سحر الشعرظلّ سحر الشعر وقوّة جبروته مهيمناً على الذائقة العربية بمختلف مستوياتها حتى الآن، على الرغم من دخول أجناس جديدة حيّز التلقّي والتداول في الساحة الثقافية العربية على مرّ العصور، وانحسار دور الفنون عموماً إثر هيمنة وسائل الاتصال الحديثة التي جاءت بثقافة أخرى وضعت الاهتمام بالأدب في منطقة ضيّقة جداً، إذ انّ الشعر لا يتجلّى في حدود فعاليته الأجناسية الخاضعة للقراءة والتلقي حسب، بل هو يتدخل في صلب الحياة العربية ويصيغ جوهرها على نحو ما، ولذلك لا مناص من الرضا بهذه الهيمنة شبه المطلقة عن طيب خاطر واستسلام عاطفيّ ووجدانيّ مريح.
علاقة الشعر بالسحر والحجب والاختراق علاقة وثيقة وجدلية منذ أقدم العصور، وهي علاقة تتجاوز حدود الإيمان العلميّ والتصوّرات المنطقية للأشياء لتدخل في فضاء الإحساس والحدس والمعرفة الصوفية العرفانية بآفاقه المختلفة، وبقي الشعر بتجلياته المتنوعة يلهم هذه التصورات ويدعمها ويغذيها بمزيد من الرؤى والأحلام والأوهام والمعتقدات والموروثات والطقوس، من أجل توكيدٍ أعلى وتوثيق أشدّ لحميمية هذا التفاعل مع جوهر الشعر وبؤرته الباطنية العميقة وفضائه المخصّب بالغموض والتشظّي.
الجسد حلقة مهمة من حلقات التجلّي النصّيّ سواءً على صعيد الرؤية الفضائية للنصّ الشعريّ ذاته أم على صعيد احتكاك لغة الجسد في طبقات هذا الفضاء، بوصفه أداة تعبيرية عالية المستوى تتضمن تفعيل طاقات متعددة ومتنوعة، ظاهرة وباطنة، متجلية وخافية، تلتئم في سياق واحد لتشكّل طبيعة جسدية تنطوي على لفتة البروز والظهور والتبنين. فللشكل الطباعي الذي يتبنّاه الفنّ الشعريّ بحساسيته التجسيدية عموماً تمظهرات تتجسّد في منطقة القراءة البصرية ويجري تلقيها والتفاعل معها على هذا الأساس .
إنّ تمظهر الجسد في مشهد العاطفة وحركة الانفعال وتكشّف الدلالة، وتصدّره للمشهد الشعريّ بعد أن كان غائبا في الميراث الشعريّ العربيّ ومحشوراً في منطقة المسكوت عنه، يمثّل خطاباً متحركاً ومتموجاً ومشحوناً بالانفعال والحيوية والنشاط، ويفضي إلى إعادة تركيب اللغة الشعرية وتشغيلها ضمن سياقات الإعلان الصريح عن ظهور الجسد، بوصفه مُبصَراً كتابياً يعكسه السواد الكتابيّ في منطقة بياض الورقة، ودالاًّ سيميائياً يبزغ من خلل الدوال ليتجلّى صورياً ومشهدياً في فضاء الدلالة وقيم المعنى .
لم يكن إطلاق الجسد في الفضاء الشعريّ لغايات شكلية وإعلامية ودعائية تسويقية وتجارية، بل لكي يقول ويعبّر ويدين ويتحرر ويعلن ويشير وينطلق من كمونه الصنميّ ويمضي في إنجاز وظيفته التشكيلية والسيميائية الرمزية معاً، على النحو الذي يجعل من القول الشعريّ وسيلة لكسر ظلمة الحجب وفتح مغاليقه وفكّ شفراته وتحويله إلى تظاهرة.
لا يتحدّد الجسد في هذه المقاربة بمعناه الإيروسيّ (الرغبويّ) المجرّد فقط، بل بمعناه الإنسانيّ المكانيّ الشاسع التعبير والتدليل، الذي يتحرّك كشاهد على وجود روح موغل في الغياب وغير قابل لاستعادة مرئية، لأنّ حركة الجسد وفعاليته ونشاطه وطاقته على الابتكار والخلق والإبداع هي البديل، في السبيل إلى إعادة الاعتبار الإنسانيّ للجسد.
الشعر على وفق هذا المنظور الدائم التشابك والتداخل والتضافر والتعارض والتضاد والتناقض والتوازي والتقاطع، إنما هو آلة عجيبة لإنجاز المعجزات وخلق عالم بديل للعالم الواقعيّ الذي تهيمن عليه الأيديولوجيا، بكلّ ما تنطوي عليه من مصالح وسباق محموم للكسب والقهر والاضطهاد واختزال الحياة إلى رغيف، والنظر إلى الوردة بمقدار قابليتها للبيع وتحقيق مزيد من الأرباح والإيرادات ومضاعفة الحساب. الشعر هو البديل الضروريّ الذي لا يمكن تجاوزه أو نسيانه أو التغاضي عن خطورته في استمرارية الحياة وديمومتها مهما كانت الأسباب والمبررات، لكنه بديل موجز لا يصلح إلّا لفضاءات هذا الفنّ وجمهوره النخبويّ المحدود وعشاقه الأبديين الذين ليس لهم غيره. لذا فهو موجود في حيّز يبدو ضيّقاً جداً وهو ما يجعل الحياة تجري بمعزل عنه وفي غفلة منه، إلّا أنه مع كلّ ذلك يمثّل الحياة بأسرها ويختصرها في سواد لاهب يخترق الحُجُب على بياض صامت يقول الحقيقة.