الشباب .. والأسواق .. ولك عيني ياحباب!!
لمرات عديدة، حدث أمامي ما لم يكن مألوفا بالنسبة لي على اقل تقدير، فحملت ما حدث على محمل الفردية والجهل المرافق له، لكن الحالة تكررت في أكثر من سوق وأكثر من مكان، بين سوق الشرطة الرابعة، وسوق الكرادة داخل على امتداده الطويل جدا، وسوق الحرية ، وسوق الكاظمية المكتظ بالزبائن من الزائرين وغيرهم، تصوري لم يك في محله،لان الصورة التي رأيت خرجت عن فرديتها لتتحول الى ما يشبه الظاهرة أن لم تك ظاهرة فعلا، لهذا رحت أسعى خلفها متابعا أبطالها وهم من الشباب أينما وجدت لذلك سبيلا .
تقول مصادري، إن ظاهرة الحرشة والتحرش، واعتراض مسالك الفتيات والنساء معروفة لدى عموم الإنسانية بلدانها التي تدعي التحضر وتلك التي تخوض في غمار التخلف والتراجع والجوع والحروب، لانها طبيعة بشرية لا فكاك منها ولا خلاص، والتحرش يتوافر على مقومات بعضها يشعر السامع بالارتياح لأنه يعبر عن الإعجاب بالجمال أو بما سواه، ويمر مرورا عابرا يتلاشى عند الابتعاد تاركا بعض الآثار النفسية الطيبة في نفس السامع، وللمتحرشين كلمات تتجدد مع كل جيل، يعظها يمتزج بالكوميديا السوداء امتزاجا مرا، والأخر يشيع الفرح المبطن بالدس والإيحاء، لهذا لايمكن للصورة ان تثير الاستغراب، فكلنا أباء وأجداد وأحفاد، أدمنا التحرش، بكل ما أوتينا من جهد مع شيء من الانضباط الاجتماعي الذي تفرضه الحالة والظروف!!
شكد حلوة وحبابة!!
في الماضي، الذي المسه الان لمس المتذكر الحزين ، كان شارع النهر بالنسبة لنا أجمل الأمكنة للتحرش ونحن نمر باتجاه مقاصدنا، ثلة لا نشبه شباب اليوم بشيء، فنحن نتأبط كتبا ونتحدث عن الأدب والسينما والمسرح، في الوقت الذي لايتأبط شباب اليوم سوى جهاز النقال وسماعة الإذن التي يسمع من خلالها أغان الزمن الغريب،المهم أمامي مباشرة ، كان ثمة جمع من الغيد الحلوات وهن يتأبطن كتب الجامعة ويرتدين الزى الموحد، ودون سابقة مني، أعلنت إعجابي بإحداهن مرددا (يا غادة.. كوني على حذر... أو، لا فكوني.. من سبايانا) تعالت ضحكات الأوانس الخافتة، وما مر وقت حتى التفتت إحداهن ، لتكون المفاجأة الكبرى.. وساترك لكم التصور، ومن يومها غادرت شبابي ومباهج الحرشة الى جهات أكثر عذوبة وحب!!
شابات وحرشة الأغاني
بدأت رحلة الترقب والاستقصاء من بداية السوق حتى ساحة كهرمانة وهي مساحة طويلة أخذت مني وقتا، لكنها مسا فة عذبة وتثير الكثير من الأسئلة
أولا أحصيت عدد المتحرشين، ولمدة ثلاث ساعات بدأت في السادسة مساء وانتهت عند التاسعة، فكانت مايلي، 82 مجموعة من الشباب يتراوح عددهم بين خمس وثمان قاموا بالتحرش الغنائي !!
شابة واحدة، تجاوزت العشرين مع صويحباتها قامت بالتحرش بأحدهم فماكان منه إلا أن ابتسم ومرق سريعا!!
ثماني مجموعات اسمعوا سيدات تجاوزن الأربعين بعض من كلمات الغزل، لكني لم استطع تلقي ردود الأفعال بشكل واضح وجلي!!
