ثلاث قصص عراقية حزينة جدا
...اعتذر ان كنت ساتكلم عن قصص حزينة ..ولكني اجد نفسي مندفعا لتسجيل هكذا قصص لانها تمس الواقع الانساني في الصميم ... الرابط في هذه القصص الثلاث علاوة على الالم والحزن هو الحب ... الحب الذي يقتل بصدق وليس من باب المجاز او المبالغة هذه القصص عراقية حدثت في الوقت الحاضر ...وهي نموذج من الوف القصص التي توجد في اماكن اخرى من الوطن ..
1- القصة الاولى
حيث تعيش ام مع ابنها الوحيد وزوجته واطفاله ...الام هجرها زوجها منذ زمن واتخذ زوجتين اخريتين ..ذاقت الحزن والفاقة لتربية ولديها ..خسرت الولد الاول في حرب العراق وايران ..ظلت الام ترى في ولدها دافعا للعيش من اجله ومعه .....تذرعت بالصبر كي تظل الى جانبه وتسقيه من صدرها حنانا وعاطفة وابتهالات الى الله ان يحفظه ..وكانت فرحتها لاتوصف عندما تزوج أما فرحتها الكبرى فكانت عندما رزقه الله بمولود ذكر ثم اخر ..
عندما صار لديه اربعة اطفال احست ان الحزن بدا يودعها وان العائلة صارت كبيرة من جديد.ولكن الحزن ابى ان يكون مفارقا لها طويلا ..ففي احد الايام توجه الى عمله في العاصمة كما هي عادته منذ سنوات ...في ذلك اليوم الذي غادر فيه بدات تحس بان شيئا ما سيحدث ..شيء مرعب ينتمي الى ايام تكرهها ..لاتطيق التفكير بها ..في اليوم التالي هرعت الى اخيها وطلبت منه بالحاح ان يتصل بولدها ويحضره اليها في الحال قبل ان يقع المحذور ..
ماذا حصل ؟ لماذا هذا الخوف ؟
تسائل الاخ من غير ان يجد اجابة منطقية فالام كانت تعرف اشياء لايعرفها الا قلبها الذي خفق في مساء ذلك اليوم الذي غادر فيه الابن ان ثمة شيء مكروه سيحدث ..
وحدث المكروه فعلا ..فعندما اتصل الاخ بالشركة التي يعمل فيها الابن اخبره زملاء العمل ان الشاب خرج ولم يعد ..وانهم يبحثون عنه بلا جدوى ...
وتوجه الاخ الى هناك ..بحث وبحث ..وبعد عشرة ايام عثر على الجثة في احد المشتشفيات ..حيث لقي الولد حتفه برصاصة في مؤخرة الراس وكفى ..
ولكن كيف يمكن اخبار الام بما حصل ...كانت منهارة تماما وتعرف انه الموت قد عاد من جديد الى دارها فقلبها لايخطيء
خاصة فيما يتعلق به ...عجز أشجع الشجعان عن اخبارها بالخبر الذي صار لابد من معرفته في النهاية . ...وعرفت الخبر ..وعندما القت على ولدها نظرة الوداع ..ودعت اخر ما تبقى لها في الحياة ..في اليوم السابع وعندما كانت تحتضن حفيدها الصغير شمته في عنقه بشوق كبير ونطقت باسم ولديها الراحلين ثم فارقت الحياة ...
2- القصة الثانية
تزوجا قبل بضعة اشهر ...زوجها يعمل في محل بقالة ..أحبها بشغف فاحبت الحياة معه ..في صبيحة أحد الايام ..خرج الى العمل . ودعته بقبلة ...ووعدها بالكثير من الفاكهة..سألها كعادته عن نوع الخضروات والفواكه التي سيرسلها اليها لتحضر الغداء ..وكالعادة ايضا اجابته / اللي تحبه حبيبي...
مضى الى عمله ..فانشغلت بهموم المطبخ ...والبيت ..انجزت واجباتها ..واشعلت الراديو تستمع التى اغانيها المفضلة وهي تحلم بطفل يأتي فيملأ البيت ضجيجا وسعادة ..
وبينما كانت تغوص في غمرة الحلم دوى انفجار ...مروع كبير .. مالذي حدث ياترى في هذه المدينة ...لاشيء بالتأكيد ..ربما تكون قنبلة من مخلفات الحرب ..او ...لاشيء مهم في عالمها الصغير الملون البسيط .. واستمرت تستمع الى اغانيها المفضلة ..وتنتظر حاجيات السوق التي تاخرت هذا اليوم كثيرا..
عندما طرق الباب ..استعدت لتعاتبه على تاخير الغذاء ..ولكن الطارق ليس هو بل الجيران ..
/انتي جالسة هنا ..والسوق تحول الى محرقة بشر ..عشرات الضحايا ...الناس تحولت الى قطع من اللحم المتناثر ...هل اتصل بك زوجك ؟
فقدت وعيها ..اعصابها ..وصار الحلم انيابا قاتلة غرست في دماغها وامتدت لتقتحم كل حواسها ..فانفجر الدم من الانف وترنحت لكنها لم تسقط بل هرعت معهم الى السوق ..الى هيروشيما مصغرة مئات الناس الذين يشبهونها ..الصبية الذين يبحثون عن آبائهم ..النساء ...البنات ..الرجال..وكان الحريق كبيرا ...والدمار اكبر ..اختلطت اشلاء الناس بالفواكه والخضر واللحم والسمك...كل شيء بدا عالما من الفوضى والدمار ..اين زوجها ..بل اين بقايا زوجها ..لاتدري .وعندها سقطت مغشيا عليها . ..
