عاشوراء قضية فريدة من نوعها في التاريخ البشري بخلودها وباستمرار حضورها في ذاكرة الإنسان والزمن، ليس هناك قضية على كثرة قضايا التاريخ وأحداثه كتب لها الخلود والبقاء والاستمرار في وعي البشر كما هو بالنسبة لقضية أبي عبد الله الحسين ، فنحن اليوم تمر علينا ألف وثلاثمائة وستون سنة من حصول حادثة كربلاء ولكنها عند المؤمنين كأنها قد وقعت لتوها مصداقاً للقول المأثور:
(كل يوم عاشوراء، وكل أرضٍ كربلاء).ما السبب في خلود هذه القضية وخاصةً عند أتباع أهل البيت عليهم السلام الذين دأبوا على الاحتفاء بهذه المناسبة في كل عام، هذا الاحتفاء الذي أخذ الآن بل وفي سالف الأزمان طابعاً عالمياً، ففي هذه الليلة في القارات جميعها، في مختلف أنحاء العالم وحيث يوجد إنسان مؤمن يرى حق المودة في القربى هناك مأتم لأبي عبدالله الحسين. كما أن هذا الاحتفاء بعاشوراء ليس أمراً طارئاً وجد في سنين متأخرة بل هو أمر عريق عميق في عمر الزمن، فمنذ السنة الأولى بل منذ الأيام الأولى لاستشهاد أبي عبدالله الحسين بدأت مراسيم الاحتفاء بالذكرى، وبدأت شعائر التخليد لقضيته وثورته. فكان الهاشميون والهاشميات والمتعاطفون معهم من أبناء الأمة يحيون هذه المناسبة ويتذكرون ما حصل فيها من آلام ومآسٍ. وقد ذكرت الروايات بعد أن عادت قافلة أهل البيت من المدينة المنورة تعددت المآتم في دور الهاشميين على أبي عبد الله الحسين، فكان لعبد الله بن جعفر مأتم، ولأم البنين -بناءً على القول بوجودها– مأتم، ولآل عقيل مأتم، وكان أكبر مأتم، مأتم السيدة زينب، حتى أن والي المدينة انزعج مما تقوم به السيدة زينب من إحياء لذكرى أبي عبدالله الحسين في قصة مفصلة؛ فكتب إلى يزيد حتى يخرجها من المدينة. وأئمة أهل البيت عليهم السلام أيضاً كانوا يحيون هذه المناسبة ويوصون بإحيائها، فكان من أولى مهام الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليها السلام في الفترة التي عاشها بعد كربلاء إبقاء هذه الحادثة وهذه الواقعة ساخنة في وجدان وضمائر الناس، لذلك ظل طوال حياته ما قُدم له طعام ولا شراب إلا ومزجه بدموعه وهو يقول: « كيف آكل وكيف أشرب وقد ذبح أبي الحسين عطشاناً جائعا ». وأمر الإمام الباقر أتباعه وأصحابه بإحياء يوم عاشوراء، فقد خاطب بعد استشهاد الحسين بسنوات بسيطة مالك الجهني وهو أحد أصحابه فقال آمراً شيعته: « ثم ليندب الحسين ويبكيه ويأمر من في داره بالبكاء عليه ويقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه، ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضاً بمصاب الحسين ... قال: قلت: فكيف يعزي بعضهم بعضاً؟ قال يقولون: عظم الله أجورنا بمصابنا بالحسين وجعلنا وإياكم من الطالبين بثأره مع وليه الإمام المهدى من آل محمد ». وفي عهد الإمام الصادق في نهاية القرن الأول للهجرة أصبح إحياء عاشوراء أمراً مألوفاً عند أتباع أهل البيت؛ ولذلك نجد الإمام الصادق يسأل فضيل بن يسار: «يا فضيل أتجلسون وتحدثون؟ »قال: نعم، قال :« إن تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا» .وتحدث الإمام الرضا عن كيفية احتفاء أهل البيت بعاشوراء، فقال : «كان أبي -ويقصد الإمام الكاظم – إذا هلّ هلال المحرم لا يُرى ضاحكاً أبدا، فإذا كان يوم العاشر كان يوم حزنه وكآبته».