مقارنة بين التبرع بالدم والتطبير حزناً وجزعاً على أبي عبد الله الحسين (ع) -4-
بعد مناقشة مسألة الإهدار والإسراف ومسألة القيمة الحضارية واتضاح الأمر بشكلٍ جليّ فإني سأجري بين يديك عزيزي القارئ مقارنة سريعة بين التبرّع بالدم والتطبير حزناً وجزعاً على أبي الأحرار وسيد الشهداء صلوات الله عليه:

أ- من جهة أصل شرعيتهما فهما متساويان؛ إذ إنّ التطبير مصداق لإظهار الحزن والجزع على سيد شباب أهل الجنة عليه السلام. وكذلك فإنّ التبرّع بالدم مصداق لإعانة المحتاج وإغاثة المريض والجريح ومن هو بحاجةٍ إلى مساعدة. وكلا الأمرين ممّا أوصت بهما شريعتنا وأكّدت عليهما تعاليم أهل البيت (عليهم السلام). فيكون عندنا نقطة في كفّة كل واحد منهما.

ب - وأمّا من جهة فائدة الاثنين للناس فكلاهما مفيد في بابه إذ التطبير الحسيني مادي ومعنويّ المنفعة فالتبرع بالدم يؤخذ من الوريد والحجامة أو التطبير تؤخذ من الجلد ومن مواطن لا أوردة فيها كما يقول الطب ، والتبرّع بالدم ماديّ المنفعة. وبشهادة كلمات المعصومين (عليهم السلام) فإنّ المنفعة المعنوية مقدّمة على المنفعة المادية وعلى سبيل المثال ما جاء في الرواية المعتبرة الشريفة: (عن الفضيل بن يسار قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): قول الله عز وجل في كتابه: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) قال: من حرقٍ أو غرق. قلت: فمن أخرجها من ضلالٍ إلى هدى؟ قال: ذاك تأويلها الأعظم).

حيث عدّ إمامنا الباقر (عليه السلام) إنقاذ الآخرين من حريقٍ أو من غرق من مصاديق إحياء النفس لكن في جانبها المادي ومبيناً في نفس الوقت بأنّ إخراج الإنسان من ضلالٍ إلى هدىً من مصاديق إحياء النفس في جانبها المعنوي بأنّه أعلى درجةً من سابقه حيث قال (عليه السلام): (ذاك تأويلها الأعظم).

وهنا لابدّ أن أشير إلى مراتب إحياء النفس المعنوي بنحوٍ إجمالي:

أولاً- إخراجها من الضلال الكلي إلى الهدى الكلي، كإخراجها من الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى التوحيد.

ثانياً- إخراجها من ضلال جزئي إلى هدىً جزئي، كإخراجها من اعتقاد فاسدٍ في جانب من جوانب الدين والاعتقاد إلى ما هو الحق والصواب والهدى في ذلك الأمر. وربما يظهر من الرواية التي بين أيدينا أنها تشير إلى هذا المعنى وذلك أنها استعملت كلمتي الضلال والهدى في حال تنكيرٍ وتنوين إذ قالت: (من ضلالٍ إلى هدىً).

ثالثاً- إخراجها من الدرجة المفضولة في عالم الهدى إلى الدرجة الفاضلة ومنها إلى الدرجة الأفضل وهكذا. فذلك أيضاً هو مرتبة من مراتب إحياء النفس وذلك بالتسابق والمسارعة في وإلى أعلى الدرجات والرتب.

