يُعد موقف الشهداء الحسينيين شارة في التحولات المهمة لبناء الشخصية النموذجية الكاملة ، ويُستقرأ في المواقف المتعددة التي امتاز بها اصحاب الحسين عليه السلام حالات إنسانية متكاملة يجب التوقف عندها ملياً ، فالتشكيلة التي ضمتها هذه الباقة من الشهداء توقفنا على أكثر من حالة نستشعر من خلالها أن هذه القضية لا يمكن أن تماثلها حالة في وجدانياتها وما صاحبها من مواقف الايثار والوفاء والعشق لقائدها ولقضيتها ، فمن هذه الحالات:
أولاً:حالة التجـرد التام عن كل شيء يشغلها عن قضيتها الاساس حيث لم يراع هؤلاء أية مسألة أخرى سوى قضيتهم فالساعات القليلة للمعركة شهدت تحولاً ملحوظاً على الصعيد الإنساني ، اذ أثبت أصحاب الحسين عليه السلام امكانية تجرد الإنسان تماماً عن كل شيء والذوبان في قضيته وهدفه فوجدوا في التضحية غايتهم واستشعروا في الموت أمنيتهم ، فهذان سعيد بن عبد الله الحنفي وعمر بن قرظة الانصاري يجعلان من أنفسهما درعاً يقيان الحسين عليه السلام عند صلاته فيقفان أمامه ولما يثخنان بالجراح يسقطان وهما يقولان أوفينا يابن رسول الله؟ فيقول الإمام: نعم.
ولعل ذلك سيبرز أكثر وضوحاً في صورتي واضح وأسلم حينما يُصرع واضح يأتيه الحسين عليه السلام فيعتنقه فيقول: من مثلي وأبن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واضع خده على خدي ، وحينما يعتنق الحسين عليه السلام أسلم مولاه يبتسم مفتخراً ويموت بين يدي الإمام وهاتان الصورتان تعطيان مثالاً رائعاً في التضحية والفداء فأسلم وواضح يفديان أنفسهما للحسين عليه السلام ومع هذا فان مجرد معانقة الحسين عليه السلام لهما يعدانها مفخرة عظيمة ومكسباً كبيراً.
ثانياً: حالة وضوح الهدف التي امتاز بها أصحاب الحسين عليه السلام فهم انما ثبتوا مع الحسين عليه السلام كانوا على بصيرة من أمرهم فلم يهولهم كثرة من قابلهم من العسكر، ولم يوهنهم قلة عددهم، وأنهم عرفوا حق موقفهم وهدى قائدهم ورشد قضيتهم ، لذا فانهم اتصفوا بحالة التسليم الكامل لأمر الحسين عليه السلام دون أن يصدر عن أحدهم أدنى اعتراض بل دون أن يقدموا أي إقتراح انما كانوا مسلّمين لأمرهم منقادين لطاعة سيدهم ، فحينما خطب فيهم الحسين عليه السلام بقوله: (أما بعد فقد نزل بنا من لأمر ما قد ترون وأن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها .. إلى أن قال: فأني لا أرى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين الا برما) لم يعترض عليه أحد من أصحابه بل أظهروا له التسليم والاستماتة دونه على بصيرة من الأمر، فيقول له زهير بن القين (سمعنا يا أبن رسول الله مقالتك ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها خالدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها) وقال برير بن خضير: ( يا أبن رسول الله لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك تُقطّع فيك أعضاؤنا ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة).
ويقول نافع بن هلال في كلام طويل وفي أخره: (فسربنا معافي مشّرقاً إن شئت أو مغرّبا فوالله ما أشفقنا من قدر الله ولا كرهنا لقاء ربنا وإنا على نياتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك).
وقد شهد بهذا عدوهم عمرو بن الحجاج بقولـه لأصحابه عند المنازلة : إنكم تقاتلون فرسان المِصر وأهل البصائر والمعرفة وهذه الشهادة توقفنا أن أصحاب الحسين عليه السلام كانوا في حالة البصيرة والمعرفة حتى بدا ذلك على سلوكهم وحركتهم وحيث ثبتوا لعدوهم عند المنازلة على قلتهم وكثرة من ناجزهم .