إذن فأهل البيت أوصوا شيعتهم وأتباعهم ومحبيهم أن يحيوا هذه الذكرى والمناسبة وفعلا إحياء هذه المراسم والاهتمام بعاشوراء من ذلك الوقت من السنوات الأولى لمقتل الإمام الحسين ، فالأحياء ليس أمراً جديداً أو طارئاً. وفي القرن الرابع للهجرة حينما قامت دول توالي أهل البيت عليهم السلام كالفاطميين في مصر والبويهيين في العراق والحمدانيين في حلب كانوا يحيون هذه الذكرى، فكانت مصر أيام الفاطميين تغلق أسوارها ومحلاتها يوم العاشر من المحرم وتسودها مسحة من الحزن والكآبة، فجلس الخليفة الفاطمي والوزراء والقضاة والناس كلهم في مجالس العزاء على أبي عبدالله الحسين . من جانب آخر الاحتفاء بعاشوراء شأنٌ أهلي وليس مسألة سياسية تدعمها حكومة أو سلطة أو ما أشبه، وإنما هو شأنٌ أهلي، والناس الموالون لأهل البيت يحيون هذه المناسبة. وفي كثير من الأحيان وخاصة في الأزمنة الغابرة كان إحياء هذه المناسبة يكلف تضحيات، فكان بعض يقتلون، وبعض يسجنون، وآخرون يعذبون، وهناك من تقطع أرزاقهم إذا احيوا هذه المناسبة. ولكن الناس أصروا على إحياء هذه الشعائر عبر الزمن واستمرت هذه القضية خالدة.فعلى من يتساءل لماذا هذا الاهتمام؟ لماذا تحيون قضية عاشوراء؟ عليه أن ألا يوجه سؤاله لنا فقط كمعاصرين وإنما يوجهه للتاريخ فيسأل أئمة أهل البيت عليهم السلام، وأحبتهم في مختلف بقاع العالم.لأن المسألة ليست مسألة محلية أو طارئة في هذا الزمن حتى يتجاهلها متجاهل أو يستنكرها مستنكر.أما القول بأنها بدعة فهذا قول مردود؛ لأن البدعة إدخال ما ليس من الدين في الدين، وما يأمر به أئمة أهل البيت عليهم السلام فهو عندنا من الدين، فنحن لا نمارس بدعة وإنما نمارس أمراً دينياً من جهة نعتقد أن أوامرها حجة علينا. وأوامر أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم حجة علينا لأن الرسول قد أمرنا باتباعهم والركوب في سفينتهم، قال : « مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى ».ونحن أيضاً نتأسى في هذا الإحياء برسول الله ، فإنه سنّ لنا البكاء على الحسين، وإذا كان أحدٌ يستغرب كيف نبكي على قضية حصلت قبل ألف وثلاثمائة وستين سنة. فعليه أن يستغرب كيف يُبكى على قضية لم تحدث بعد، فإن الرسول بكى على الحسين عند ولادته وهذا موجود في المصادر الإسلامية ليس في كتب الشيعة فقط وإنما في كتب السنة. وأكتفي بالإشارة إلى مصدر وهو كتاب سلسة الأحاديث الصحيحة للمحدث السلفي الذي يراه السلفيون حجة في هذا العصر على أهل الحديث للمحدث البارز المعروف (الشيخ محمد ناصر الدين الألباني) وهو من أبرز علماء الحديث عند أهل السنة وخاصة عند السلفيين، في هذا الكتاب في الجزء الثاني الطبعة الرابعة حديث رقم 821 وحديث رقم 822 يقول: عن أم الفضل دخلت على رسول الله وقد وضعت الحسين في حجره فحانت مني التفاته فرأيت رسول الله وعينه يهرقان بالدموع، قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، مم بكائك؟ قال: أبكي من ابني هذا. ولماذا يا رسول الله؟ قال: أتاني جبرئيل وأخبرني أن ابني هذا تقتله أمتي، وأعطاني تربة حمراء من تربته. يقول الألباني هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين، وله أمثال وشواهد في مسند ابن حنبل وفي المستدرك للحاكم النيسابوري، ويذكر عدة مصادر.فإذا كان رسول الله يبكي للحسين ويهتم لقضيته قبل حصولها ووقوعها بحوالي 60 سنة ألا يدفعنا ذلك للتأسي برسول الله؟!