كان بهاء الدين قراقوش الأسدي قائدا عظيما من قواد الناصر صلاح الدين الأيوبي المقربين، و"قرة قوش" لفظ تركي معناه النسر الأسود وقد أطلق على بهاء الدين ربما بسبب مهنته كقائد ومقاتل أو بسبب كثرة ارتدائه للزي الأسود، ويقال أن صلاح الدين هو الذي لقبه بهذا اللقب.
بعدما استطاع صلاح الدين الأيوبي إسقاط الدولة الفاطمية أراد أن يحمي كنوز الفاطميين من السرقة فلم يجد أكفأ من قراقوش ليحمي خزائن وما بها من كنوز، كما تروي جيهان مأمون في كتابها "همسات مصرية.. جولة عبر الماضي"، وقام قراقوش بمهمته على خير وجه، كما قام بمشروعات حربية عظيمة فهو الذي بنى قلعة الجبل وزاد من مساحة أسوار القاهرة وشيد قناطر الجيزة وسور مجرى العيون، أما أصعب المهام فهي حفر بئر حلزونية في الصخر في قلعة الجبل تسمى "بئر يوسف" تحتوي على ثلاثمائة درجة ويصل عمقها إلى 90 مترا.
شوهوا صورته
عندما وقع قراقوش في الأسر في حصار عكا افتداه صلاح الدين بعشرة آلاف دينار، وبعد رحيل الناصر صلاح الدين، حافظ قراقوش على عرش أبنائه العزيز والمنصور باقتدار.. وبرغم هذا ترتبط شخصية قراقوش في مخيلتنا بالحاكم الظالم..!
يروى أن قراقوش استخدم 50 ألف أسيرا والكثير من العوام لتشييد قلعة الجبل، وكان رجلا صارما، فنقم عليه الناس لشدته من أجل إنجاز العمل في وقت قصير، واستغل الكاتب الأسعد أبو المكارم ابن مماتي عداوته لقراقوش وشوه صورته بسبب المنافسة بينهما على الاستئثار بالنفوذ في دولة صلاح الدين.
حول ابن مماتي إنجازات قراقوش إلى قصص هزلية في كتابه "الفاشوش في حكم قراقوش" وسهل على الناس حفظها وتناقلتها الألسنة.. يحتوي الكتاب على 28 نادرة، ظل الناس يتداولونها على مر ثمانية قرون ويتلوها القصاصون على رواد المقاهي.
وكتب ابن مماتي هذه المقدمة في كتابه "لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش مخرمة فاشوش، قد أتلف الأمة، والله يكشف عنهم كل غمة، لا يقتدي بعالم، ولا يعرف المظلوم من الظالم، والشكية عنده لمن سبق، لا يهتدي لمن صدق، ولا يقدر أحد من عظم منزلته، أن يرد على كلمته ويشتط اشتطاط الشيطان، ويحكم حكما ما أنزل الله به من سلطان. صنفت هذا الكتاب لصلاح الدين، عسى أن يريح منه المسلمين".
وهذه بعض النوادر التي يرويها الكتاب:
- يروى أن قراقوش نشر قميصه فوقع من فوق الحبل، فلما بلغه ذلك تصدق بألف درهم وقال لو كنت لابسا هذا القميص وقت وقوعه لانكسرت.
- قيل أن قراقوش سابق رجلا بفرس له فسبقه الرجل بفرسه، فحلف قراقوش أنه لا يعلف فرسه ثلاثة أيام فقال له السابق: "يا مولاي أخشى أن يموت الفرس" فقال له قراقوش: "أحلف لي أنك إذا علفته يا هذا لا تعلمه أنني دريت بهذا" فحلف له الرجل وأعطى العلف للفرس.
- جاء الفلاح يشكو جنديا إلى الأمير قراقوش ، كان الفلاح يركب سفينة ومعه زوجته الحامل فوكزها الجندي فأجهضها ، وتفكر قراقوش ثم نطق بالحكم ، حكم بأن يأخذ الجندي زوجة الفلاح عنده وكما أجهضها عليه أن يحبلها، وهرب الفلاح بزوجته قائلا : أجري على الله .... !!