ثالثاً: التنوع في تشكيلة الاصحاب ، فقد قدّم أصحاب الحسين عليه السلام باقة من تعددية النماذج في الاعمار فهم بين الشيخ الطاعن في السن الذي ناف على الثمانين وبين الغلام اليافع الذي لم يبلغ الاحدى عشر، فهذا أنس بن الحارث الكاهلي كان من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهد معه بدراً وحنيناً فحينما أراد أن يبرز شد وسطه بعمامة ورفع حاجبيه بالعصابة فلما نظر إليه الحسين عليه السلام بهذه الهيئة بكى . وهذا عمر بن جنادة الانصاري ابن احدى عشر سنة برز بعد مصرع أبيه فقاتل وقُتل رضوان الله عليه.
رابعاً: الملاحظ أن أصحاب الحسين عليه السلام قد امتاز أكثرهم بمنزلة علمية جديرة بالاهتمام فبرير بن خضير كان أحد قراء الكوفة فهو مفسر للقرآن يجتمع تحت منبره المئات ولـه رأي في ذلك ولم يكن مسلم بن عوسجة بأقل من ذلك فهو سيد قومه وقائدهم ، وهذا حبيب بن مظاهر الاسدي ممن صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسمع منه وروى عنه ولا ننسى أنس بن الحارث الكاهلي كان بدرياً وشهد مع النبي مواقفه وسمع حديثه، وكان شوذب الشاكري من رجال الشيعة جعل داره مألفاً لهم يذكرون فيها فضل أهل البيت(ع) وهذه خصوصية طالما يمتاز بها أهل الفضل والعلم ، فضلاً عن فقهاء بني هاشم كالعباس بن علي وعلي بن الحسين الاكبر ومسلم بن عقيل وغيرهم فهم معروفون بالعلم والفضل والفقاهة وخصوصية العلم والفقاهة لدى أصحاب الحسين عليه السلام توقفنا عند منعطف مهم وهو أن العلماء والفقهاء قد استوعبوا هدف نهضة الحسين عليه السلام ورأوا أن تكليفهم حقاً هو مناصرة الحسين عليه السلام فضلاً عن مبرراتها القانونية الفقهية.
خامساً: كانت نسبة الشباب في اصحاب الحسين عليه السلام كبيرة ، فقد امتاز أصحاب الحسين عليه السلام بقدر لا بأس به من العناصر الشابة القادرة على تحمّل التضحية والجهاد، وكانت لديهم دوافع التغيير والثورة بادية على تحركاتهم حتى أن داعي الثورة على الظالمين ومقتضيات التغيير التي دعا لها الإمام عليه السلام كانت دافعاً في استقطاب الشباب للاستجابة والانضمام إلى الإمام الحسين عليه السلام وهذا أحد أسباب طابع الحيوية والحركة والتفاعل التي امتازت بها ثورة الإمام الحسين عليه السلام.
