بالصور قصة أعياد وافراح الشام بمصائب أهل البيت عليهم السلام
بلاد الشام
الشام اسم يشمل عامة الأقاليم الداخلة اليوم في سورية ولبنان وفلسطين،
وكانت الشام من أول الأقطار التي فكّر الرسول صلى الله عليه واله في أمرها لنشر كلمة التوحيد وبثّ الدعوة إلى الإسلام،
وقد جهّز الرسول العديد من السرايا والغزوات لهذا الغرض، وفي أواخر أيامه جهزّ جيشاً أمّر عليه أسامة بن زيد، وقال: "لعن الله من تخلف عن جيش أسامة"..
وما كان هدف الرسول صلى الله عليه وآله توسيع رقعة حكمه جغرافياً،
بل كان ذلك أمراً عرضياً تابعاً لبسط كلمة التوحيد والتفاف الناس حول راية الإسلام، وهداية الناس إلى الله تبارك وتعالى،
ولكن الأمور تغيرت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه واله، وانقلبت الموازين، وغرّت الدنيا كثيراً من الناس،
وأصبحت الغنيمة والحصول على المناصب الدنيوية وبسط السلطة والنفوذ من أهم الدواعي لفتوح البلدان.
وبعد أن فتحها المسلمون استعمل عليها عمر يزيد بن أبي سفيان،
ومن بعده أخاه معاوية بن أبي سفيان، وفي سنة 41 بايعه أهل الشامبالخلافة،
فهو مؤسس الدولة الأموية التي جعلت من دمشق قاعدة الحواضر الإسلامية،
وظلت كذلك حتى سنة 132 هجرية، وقد ورّث معاوية ابنه يزيد الخلافة سنة 60 للهجرة.
الركب الحسيني إلى الشام
لما وصل كتاب ابن زياد إلى يزيد بن معاوية ووقف عليه،
أعاد الجواب إليه يأمره فيه بحمل رأس الحسين ورؤوس من استشهد معه وبحمل أثقاله ونسائه وعياله.
فلمّا فرغ القوم من التطواف بالرأس الشريف في الكوفة ردوه الى القصر فدفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس ودفع إليه رؤوس أصحابه وسرّحه إلى يزيد بن معاوية،
وأنفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي وطارق بن أبي ظبيان مع جماعة من أهل الكوفة، حتى وردوا بها على يزيد.
وقد ساقوا الأسارى من أهل البيت عليهم السلام من النساء والأطفال راكبين أقتاباً يابسة،
وحولهم الجنود بالرماح، إن دمعت عين أحدهم قُرعَ رأسه بالرمح،
وساقوا بهم من منزل الى منزل كما تساق أسارى الترك والديلم،
وكان على رأسهم سيد العابدين علي بن الحسين عليهم السلام وقد جًعل الغلّ في عنقه ويده، يحمله ب*** يظلع بغير وطاء.
وروي عن السيدة زينب عليها السلام أنها قالت:
"قد علم الله ما صار إلينا، قتل خيرنا، وانسقنا كما تساق الأنعام، وحُملنا على الأقتاب".
وسار القوم برأس الإمام الحسين عليه السلام والأسارى
فلمّا قربوا من دمشق، دنت السيدة أم كلثوم من الشمر، فقالت: "لي إليك حاجة؟".
فقال: "وما حاجتك؟" .
قالت عليها السلام: "إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظارة، وتقدم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحّونا عنها، فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال". فأمر لعنه الله في جواب سؤالها أن تُجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل،
وسلك بهم بين النظارة على تلك الصفة، حتى أتى بهم إلى باب دمشق،
فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السبي.
وكان دخول الركب الحسيني إلى دمشق نهاراً وأهلها قد علّقوا الستور والحجب والديباج،
فرحين مستبشرين، ونساؤهم يلعبن بالدفوف، ويضربن على الطبول، كأنه العيد الأكبر عندهم.
وروي عن سهل بن سعد الساعدي الصحابي أنه قال: "خرجت إلى بيت المقدس حتى توسطت الشام فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار قد علقوا الستور والحجب والديباج وهم فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول،
فقلتُ في نفسي: لعل لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن. فرأيت قوماً يتحدثون، فقلت: يا هؤلاء ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟ قالوا: يا شيخ نراك غريباً! فقلتُ: أنا سهل بن سعد قد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وحملتُ حديثه،
فقالوا: يا سهل ما أعجبكَ السماء لا تمطر دماً والأرض لا تخسف بأهلها.
قلتُ: ولمَ ذلك؟ فقالوا: هذا رأس الحسين عترة رسول الله صلى الله عليه وآله يهدى من أرض العراق إلى الشام وسيأتي الان.
قلت: وا عجباه! يهدى رأس الحسين والناس يفرحون؟!".