عندما عادت الى رشدها ..لتعرف ان الناس جمعوا ما تبقى منه في كيس ..كان يمر بجانب السيارة التي انفجرت وهو يحمل بيده كيسا من الفواكه والخضر . ..ولهذا لم يعثروا عليه ..ومرت ايام العزاء ..ثلاثة ايام ..لم تكن قد عادت الى رشدها كما يزعمون ..بل كانت في عالم اخر ..معه في السوق ..تتجول ..تصف الفاكهة وترشها بالماء ..تغسل واجهة المحل بالماء كل صباح وتعد له الطعام ..
كانت تضحك وتبكي ..تضحك عندما يغازلها ويقول ..اي نوع من الفاكهة تفضلين ..فتقول / انا احب ما تحب ...فيجيبها بحب ..انتي فاكهتي المفضلة ...وتبكي عندما يناديها ..انا بعيد عنك ..ارجوك اريد ان تكونين قريبة مني ...ولم ترفض طلبه ..في اليوم الثالث انتهى العزاء ..وفي اليوم الرابع ...رحلت اليه ..رحلت وعلى خدها دمعة فراق ...وعلى شفتيها ابتسامة لقاء...
3- القصة الثالثة
الاولاد كبروا وتزوج كل منهم وصار له بيته الخاص..وصار لديهم الوف الاهتمامات والمشاغل بعيدا عن الابوين الذين كان في انتظارهما اشياء كثيرة ..
الصمت ..والهدوء ..وعاصفة الذكريات كانت هي المناجي الوحيد للابوين الذين احسا للمرة الاولى انها معا ..وانها لبعض ..
وان في الامكان ان يعيشا الان بلا ضوضاء وبلا مشاكل .
وعلى الرغم من ان يصبح ضربا من الذكرى الطيبة التي لانجد وقتا للاستمتاع بها لان المشاغل والهموم تجعل منه ممارسة تاتي في المرتبة الثانية ..أما الان ...فكل شيء متاح ...
الاستماع الى ملايين الحكايات والقصص المعادة التي تبدو كانها جديدة ...ليعاتب احدهما الاخر بعد كل حكاية ..
لم لم تخبرني في حينها؟
لقد اخبره ونسيها أو أخبره ولكنه لم يعره انتباهه في حينها ..اما اليوم فكل شيء يبدو هادئا منسجما ...حتى دجاج البيت الذي يتنافس على الديك الوحيد يبدو اليوم من صنف آخر ..من غير تلك السلالة التي سكنت المنزل لاجيال وتوارثت الحب والتفريخ ..الحياة تبدأ من جديد مع الخمسين ..هكذا كان يقول لها ليطمئنها ان الخريف فصل لم يأت بعد .. بدورها كانت تعد له اكلات ايام زمان التي منعها عنه السكري وضغط الدم وقرحة المعدة والقولون وهي تردد ان الحب يتجدد ..ينزع اسماله القديمة مثل الحيات ..يسبت ولكنه لايموت ..
ربما يكون الفراش هو المكان الوحيد الذي يعرفان فيه انهما لم يعودا شابين !!!..ولهذا كانا يثرثران بكثرة حتى يدركهما النوم ...
في ذلك اليوم الخريفي المزعج ..استيقظت الزوجة باكرا كالعادة لتسقي الحديقة ..وتروي ازهاره الصيفية التي يحبها ..قطفت احدى الازهار الصيفية ومضت لتهديها للحبيب الذي بدا كما لوكان في العشرين من العمر ..داعبت ارنبة انفه وهي تدعوه للاستيقظ لكنه لم يجب ..لم يتحرك ..
في المستشفى الذي نقل اليه الاب وفي صالة الانتظار حيث تحلق الابناء واحفادهم وزوجاتهم حولها ..كانت صامتة ..مذهولة ..مصدومة من هذا الذي حدث فسرق ابتسامة صباحها الذي لم تعرف مثله منذ زمن ..
/الحاج توفي ....هكذا قال الطبيب وهو يمضي بلا مبالاة ..
في بلد يموت فيه المئات من الشباب يوميا يصبح موت الشيوخ والعجائز اشبه بفاصل اعلاني لايعبا به احد ..لكنها كانت تشعر بشكل مختلف..فالخريف الذي حمله على ذراعيه ومضى بصمت وبلا ألم سيكون شتاءا كئيبا لاوجود فيه الا للاشباح المرعبة والجنون ...ولهذا قررت ان تغادر معه ..دخلت الى غرفته ..امسكت بيدة وضعتها على خدها ..ثم اغمضت عينيها ..
وبهدوء امراة عجوز حالمة فقد رحلت بهدوء لم ينتبه لها احد وهي تطارد فراشات حلم جميلة معه في حديقة الكلية التي تعرفت فيها عليه للمرة الاولى