو أنه يساير المبادئ ظاهرياً على أقل تقدير، ولكن من الواضح أنه لا يستطيع مواصلة الطريق. فيبدأ بالتذرّع وتوجيه الضربات الخفية. علماً بأن للنفاق أقسام وحدّ أدنى وأعلى ولابد من التعرض لذلك في محله، ولكن على أيّ حال فإن النفاق ظاهرة مشؤومة يبتلي بها كل مجتمع مبدئي بصورة طبيعية.

في المجتمع المبدئي المهدوي، كيف تُقتلع جذور النفاق؟

والإمام المهدي (عج) الذي سيؤسّس مجتمعاً مبدئياً دينياً على صعيد العالم، من الطبيعي أن يكون العارض الأول لهذا المجتمع هو النفاق. ومن جانب آخر فإن الإمام سيقوم باجتثاث النفاق في نفس هذه الحكومة الدينية، كما نقرأ في دعاء الندبة: «أَیْنَ هَادِمُ أَبْنِیَةِ الشِّرْكِ وَالنِّفَاق؟»[4]، ونقرأ أيضاً في ليالي شهر رمضان: «اَللّهُمَّ اِنَّا نَرْغَبُ إِلَیك في‏ دَوْلَةٍ کریمَةٍ تُعِزُّ بِهَا الْأِسْلامَ وَأَهْلَهُ وَتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وَأَهْلَهُ.»[5]
فإن كان نهج وسيرة أولياء الله في التعامل مع النفاق، هو عدم إفشاء سرّ المنافق وفضحه، ففي هذا الحالة كيف سيتم «اجتثاث» أساس النفاق؟ كيف يُذَلّ النفاق؟ كيف يمكن تحقيق هذه المسألة إلى جانب الحفاظ على كرامة الإنسان؟

صفات المؤمنين، سبب لعدم افتضاح المنافقين

بالإضافة إلى أنّ المؤمنين الحقيقيين في المجتمع الديني، يتحلّون بصفات يؤدي بعضها إلى خفاء وعدم اكتشاف ضروب من النفاق. وعلى سبيل المثال، إذا كان المؤمن لا يبحث عن مقام وجاه وشهرة وسمعة إلّا إذا اضطّر لتقبل المسؤولية أداءً للتكليف، سيقوى احتمال وقوع المناصب بيد الشخص الحريص. وإن كان المؤمن يغضّ الطرف عن أخطاء الآخرين أو حتى يتبنّى أخطاءهم، سيتوفّر احتمال تأخّر افتضاح أهل النفاق المحيطين به. وإذا كان المؤمن مخلصاً يعمل لوجه الله ولا يريد أن تُكتب باسمه إنجازاته الحسنة، فلربّما تُسجّل خدماته باسم غيره. وإن كان المؤمن حَيِيّاً ولا يتصيّد أخطاء الآخرين، فمن الواضح في ظلّ مكارم أخلاقه أن تُتاح الفرصة لظهور مكائد المنافقين.

يتبع إن شاء الله...

[1]. تعرض القرآن الکریم في سورة المنافقون والآية 49 - 74 من سورة التوبة، لبیان علامات المنافقين.
[2]. ﴿یَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَیْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فی‏ قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ.﴾ سورة التوبة، الآیة 64.
[3]. المیزان، ج9، ص325 - 349، في ذیل الآية 64 - 74 من التوبة. تعرض العلامة الطباطبائي في ذیل هذه الآيات إلى بحث تفسيري وروائي مبسوط. وفيما يلي نشير إلى ما استخلصه العلامة من هذه الآيات قائلاً: «فيتلخص من الآيات أن جماعة ممن خرج مع النبي (ص) تواطؤوا على أن يمكروا بالنبي (ص)، وأسروا عند ذلك فيما بينهم بكلمات كفروا بها بعد إسلامهم ثم هموا أن يفعلوا ما اتفقوا عليه بفتك أو نحوه فأبطل الله كيدهم وفضحهم وكشف عنه...»
[4]. مفاتیح الجنان، دعاء الندبة. وأيضاً إقبال الأعمال للسید بن طاووس، ص297.
[5]. مقطع من دعاء الافتتاح الوارد عن الإمام الكاظم (ع) الذي يُقرؤ في ليالي شهر رمضان المبارك، تهذیب الأحکام، ج3، ص110. وكذلك جزء من خطبة الجمعة الواردة عن الإمام الباقر (ع)، الکافي، ج3، ص424.