الإمام زين العابدين عليه السلام مع الشيخ الشامي
بعد أن أقيم السبي على درج باب المسجد، إذا بشيخ قد أقبل حتّى دنا منهم،
وقال: "الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم، وأراح الرجال من سطوتكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم!".
قال له الإمام زين العابدين عليه السلام: "يا شيخ هل قرأت القران؟".
فقال: "نعم قرأته".
قال عليه السلام: "فعرفت هذه الاية: ﴿قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القُربى﴾ 1 ؟".
قال الشيخ: "قرأت ذلك..".
فقال عليه السلام: "فنحن القربى يا شيخ!
فهل قرأت في "بني إسرائيل" ﴿وآتِ ذا القربى حقه ﴾2 ؟".
فقال الشيخ: "قد قرأت ذلك..".
قال عليه السلام: "نحن القربى يا شيخ!
ولكن هل قرأت هذه الاية: ﴿واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى 3 ؟ فنحن ذو القربى يا شيخ،
ولكن هل قرأت هذه الاية: ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا 4﴾ ؟".
فقال الشيخ: "قد قرأت ذلك".
فقال عليه السلام: "فنحن أهل البيت الذين خُصِصنا باية الطهارة..".
فبكى الشيخ ورمى عمامته، ثم رفع رأسه إلى السماء،
وقال: "اللهم إني أبرأ إليك من عدو آل محمد صلى الله عليه واله، من الجن والانس، ثم قال: هل لي من توبة؟".
فقال عليه السلام: "نعم، إن تبت تاب الله عليك وأنت معنا..".
فقال: "أنا تائب..".
فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ فأمر بقتله.
ونستنتج من هذا الخبر عدة أمور:
1- إن هذا أول موقف تكلم به الإمام زين العابدين عليه السلام بعد تحمّله شدة السفر،
لأن الرواية تقول: إن الإمام عليه السلام بقي طول طريق السفر بين الكوفة والشام ساكتاً لا يكلم أحداً.
2- يقوم الإمام بأداء الرسالة في أول فرصة وأول نقطة يجد بها الطينة الطيبة،
فمع أن ذاك الشيخ الشامي لم يكن إلا رجلاً عاش في حكم الأمويين،
ولم يرَ الإمام علياً عليه السلام ولا أحداً من أبنائه،
ولكن فطرته سليمة،
بينما الذين قاموا بقتل الإمام الحسين عليه السلام وسبي أهل بيته
فقد كان كثير منهم ممن رأى علياً والحسن والحسين عليهم السلام وصلى خلفهم!
3- سيطرة الجو الإعلامي المسموم على المجتمع،
فلقد أذاعوا أن المقتول هو رجل خارجي خرج على "أمير المؤمنين"،
وكان يريد بث الفتنة والفرقة في المجتمع،
لذا نرى أن الرجل الشامي بادر بالتعبير عن حمده لله على قتل الخارجي وإهلاك أهله.
رأس الإمام الحسين عليه السلام وبقية الركب الحسيني بين يدي يزيد بن معاوية
لقد غمرت الأفراح والمسرات يزيد، وأمر بترتيب مجلس حاشد بالأشراف والأعيان والشخصيات من أهل الشام وممثلي بعض الدول والأديان انذاك مثل رأس الجالوت،
فكان مجلساً في غاية الأهمية سياسياً واجتماعياً، داخلياً وخارجياً، وقد أراد أن يظهر نفسه بأنه انتصر على عدوه.
فلما أُدخل عليه موكب الأسارى من أهل البيت عليهم السلام، هنأه القوم بالفتح.
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال:
" قُدِم بنا على يزيد بن معاوية لعنه الله بعدما قتل الحسين ونحن اثنا عشر غلاماً ليس منا أحد إلا مجموعة يداه إلى عنقه وفينا علي بن الحسين عليه السلام..".
وأدخل رأس الإمام الحسين عليه السلام على يزيد ووضع بين يديه، فاستبشر الشقي بقتله، وجعل ينكتُ رأسه بالخيزران.
وأقبل قاتل الإمام الحسين عليه السلام على يزيد يقول:
أوقر ركابي فضة وذهبا
فقد قتلت الملك المحجبا
قتلتُ خير الناس أماً وأباً
وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فقال له اللعين: "إذا علمتَ أنه خير الناس فلمَ قتلته؟".
فأجابه: "رجوت الجائزة!".
فأجابه يزيد: "اخرج من بين يديّ فلا جائزة لك".
وقد كان هذا المجلس العام الوحيد الذي جمع فيه يزيد الأشراف،
ذلك أن المجالس الخاصة التي كان يحضر فيه رأس الإمام الحسين عليه السلام وأهل البيت تكرّرت،
فكان يزيد يتخذ مجالس الشرب واللهو والقيان والطرب، ويحضر رأس الإمام الحسين عليه السلام بين يديه.