سادساً: كان لحضور المرأة مع الإمام الحسين عليه السلام حالةً متميزة ، فقد أبدت المرأة وقتذاك موقفاً يُعد من أروع المواقف التي يمكن أن تقفها المرأة من أجل الدفاع عن قضيتها وعقيدتها وتجسّد مواقف (امرأة الطف) امكانية المرأة في التضحية والجهاد ومالها من دور في التغيير والبناء لا يمكن تخطّيه أو الغاءه، فمشاركة السيدة زينب عليها السلام وتحملها مسؤولية حفظ العيال وما أبدته من رباطة جأش في بيان حقيقة الثورة الحسينية وإفشال محاولات الأمويين الاعلامية في تزييف الحقائق ، أثراً مهماً ودوراً عظيماً هذا فضلاً عن نساء صحبن الحسين عليه السلام فأبدت بعضهن موقف المشاركة المباشرة في القتال فأم عبد الله بن عمير الكلبي حينما قُتل ولدها أخذت رأسه بعد أن قطعهُ الأعداء ورموه اليها فأخذته ومسحت عنه الدم وأخذت عمود خيمة وبرزت إلى الاعداء فردها الحسين وقال: ارجعي رحمك الله فقد وضع عنك الجهاد . وكانت أم عمرو بن جنادة الانصاري بعد أن قتل زوجها دفعت بولدها البالغ أحدى عشر سنة ليشارك في القتال فقال الإمام عليه السلام: هذا غلامُ قتل أبوه في الحملة الاولى ولعل أمه تكره ذلك فقال الغلام: إن أمي أمرتني فأذن له الإمام (ع) فلما قتل ورمي برأسه إلى جهة الحسين عليه السلام أخذته أمه ومسحت الدم عنه وضربت به رجلاً قريباً منها فمات وعادت إلى المخيم فأخذت عموداً وقيل سيفاً فردها الحسين إلى الخيمة بعد أن أصابت بالعمود رجلين ، مما يعني امكانية مشاركة المرأة المباشرة في الدفاع والتضحية عن العقيدة الا أن الأدلة تخصص ذلك وهو وضع الجهاد عن المرأة فيما اذا كان الرجال يقومون بمهمة الجهاد.
ان السمات الرئيسية لأصحاب الحسين عليه السلام توقفنا على ملامح الانسان الكامل مدافعاً عن مبادئه وعقيدته ، فالعلماء مهما بلغوا غايتهم من العلم فانهم لابد ان يشخّصوا المصلحة في الدفاع عن العقيدة حتى لو كلّف ذلك نفوسهم، فان النفوس رخيصة اتجاه المبادئ والقيم ، فاذا تهددت المبادئ فلا معنى لوجود العلماء دون أن يقدّموا أنفسهم قرباناً للمبدأ أو العقيدة وهذا ما مثّله أصحاب الحسين عليه السلام أمثال حبيب بن مظاهر الاسدي وبرير بن خضير ومسلم بن عوسجة وانس بن الحارث الكاهلي وغيرهم من العلماء الابرار الذين اقتحموا المنايا بنفوسهم بعد ان شخّصوا تكليفهم في الجهاد عن دينهم والذب عن إمامهم.
على أن أصحاب الحسين عليه السلام كانوا على بصيرة من أمرهم يدركون ماحولهم من مجريات ويقاتلون على هدى ورشد وهكذا يجب أن يكون الفرد المسلم على بصيرة من أمره وعلى معرفة من قضاياه ليمكنه تشخيص تكليفه وليس امّعة لا يدري ما يدور حوله وفي غفلةٍ عن الاحداث والقضايا.
كما أن اصحاب الحسين عليه السلام بشبابهم يعطون صورة واضحة لموقف الشاب المدافع عن قضيته وكيف أن الشباب الواعي يتحمل مسؤولية الجهاد والتضحية عن مبادئه وأنهم يدركون واجباتهم وأن لا يكونوا عالة على مجتمعهم فتغريهم معطيات حضارة فاجرة تُميت طاقاتهم وتُنهك قابلياتهم وتجعلهم يُلاحقون كل ساقطة تفرزها حضارات الغرب بحجة التطور والمدنية بل عليهم ان يكونوا نماذج التضحية والفداء يتابعون كل أحداث أمتهم ويترصدون كل قضية ليكونوا على حذرٍ مما يجري من حولهم متأهبين في الدفاع عن مبادئهم وتحت رأي مراجعهم ليشخصوا لهم تكليفهم ويتأهبوا لنصرة عقيدتهم.
ولا ننسى ما للمرأة من دورٍ فعّال في رسم المسار الناضج والرشيد لأبنائها، فبامكانها أن تُشارك في توجيههم وحثهم لبناء مجتمعهم وللدفاع عن مبادئهم وقيمهم وامكانية النهوض بمستوى وعيهم ورشدهم كما قرأنا عن مواقف نساء الطف اللواتي قدّمن أروع الأمثلة في الجهاد والدفاع عن المبدأ.
وهكذا فان أصحاب الحسين قدوة وعبرةً حتى شهد الإمام(ع) لهم بقوله: (اما بعد فاني لا أعلم اصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني جميعاً).