ولا شكّ فإنّ الازدياد في توثيق وتعميق الرابطة القلبية والمودة العاطفية والتصديق الوجداني والعقلي مع سيد الشهداء صلوات الله عليه هو داخل في النوع الثالث من أنواع إحياء النفس لأنّ ذلك يؤدي إلى الترقي في درجات الإيمان ومراتب القرب من الله سبحانه وتعالى. ولا ريب فإنّ لمواكب التطبير حزناً وجزعاً على أبي عبد الله (عليه السلام) تأثيراً في هذا الجانب، لا أقول على كلّ الناس بل على الذين يتذوّقون هذا الأسلوب وهذا النحو في التعامل والترابط الذي يتناسب مع مشاربهم النفسية والروحية في علاقتهم بإمامهم وسيدهم صلوات الله عليه، وللناس فيما يعشقون مذاهب. والنتيجة التي نخلص إليها أنّ التطبير الحسيني متفوّق على التبرع بالدم في هذا الجانب وبنحو واضح جداً. فهذه نقطة أكيدة في كفّة التطبير الحسيني.

ج- والأمر الثالث في هذه المقارنة يتفوّق التطبير حزناً وجزعاً على الحسين (عليه السلام) فيه أيضاً على التبرع بالدم وذلك بالنظر إلى القيمة الشرعية المرتبطة بالقضية الحسينية لكل منهما: فالتطبير يوم عاشوراء يحصل فيه:

بكاء + إبكاء + إظهار للحزن + إظهار للجزع + إحياء لذكر الحسين (عليه السلام) وثورته وتضحيته ومظلوميته.

بينما لا يمكن أن يصدق على التبرع بالدم في يوم عاشوراء سوى عنوان واحد هو إحياء ذكر الحسين (عليه السلام) وهذا لا يتحقق إلاّ بإشاعة هذا الأمر وتوجيه الناس إليه وإقبالهم عليه بهذا العنوان وهو التبرع بالدم في يوم عاشوراء لإحياء ذكر الحسين (عليه السلام) وتركيز معاني التضحية والفضيلة الحسينية. وإلا فإنّ حقيقة الأمر إلى هذا الوقت أن التبرع بالدم ليس محسوباً ولا معدوداً في جملة الشعائر الحسينية إذ لابدّ من السعي والعمل لمدةٍ مديدةٍ من الزمن كي يتفهم الناس بنحو يمسّ قلوبهم فلسفة هذا الأمر فيقبل عليه من يقبل متذوّقاً هذا النحو من التعبير لإحياء ذكر أبي عبد الله (عليه السلام) ويأباه من أباه أيضاً وذلك أنّ التبرع بالدم لا يتصوّر فيه البكاء والإبكاء حيث يخلو من الجانب العاطفي الجيّاش الذي يظهر في التطبير الحسيني في أعلى درجاته وأشدّ قوته ولا يتصوّر فيه أيضاً معنى إظهار الحزن وإظهار الجزع على الحسين (عليه السلام) إذ إنّ هيئة التبرع بالدم وكيفيته لا توحي بأي نحوٍ من الأنحاء إلى هذه المعاني ولا تشير إليها. ومن هنا فإنّ التطبير الحسيني:

أ- مشتمل على خمسٍ من القربات الحسينية والمستحبات الشرعية فيكون الإتيان به مشتملاً على درجةٍ أرقى من درجات الامتثال مما عليه في التبرع بالدم فهذه خمس نقاطٍ في كفّة التطبير الحسيني مقابل نقطة واحدة في كفّة التبرع بالدم:-

التطبير الحسيني: التبرع بالدم: التبرع بالدم:

بكاء إحياء للذكر إحياء للذكر

إبكاء

إظهار للحزن

إظهار للجزع

إحياء للذكر

ب - ما يترتب على ذلك من كثرة الثواب وعظيم الأجر لأجل التطبير حزناً وجزعاً على سيد الشهداء عليه أفضل الصلاة والسلام وذلك لكثرة ما فيه من أسباب موجبةٍ لعظيم الأجر وجزيل الثواب بالمقايسة مع التبرع بالدم. وهذه نقطة أخرى أيضاً تضاف إلى كفة التطبير الحسيني. فيتحقّق عندنا المجموع النهائي في ميزان المفاضلة: ثماني نقاط في كفة التطبير الحسيني مقابل نقطتين في كفة التبرع بالدم.