يزيد ينكث ثنايا الإمام الحسين عليه السلام
وضع يزيد رأس الإمام الحسين عليه السلام بين يديه وأجلس النساء خلفه لئلا ينظرن إليه،
وكانت ابنتا الإمام تتطاولان لتنظرا إلى الرأس وجعل يزيد يتطاول ليستره عنهما،
وهو ينكت ثناياه بقضيبٍ في بيديه متمثلاً ببيت شعر للحصين بن الحمام المري:
نفلق هاماً من رجال أعزة
علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما
ثم قال: "ما رأيتُ وجهاً قط أحسن منه!".
فقيل له: "إنه كان يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله".
فسكت، ولم يبقَ أحد في مجلسه إلا عابه وتركه، وكان عنده أبو برزة الأسلمي، وهو صحابي من سكان المدينة ثم البصرة،
فقال له: "ويحك يا يزيد، أتنكت بقضيبك ثغر الحسين عليه السلام ابن فاطمة عليها السلام؟!
اشهد، لقد رأيت النبي صلى الله عليه واله يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن عليه السلام ويقول: أنتما سيدا شباب أهل الجنة، قتل الله قاتلكما ولعنه، وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً".
فغضب يزيد وأمر بإخراجه من المجلس فأُخرج سحباً.
وكان موقف هذا الصحابي في أهم زمان وأخطر مكان، ولأجل ذلك لم يتحمل يزيد هذا الموقف.
ثم إن عبد الرحمن بن الحكم أخا مروان بن الحكم، كان ممن حضر المجلس العام،
فلمّا رأى ما فعل يزيد برأس الإمام الحسين عليه السلام وتمثله بالأبيات قال:
سمية 5 أمسى نسلها عدد الحصى
وبنت رسول الله ليس لها نسل
فعندئذٍ، وخشية انقلاب الأمور ضده، بادر يزيد إلى القول:
" نعم، فلعن الله ابن مرجانة، إذ أقدم على قتل الحسين بن فاطمة،
لو كنت صاحبه لما سألني خصلة إلا أعطيته إياها ولدفعت عنه الحتف بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي،
ولكن قضى الله أمراً فلم يكن له مرد".
ثم إنه قال لعبد الرحمن: "سبحان الله! أما يسعك السكوت يا ابن الحمقاء! ما لك ولهذا؟!".
وقد أظهر يزيد في بعض كلماته ندمه كذباً ونفاقاً، ملقياً بمسؤولية قتل الإمام الحسين عليه السلام على عاتق ابن زياد،
وكان ذلك الندم يرجع إلى كذبه وخوفه على زوال ملكه وتمشياً مع الوضع العام واستنكار الناس لذلك،
والدليل على كذب يزيد أنه لم يعاقب عبيد الله بن زياد، ولم يعزله عن الإمارة، بل شكره واستدعاه وشرب معه الخمر وأعطاه جائزة كبيرة.
يزيد والتضليل المكشوف
تبدلت لهجة يزيد أثناء وجود الموكب النبوي في الشام،
فبعد أن كان يظهر الفرح بقتل الإمام الحسين عليه السلام،
اضطر أمام شدة النكير المكتوم والذي تم التعبير عنه غالباً بتعابير ضعيفة.
وفي سياق إظهاره الفرح قال في مجلسه: :"أتدرون من أين دهي أبو عبد الله؟".
فقالوا: "لا، فأجابهم: من الفقه والتأويل! هذا يفخر علي".
ويقول: "أبي خير من أبي يزيد، وأمي خير من أمه، وجدي خير من جد يزيد، وأنا خير من يزيد"،
فهذا الذي قتله! فأما قوله "إن أبي خير من أبي يزيد" فقد حاج أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه!
وأما قوله "إن أمي خير من أم يزيد" فلعمري إنه صادق، إن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه واله خير من أمي،
وأما قوله "إن جدي خير من جد يزيد" فليس أحد يؤمن بالله واليوم الاخر يقول إنه خير من محمد صلى الله عليه واله،
وأما قوله "أنا" خير مني فلعمري لم يقرأ هذه الاية: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْك﴾6 .
لقد التجأ يزيد إلى هذا الموقف ليوهم الأمة بأنه وإن قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه واله إلا أنه لم يخرج من الإسلام،
خاتماً كلامه بذكر مشيئة الله وقضائه وقدره ليعطي لجريمته النكراء بعداً دينياً!
من خلال تثبيت مسلك الجبرالذي تشبث به الطواغيت ليُسكتوا به أصوات مخالفيهم والسذج من الناس.
يتبع