بعض من الفتيات كن يبتسمن فقط وقد اعتدن سماع المتحرشين يوميا، لأنهن من مرتادات السوق، فيما كان البعض الأخر يغمغم معترضا دون أن يظهر اعتراضه!!
شابة واحدة، ردت بقسوة، وبالكلمات المعتادة والمألوفة منذ زمن طويل (لو أختك تقبل واحد يتحرش بيهه !!).
كيف يمكن استنطاق الجميع وجعلهم يعلنون ما في دواخلهم؟ كان هذا السؤال محيرا، ولكني ومع أول الخطوات وجدت الاستجابة وان كانت مترددة أو مستحية، أو خائفة أصلا!!
يقول (محمد عبد الرزاق) خريج كلية الآداب، يوميا وعند الساعة السادسة يكون موعدنا في السوق، ليس أمامنا من عمل فنحن ننام نهرا ونستيقظ ليلا وبعد الساعة الثامنة نرتاد الكازينو لندخن الاركيلة ونلعب دومينو وطاولة، أما التحرش فنحن لا نقوم به إلا بعد أن نجد استعدادا لدي الفتيات وكثيرا ما تؤدي الحرشة الى تبادل أرقام النقال والاتصال ليلا، ومثلما للشباب مجموعات تجوب السوق للبنات أيضا، ونحن نعرفهن بأسمائهن وان غابت إحداهن سألنا الأخريات عنها، والعكس يحدث أيضا ، العلاقات بريئة ولا تتجاوز حدود الأغاني وسماع كلمات لطيفة وحلوة، ولااجد في ذلك ما يعيب أو يمس بالأخلاق!!
ناطق فاضل، طالب في المرحلة الثالثة، قليلة هي الاماكن التي تقدم خدمات للشباب ، مثل تلك التي كانت أيام زمان، فقد غابت مراكز الشباب، لهذا التجأ الشباب الى السوق لأنه يشعرهم بالحياة، وبعد ساعة من التجوال أو أكثر لدينا مقهى خاصة نرتادها حتى الساعة الحادية عشرة ليعود كل الى بيته، ما الذي يفعله الشباب أمام هذه المعضلة ، منذ اشهر اتفقنا على تأسيس فرقة مسرحية، أحضرنا النص والمخرج ووزعنا لادوار، ولكننا ومنذ مدة نبحث عن مكان للتدريب دون أن نجد، أنا شخصيا اعترف لك إن التجوال في السوق مضيعة للوقت ولكن ليس أمامنا من حل، أمام إسماع الفتيات كلمات غزل فهذا ليس خاصا بجيلنا او لدى الشباب العراقي، فهناك شعوب أصبحت الحرشة ظاهرة مرضية على غاية من الخطورة ، اعتقد ان شبابنا لا يتجاوزون حدود الاداب المتعارف عليها، وان تحدث بعض الإشارات فهي للتلاطف ، وبالمناسبة البنات يتحارشن بالاولاد ولااحد احسن من احد!!
ناجي خالد... خريج كلية العلوم، اعتدت ارتياد السوق منذ صباي ، لهذا ما ان تدق الساعة السادسة حتى تراني مستعدا للخروج والا انهالت علي الاتصالات من كل مكان مجموعتنا صغيرة وكلها من الخريجين العاطلين عن العمل، لم نترك بابا الا وطرقناه دون جدوى ، ولن نجد امامنا سوى التجول في الاسواق والتعرف على هذا وذاك معظم اصحاب المحلات يعرفوننا ولكننا نلتزم حدود الاداب العامة بل ونساعد العوائل في بعض الحالات، قبل اكثر من اسبوع ، تعرض مول تجاري كبير الى تماس كهربائي، فتعالت النيران، فما كان منا الا ان نهب للمساعدة وإخماد الحريق بعد ان تأخرت سيارات الإطفاء، اما التحرش فنحن نرفضه رفضا تاما، ولا يجوز ابدا في مجموعتنا،!!
هن... والسوق .. والغزل !!