فأين هذا من هذا؟!

وبعد كلّ هذا أقول:

1- جميل أن تتشكّل مجاميع للتبرع بالدم يوم عاشوراء باسم الحسين (عليه السلام) لكن ليس بديلاً عن التطبير الحسيني. وإنما يتذوّق البعض هذا، وآخرون ذاك. فالبديل إمّا أن يكون أفضل أو مساوٍ على الأقل في ميزان المفاضلة وقد رأيت النتيجة قبل قليل بأمّ عينك. فلا وجه لطرح التبرع بالدم بديلاً عن التطبير الحسيني بأيّ نحوٍ من الأنحاء.

2- وجميل أيضاً أن يجمع روّاد مواكب التطبير الحسيني والمشاركون فيها بين التطبير في يوم عاشوراء والتبرع بالدم باسم الحسين (عليه السلام) في وقتٍ آخر من السنة كيوم ولادة سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه مثلاً؛ ليثبتوا للآخرين بأنّ عشاق الحسين (عليه السلام) كما تنزف رؤوسهم دماً يوم عاشوراء حزناً وجزعاً ولوعةً وأسفاً وتجديداً لعهد الإمامة المقدّس، فإنّ أبدانهم وقلوبهم تجود بدمائها حباً ورحمةً وشوقاً وعشقاً وولهاً وهياماً ومودةً لكل معاني الكرامة والسخاء في سبيل الحسين (عليه السلام) وبثّ معنى الحياة في كل صورها ومصاديقها من إشفاء مريض وإنقاذ عليلٍ إلى إغاثة ملهوف وإعانة محتاج إلى غير ذلك من المعاني الإنسانية السامية.

3- وجميل جدّاً أن تؤسّس مراكز باسم الحسين (عليه السلام) لجمع الدم من المتبرعين من محبي سيد الشهداء صلوات الله عليه طيلة أيام السنة وتقدّم ذلك إعانةً للمرضى والمحتاجين لدمٍ يبعث الحياة فيهم من جديد باسم الحسين صلوات الله وسلامه عليه. كي نبرهن للجميع بأنّ دماء الحسين الزاكية صلوات الله عليه التي روّت شجرة الإسلام بعد أن يبس عودها، فعاد مخضرّاً وأورفت ظلالها، وأينعت ثمارها؛ لهي قادرة وإلى الأبد على أن تبعث الحياة المعنوية والمادية في أبناء المجتمع الإنساني.

فـــداء لمثواك من مضجع تـــــنوّر بـــــالأبلج الأروع
بـأعبق من نفحات الجنان روحـاً ومن مسكها أضوع
ومخلص القول أنّ التبرع بالدم مع اشتراط نية القربة فيه عمل حسن يثاب عليه فاعله على طول أيام السنة لكنه لا يمكن أن يرقى إلى فضيلة التطبير حزناً وجزعاً على أبي عبد الله (عليه السلام) في يوم عاشوراء ولا يمكن أن يكون بديلاً عنه بأي وجهٍ من الوجوه إذا وزنّا الأمور بميزان العدل والمنطق السليم. وقد بيّنت لك تفصيل الأمر فيما مضى من السطور.

* مشروعية التطبير:

