لّما أمعنّا النظر أكثر في قضية عاشوراء وثورة الامام الحسين(عليه السلام)، سنجد انّ تلك الثورة تتّسع للتفكير والبيان أكثر فأكثر. وكلّما ازددنا تفكيراً في هذه النهضة الكبرى، ستظهر أمامنا حقائق جديدة لم نكن نعرفها من قبل.
فذكرى عاشوراء ليست مجرّد ذكر لبعض الخواطر والذكريات والاحداث فقط، وإنّما هي تبيان لحادثة في غاية الاهميّة، ولها عدد غير محدود من الابعاد والجوانب التي تركت أعمق الاثار في حياة الاُمة الاسلامية على مرّ التاريخ.
إذاً، فالتذكير بهذه الفاجعة هو موضوع يمكن أن يتبلور عن كثير من الخيرات والبركات لابناء هذه الامة، لذا تلاحظون انّ قضية البكاء والابكاء على الامام الحسين(عليه السلام) كانت تحتلّ مكانة متميزة في زمن الائمة(عليهم السلام).
فلا يتصوّر أحدٌ انّه مع وجود المنطق والاستدلال، فما هي الحاجة للبكاء؟ وما هي الحاجة للبحث في قضايا قديمة من هذا القبيل؟
إنّ هذا النوع من التفكير بيّن البطلان، لانّ لكلٍّ من هذه الاُمور دوراً في بناء شخصية الانسان وتكامله. فالعواطف لها دورها والمنطق والبرهان لهما دورهما المهم أيضاً. فالعاطفة لها دور في حلّ كثير من المشاكل والمعضلات التي يعجز المنطق والاستدلال عن حلّها.
ولذلك حينما نراجع تاريخ الانبياء سوف نرى انّه في أوائل بعثتهم كان يلتفّ حولهم اُناس لم يكن المنطق والبرهان هما الدافعين الاساسيين لايمانهم ولالتفافهم حول اُولئك الانبياء.
فلا تجدون في تاريخ نبينا(صلى الله عليه وآله) ـ وهو تاريخ مدوَّن وواضح ـ بأنّ الرسول اجتمع في أوّل البعثة مع مجموعة من الكفّار وبرهن لهم بالادلّة العقلية على وجود اللّه ووحدانيته أو بطلان عبادة الاصنام ـ مثلاً ـ . فالاستدلالات العقلية للنبي(صلى الله عليه وآله) جاءت بعد أن تقدّمت الدعوة وانتشر أمرها، أمّا في المرحلة الاُولى فقد كان عمل الدعوة يقوم على أساس كسب المشاعر والعواطف الصادقة لدى الناس.
ولم يكن يستدلّ للناس بالادلّة العقلية والفلسفية على وجود اللّه ووحدانيته، بل كان يكتفي بالقول: «قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا»، فلم يبرهن للناس عقلياً أو فلسفياً بأنّ الاعتقاد بـ «لا إله إلاّ اللّه» يؤدّي الى فلاح الانسان وسعادته، بل إنّ هذه العبادة تخاطب مشاعر الانسان وأحاسيسه الصادقة.
طبعاً إنّ كلّ المشاعر والاحاسيس الصادقة والسليمة تنطوي على برهان فلسفي واستدلال عقلي. لكن المسألة هي انّ كلّ نبي عندما كان يريد البدء بالدعوة لم يكن يطرح الدليل العقلي والفلسفي من أجل هداية الناس، بل انّه كان يبدأ بتحريك العواطف والاحاسيس الصادقة والسليمة التي تحمل المنطق والاستدلال في ذاتها. وهذه الاحاسيس والعواطف توجّه أنظار الانسان الى ما يعيشه المجتمع من ظلم واضطهاد وتمايز طبقي، وما يمارسه أنداد اللّه من البشر «شياطين الانس» من ضغط وإرهاب ضدّ أبناء ذلك المجتمع. أمّا طرح البراهين العقلية والمنطقية فكان يبدأ حينما تستقر الدعوة وتأخذ مجراها الطبيعي.
وليس شرطاً أن يكون الانسان الذي يمتلك قوة استدلال أكبر أعلى شأناً من غيره من الناحية المعنوية. فقد تكون عواطف بعض أصحاب المستوى الفكري المتواضع أصدق وأسلم، وارتباطهم وتعلّقهم بالنبي وبمبدأ الغيب أقوى وحبّهم أصدق وأعمق. وهذا من شأنه أن يكسبهم مكانة معنوية أعلى ومرتبة أسمى عند اللّه سبحانه وتعالى. فلكلٍّ من العاطفة والاستدلال دوره ومكانته، فلا العاطفة تستطيع أن تحتل مكان الاستدلال العقلي، ولا الاستدلال بإمكانه احتلال مكان العاطفة.
وحادثة عاشوراء تنطوي في طبيعتها وذاتها على بحر زاخر من العواطف الصادقة. فهذه الفاجعة جاءت نتيجة لثورة إنسان عظيم ومعصوم، إنسان لا يمكن التشكيك بمقدار ذرّة في شخصيّته المتسامية، ويقرّ جميع المنصفين في العالم بتعالي هدفه وهو «انقاذ المجتمع من براثن الظلم والاستعباد». وقد أعلن عن هذا الهدف بوضوح عندما قال:
«أيّها الناس إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحُرم اللّه ناكثاً لعهد اللّه يعمل في عباد اللّه بالاثم والعدوان ولم يغيّر عليه بقول ولا بفعل كان حقّاً على اللّه أن يُدخله مَدخله».