كلما حاولت إيقاف إحداهن للحديث معها، احمرت خجلا، وراحت تبتعد وهي تردد بصوت خافت (ما اكدر) لأكثر من مرة، تكرر السؤال، وأنصت لذات الإجابة، حتى تجرأت (سيناء مراد) وهي طالبة في الصف المنتهي من كلية العلوم، وأجابتني بعد أن أوقفت صويحباتها، وهن رهط من الحسان اللواتي لا تخطأهن العيون، ولايمكن ألا أن يثرن الدهشة فيسترق المرء النظر، فقالت، ارتياد الأسواق عصرا طبيعة بغدادية تقوم بها العوائل منذ زمن طويل وكنت اصطحب أمي وخالاتي الى شارع الأميرات في المنصور، دون أن يعارضنا احد آو يسمعنا كلاما خشنا، الحال اليوم تغير صار الشباب يرتادون الأسواق أكثر من النساء، ومرد هذا الى البطالة التي يعيشونها، فليس ثمة أمامهم غير المقاهي والأماكن المشبوهة والأسواق لتزجية الوقت، واللاسف صاحبت هذه الجولات بعض العادات غير المحببة، ومنها سماع أغان من الموبايل بصوت عال، وهي أغاني فيها كلام غريب، ولاينم عن ذوق، لا ادري ما الذي يعجبهم بهذه الأغاني الرديئة، هذا غير الكلمات التي تعلموها من الأفلام المصرية مثل (موزة.. حته.. حديقة..) وغيرها، والذي اعرفه الغزل او ما نسميه التحرش موجود في جميع البلدان ولدى الكبار والصغار على السواء!! (حين كانت سيناء تتحدث معي، وقف شاب لينصت، وبهدوء، قال ــ الكمر يحجي للجريدة وهنيالك عمي طكيت)!!
تقول السيدة سمر عبد الوهاب، مدرسة: ما يصيبني بالدهشة حقا، هو هذه الإعداد من الشباب الذين يرتادون السوق عرضا يطولا دون أن يفعلوا شيئا البتة، وأنا لا اعترض على تواجدهم فهذا أمر طبيعي ولكن الحال تطور الى حرشة وإطلاق ألفاظ غريبة على الكبيرة والصغيرة من النساء، والمرأة العراقية بطبيعتها لا تستطيع الرد خوف المشاكل آو ما لا يحمد عقباه ، لهذا ترى معظم النساء إذا ما سمعن كلام ما يسرعن المشي ولا يرددن أبدا، لان فكرة الرد قد تعني لدى الأخر القبول، وهذه كارثة، والذي ألاحظه إن الشباب يميلون للتحرش بنساء كبيرات السن، وهذه ظاهرة لا اعرف مردها و لماذا تحدث، هذا غير التحرش الجماعي من قبل الشباب، لابد من إيجاد حلول لهذه السلوكيات التي تسيء الى شبابنا وشاباتنا!!
مريام كوركيس، طالبة، قالت: انا شخصيا اقبل بسماع الكلام الجميل اذا كان صادر من شاب مهذب لايخدش السمع ولا يتجاوز حدود الاداب والسلوكيات العامة، ومثل هذا الغزل العفيف لااعتقده يؤذي، ولكن اسواقنا تعج بالعاطلين، وصارت اعدادهم داخل السوق اكثر من اعداد المتسوقات لهذا لم تعد العوائل تخرج الى التسوق الا بصحبة الاباء او الاوزاج او الاخوة، المضحك في الامر، ان جهاز الموبايل هو الذي يقوم بدور المتحارش، اذ يقترب الشاب من الشابة، ويفتح الجهاز على مقطع من اغنية كان قد اعدها سلفا لتكون اشارة، واعترف ان الكثير من العلاقات العاطفية تقام داخل الاسواق، وتتم المواعيد واللقاءات هنا، او في كا فتيريا قريبة، ولااعتقد ان هذه الامور كانت موجودة في حياة ابائنا بمثل هذا الشكل لان الاباء كانوا يعملون ولاوقت لديهم وان وجد غزل فهو بسيط ولا يتجاوز مقطع من نزار قباني او اغنية لعبد الحليم حافظ !!