الآن وبعد أن عرفنا الفرق بين التطبير أو الحجامة والتبرع بالدم أو الفصد نأتي نستخلص مشروعية التطبير وضرب الرؤوس (التطبير) في يوم العاشر من المحرم وماذا عن الضرر الناتج من جراء الضرب بما ذكره سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي وهو أن { مما لا شك فيه أن التطبير عمل مستحب، وقد قامت الأدلة الشرعية المتضافرة عليه، وأفتى بذلك علماؤنا قديماً وحديثاً، لما فيه من مواساة لجراحات سيد الشهداء(عليه السلام) وأصحابه وأهل بيته، وفي ذلك تربية على بذل الغالي في سبيل الدين والعقيدة، مضافاً إلى ما فيه من تعظيم الشعائر التي قال عنها سبحانه:(ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)... كما فيه أيضاً إظهار للمودة والمحبة لأهل البيت(عليهم السلام)التي هي من الواجبات الشرعية باتفاق المسلمين قال سبحانه:(قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) ولا شك أن التطبير ونحوه من الشعائر الحسينية فيه إظهار للمودة والمحبة والتعاطف مع مواقف أهل البيت(عليهم السلام)وصمودهم ودفاعهم عن الدين والمبادئ الإسلامية، بل قد ورد في الأدلة المتضافرة حثهم عليهم السلام على إقامة الشعائر وإحياء أمرهم، حيث قال(عليه السلام):(أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا)، مضافاً إلى ما ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام)من قوله:(إن يوم الحسين أقرح جفوننا) وقرح الجفن أشد من التطبير بلحاظ حساسية العين البالغة، كما ورد عن مولانا صاحب الأمر(سلام الله عليه)(لأبكين عليك بدل الدموع دماً... حتى أموت بلوعة المصاب وغصة الاكتياب) وواضح أن البكاء دماً بل والموت من أثر المصيبة أشد وأعظم من التطبير، ثم إن في التطبير ونحوه إحياءً لأمرهم وتذكيراً بهم وترويجاً لمبادئهم وسيرتهم.

ومن فوائد التطبير في صحة الإنسان أنه يكون في موضع الحجامة من الرأس و هي من سنن الرسول(صلى الله عليه وآله) وقد تواترت روايات الفريقين في الحث على ذلك وان الرسول(صلى الله عليه وآله)كان يفعل ذلك في كل عام وكان يسميها المنقذة، وقد ورد في صحيح البخاري وغيره من كتبهم عدة روايات تدل على أن الرسول(صلى الله عليه وآله) شق رأسه، وعليه فلو طبر الحسينيون بقصد الحجامة أيضاً تأسياً برسول الله(صلى الله عليه وآله) حصلوا في ذلك على ثواب مضاعف، والذي يتبع سيرتهم (عليهم الصلاة والسلام) يجد من ذلك الكثير.

ثم إن السيرة المتبعة منذ القديم من قبل المؤمنين هي مواساة سيد الشهداء(عليه السلام) بمختلف المراسم العزائية وكان منها التطبير وكل ذلك كان بمرأى ومسمع من أعاظم فقهاء الطائفة بل أن بعضهم رضوان الله عليهم كان يفتي بوجوبه ويقوم هو بهذه الشعيرة العزائية ولم يحدثنا التاريخ أو السيرة أنه كان سبباً للاختلاف أو الفرقة أو ما أشبه والقول بالعدم أو الحرمة هو الذي قد يسبب الفرقة والاختلاف.

وأما ما يقال من استلزامه الضرر وهو حرام فهو أول الكلام من ناحية أصل الضرر بل انه نوع حجامة والحجامة لها فوائد جمة مضافاً إلى الفوائد المعنوية في ذلك، وقد اتفقت كلمة الفقهاء على حرمة أصناف ثلاثة من ضرر النفس فقط هي:

- قتل النفس.

- قطع أعضاء البدن.

- إسقاط قوة من القوى كالإعماء أو الإطراش ونحوها.

وأما غيرها فلا دليل على الحرمة، بل قامت الحياة الاجتماعية على ارتكاب جملة من الأعمال اليومية المشتملة على بعض الأضرار بلا مانع عقلي أو شرعي أو عقلائي كالألعاب الرياضية والتدخين ونحوها وحتى السفر بالطائرات وغيرها مما يوجب تلف النفس أحياناً فهل يحكم بحرمتها لأنها تستلزم الضرر ولو أحياناً؟!