- وشكا رجل إلى قراقوش تاجرا أكل عليه أمواله ، فاستدعى قراقوش التاجر وسأله عن السبب فقال التاجر : ماذا أفعل له أيها الأمير ؟ كلما وفرت له الأموال لأسدد له دينه بحثت عنه فلم أجده ، وتفكر قراقوش كعادته ثم حكم بأن يسجن الرجل صاحب الدين حتى يعرف المدين مكانه حين يريد تسديد الدين له ، وهرب الرجل قائلا : أجري على الله .. !!
- وقالوا لقراقوش أن طائر " الباز " المفضل لديه قد هرب من القفص وطار ، فأمر قراقوش بغلق كل أبواب القاهرة حتى لا يستطيع الفرار ...!!
- وكان هناك ولد عاق ركبته الديون بسبب تبذيره ومجونه وعاقبه والده العجوز فمنع عنه الأموال ، وانتظر الابن ومعه أصحاب الأموال أن يموت الأب دون جدوى ، فقرروا أن يدفنوه حيا ، واحضروا الأب العجوز عنوة تحت إشراف الابن العاق ، وغسلوه وكفنوه وهو يستغيث بلا فائدة ، ثم وضعوه في النعش وساروا به. وتصادف أن قابلهم قراقوش وقفز الرجل من النعش وقال : الحمد لله . سأجد من ينقذني ، واستغاث بقراقوش من ابنه وأولئك الذين يريدون دفنه حيا ، وسأل قراقوش الابن والناس فاقسموا أنه كان ميتا حين غسلوه وكفنوه . وتفكر قراقوش كعادته ، ثم قال للرجل العجوز : هل تريدني أن أصدقك أنت، وأكذّب كل أولئك الناس ؟ ثم إنني إذا أخذت بكلامك سيثور علينا كل الموتى ويطلبون العودة للحياة مثلك ، ثم قال للناس : اذهبوا به إلى المقبرة .
- جاءت الشرطة لقراقوش بأحد غلمانه متهما بالقتل قال قراقوش اشنقوه، فقيل له: إنه حدادك الذي ينعل لك الفرس، فنظر أمام بابه فرأى رجل قفاصات يصنع الأقفاص فقال: اشنقوا القفاص واتركوا الحداد.
- مر متسول يطلب طعاماً فأجابه قراقوش: لقد مزقت نياط قلبي بشكواك ولا أجد سوى السجن مقاماً لك تأكل، حتى إذا شبعت أفرج عنك.
- سأل قراقوش بائع حليب غشاش: كيف تخلط الحليب في الماء؟ فأجاب البائع: أنا أغسله فقط. فقال قراقوش: أنت رجل تحب النظافة، ولا لوم عليك، ويوضع من أبلغ عنك في السجن.
- طلب قراقوش من أحد القضاة أن يهيئ له حساب القمح والشعير والفول والحمص، ووضع القاضي الحساب فى صحيفة واحدة، فاختلط الأمر على قراقوش وظن أن القاضي خلط الأصناف ببعضها، وأمر بحبسه. لكن القاضي تنبه إلى أن الأمر التبس على ذكاء قراقوش، فأرسل إليه من الحبس بحساب كل صنف في صحيفة واحدة، عندها سر قراقوش وعفا عنه قائلا "لقد تعبت يا فقيه.. نقيت هذا من هذا وذا من ذا، زفوه في المدينة".
- يحكى أنه سرقت عملة في زمن قراقوش فقال لصاحب العملة:
الحارة بتاعتكم لها باب؟
فقالوا له : نعم.
فقال: اذهبوا وائتوني به.
أحضروا له الباب، فقال: مدوه.
فقالوا: يا مولانا هذا خشب لا يعقل.
فقال لهم: افعلوا ما آمركم به.
فمدوه وضربوه ونزل إليه قراقوش ووضع أذنه بجانبه وجعل يوشوشه فلما فرغ قال لهم: اجمعوا لي باقي أهل الحارة والدرب.
فلما حضروا قال لهم: الباب يخبرني أن الذي سرق العملة على رأسه ريشة.
وكان السارق واقفا فتوهم ورفع يده إلى رأسه فرآه قراقوش فأمر بضربه حتى اعترف وأحضر العملة ودفعها إلى أصحابها.