الأسواق.. للتبضع لا لشيء اخر!!
الشيخ علي عبد الرسول، حسينية اهل الكساء، قال.. المس بأعراض الناس باي شكل من الاشكال من المحرمات شرعا، لان المحصنة لايجب المس باخلاقها، هذا غير ان ديننا الاسلامي يمنع التعرض للنساء او اسماعهن مالايليق بهن، لان هذا خارج عن الاخلاق، والاسلام دين الاخلاق اولا، ورسولنا الاكرم يقول انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق، ولكي لااقع في الموعظة وان كانت حسنة، لابد ان نناقش ظاهرة تواجد الشباب في الاسواق عصرا، لماذا غدت ظاهرة في السنوات الاخيرة، وهل ثمة من طرق لمعالجتها، اولاسباب التواجد، هي البطالة التي تجاوزت حدود المعقول مما يضطر الشباب الى الهروب من الحياة باتجاه ممارسات لايجد فيها عيبا، والثانية ، عدم قدرة الحكومة على توفير اماكن خاصة للشباب مثلما كان موجود في السبعينيات والثمانينيات حيث تعمل مراكز الشباب على احتضان القابليات وتطويرها وزجها في الميادين العملية، من هذه المراكو خرج الكثير من الفنانيين والادباء والرياضيين والعلماء ، والاسماء موجودة ومعروفة ، على وزارة الرياضة والشباب ان تجعل اعادة المراكز الى العمل من اولوياتها المهمة، لان شبابنا واللاسف الشديد في انحدار كما تشير الاحصائيات التي نسمع بها كل يوم!!.
الشيخ عبد القادر نعمان ، امام جامع الفاروق!!
لقد رصدنا مثل هذه الظاهرة منذ سنوات وتحدثنا عنها في خطب الجمعة، لان من العيب ارتياد الاسواق دون تبضع او عمل ما، ولكن الحالة في تزايد لان اعداد الشباب العاطل والذي لايجد امامه منفذا ترفيهيا غير السوق، في ازدياد بسبب البطالة المستشرية بينهم وهذه الظاهرة في جميع محافظات العراق، وتحتاج الى علاج لا بالمنع وزج الشرطة وسواهم في الاسواق كما نرى هذه الايام، بل بحملات توعية وايجاد حلول عملية سريعة، شبابنا في محنة عسيرة، ولانهم في محنة فستبقى البلاد في محنة ولن تنهض من كبوتها الااذا نهض الشباب وانهضها، فكروا بهذا الامر واياكم وترك الحبل على الغارب!!
الدكتور محمد اسماعيل حقي ــ اخصائي نفسي. قال.. انا لااتحدث عن ظواهر التحرش الموجودة في بلدان العالم بأشد ما هي عليه عندنا فهناك انواع قاتلة منها التحرش الجنسي، لان شبابنا محكومين بضوابط اجتماعية لايخرجون عنها، لهذا نجد ان تواجدهم في الاسواق لغرض التنزه وتزجية الوقت، وان حدثت انواع من الاعجاب والملاطفات فهي بسيطة ولا يمكن وكلنا يعرف ان البطالة وعدم وجود مصانع ومعامل تستوعب هؤلاء وتشعرهم بوجودهم الانساني هو السبب، شبابنا يشعر بالاحباط وخيبة الامل، بعضهم تجاوز متصف الثلاثين ولم يفكر بالزواج حتى بسبب ضيق اليد وضعف الحال، للتخلص من هذه المحنة علينا تخليص الشباب مما هم فيه!!
يا قارئ كتابي!!
جولتي لم تنته بعد لأني ما تعودت النظر الى الموضوع من زاوية واحدة، وليس همي توجيه النقد لشبابنا، ولكن لمعرفة الى اين تسير بنا قوافل الايام ، تلك هي المسألة ولكم مني رحيل آخر الى كرخ بغداد وأسواقها للوقوف على الخفايا والأسرار وأنا أغني (أياليت الشباب يعود يوما.. لك عيني لك حباب) وليسقط عبد الحليم حافظ!!