المؤمن بين الوقت والصمت
أنّ السكوت (بنفسه) إذا لم تكن هناك مرجّحات للكلام خير وأغلى. لذلك فإن السكوت النافع أغلى من الكلام النافع، ما لم يكن هناك مرجّح لأحدهما على الآخر.
* تأتي الحكمة في الغالب من الصمت أكثر ممّا تأتي من الكلام؛ لأن الحكمة وليدة التأمّل والتدبّر والتعقّل، وهذه كلّها تتحقّق من خلال التأمّل والسكوت. وعلى المرء أن يفكّر في الكلام قبل أن يطلقه ليعرف هل يعود عليه بالنفع؟ فإن لم يعد عليه بالنفع فليختر السكوت ويتخلّى عما كان يريد قوله. فالسكوت هو الطريق الأفضل والأسرع لرقيّ الإنسان وتكامله؛ لأنّ الإنسان ميّال بطبيعته لأن يقول كلّ ما يشعر به ويعلمه ويعرفه، مع أنّ معظم ذلك لا يتناسب من حيث القيمة مع ما يصرفه من وقت في هذا السبيل، في حين أنّ التأمل والتفكّر يعطي نتائج أفضل. وإذا كان الناس يعظّمون المبدعين والمخترعين والمكتشفين فإنّ الإبداع في كلّ مجالات الحياة لا ؟ يظهر نتيجة الكلام كظهوره نتيجة التأمّل. وإذا كان المؤمن صموتاً فإنّ تفكيره لا ينصرف إلى المال والشهوات بل يفكّر في التعالي والسموّ في طريق الخير والهداية والفضائل والكمال، وإذا أصبح كذلك أبدع فكره وأينع قوله وفعله وتفتّحت أمامه آفاق الرقيّ والازدهار.
* يقول الإمام علي سلام الله عليه: «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه» أي أنّ الأحمق سريع الكلام يطلق القول قبل أن يفكّر فيه، خلافاً للعاقل فإنّه يفكّر في الكلمة قبل أن يقولها. ونقل عن بعض الحكماء أنّه كان يقول: (لا ترسل كلّ كلمة مع أوّل خطورها إلى الذهن، بل أرجعها إلى الفكر وتمعّن فيها سبع مرّات قبل أن يطلقها لسانك..) ولا شكّ أن من يتريّث إلى هذه الدرجة تقلّ شطحاته وزلاّته غالباً ويقلّ ندمه إثر ذلك.. ولو ألقيتم نظرة على ما حولكم ترون أن أكثر من بلغوا المراتب العالية في الدنيا والدين والعلوم الدينية وغيرها كالطبّ والهندسة والتجارة هم أناس مفكّرون يركّزون على التفكير والتأمّل.
* ليس المقصود بالصمت عدم الحديث مطلقاً، فكما أنّ الثرثرة ممقوتة فكذلك السكوت يكون ممقوتاً عندما يعود الكلام بالنفع على الذات أو المجتمع. وغاية الأمر المطلوب من الإنسان أن لا يبذّر وقته في الحديث غير النافع، لأن الوقت أغلى من المال، فإذا كان المال قابلاً لأن يعوَّض، فالوقت غير قابل للتعويض. ولقد ورد في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين علي سلام الله عليه: «إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنّة فلا تبيعوها إلا بها». وحريّ بالإنسان أن يستفيد من ساعات عمره أقصى ما يستطيع. فكما يفكّر باستثمار أمواله على أحسن نحو يمكن فتراه لا يبذّرها بل لا ينفقها إلا حيث يجب، ولا يعطي منها أكثر مما يجب، فكذلك يجب أن يكون وقت الإنسان، فهو ثروته الحقيقية، لذا يجب عليه أن يحسن كيف ينفقها، ولا ؟يبيعها بالتافه. فلنقرّر من الآن أن نتعوّد على الصمت والاستفادة من الوقت، وهذا لا يتحقّق دفعة واحدة، بل يأتي عبر المران والترويض، ويبدأ بالقليل ثم يزداد شيئاً فشيئاً، وذلك بأن يصمّم المرء على أن يكون منتبهاً لنفسه كلّ يوم في ساعة معيّنة، فلا يتكلّم إلا بعد أن يتأمّل ويشخّص أنّه نافع، ويستمرّ على هذه الحالة لمدّة أسبوع مثلاً، بعد ذلك يزيد المدّة إلى ساعتين، وهكذا لمدّة أسبوعين أو شهر مثلاً، ويستمرّ يزيد عدد الساعات التي يراقب نفسه فيها بمرور الزمن، حتى تصبح الحالة ملكة عنده.
* إنّ الإنسان المهذار الثرثار الذي يطلق للسانه العنان، ويتفوّه بكلّ ما يخطر بباله، ولا يرى قيمة لوقته وحياته، مثل هذا الإنسان لن يصل إلى شيء. أمّا الذين يهدفون إلى بلوغ جوار الله تعالى والقرب من الأنبياء والمتّقين فينبغي أن لا يكونوا كذلك وليعلموا أنّ التكامل لا يأتي من لا شيء وبلا تأمّل وفكر. فالصمت أحد الفضائل الأخلاقية التي يحتاج الإنسان لتحصيلها إلى التجربة وتحتاج التجربة إلى زمن، وإلى ثبات وصمود، الَّا أنّه يجب مع ذلك على الإنسان أن لا يغفل عن الاعتماد على الله سبحانه وتعالى والتوسّل به وصولاً إلى النتيجة؛ قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ}. فهذه خمس فضائل (معرفة قيمة الوقت، والتأمّل قبل الكلام، وترويض النفس، والثبات، والاعتماد على الله تعالى) وصولاً إلى فضيلة الصمت التي إن وُفّقنا لبلوغها فسنشعر حينها كم من كلماتنا قد ذهبت قبل ذلك هدراً بلا نفع لأنفسنا ولا لغيرنا. فلننتهز الفرصة قبل أن يأتي يوم لا نستطيع أن نزيد فيه من حسناتنا ولا أن ننقص من سيّئاتنا.
تحياتي لكم