سبع الدجيل
السيد محمد بن الامام علي الهادي (ع)
قمر من أقمار آل محمد وغصن من الشجرة النبوية الشريفة وعلم شاخص من أعلام أهل البيت(ع) بلغ من جلالة القدر وسمو النفس وعلو الشأن مكانة عظيمة إلى الحد الذي اعتقد الناس انه الإمام بعد أبيه الإمام علي الهادي(ع)، كما بلغ درجة من العبادة قل نظيرها فأعطاه الله كرامات سارت على الألسن والأفواه ومرقده الشريف ببلد مقصد أصحاب الحاجات والمرضى يتوسلون به لمنزلته عند الله لقضاء حاجاتهم. يقول الشيخ عباس ألقمي يصف هذا المزار الشريف:(مزار مشهور هناك مطاف للفريقين وتجبى إليه النذور والهدايا وله ما لايُحصى كثرة من الكرامات وخوارق العادات). لُقّب بسبع الدجيل لأنه كان يحمي زوّاره من اللصوص وقطّاع الطرق فكان لا ينال أحداً من زائريه أي أذى حينما يقصده وهذا اللقب من أشهر ألقابه وروي ان سبب إطلاق هذا اللقب ان قبره الشريف كان مكاناً خالياً من الناس وقراهم وهو يبعد عن بلد بـ(خمسة كيلومترات)، وعن ضفاف نهر دجلة بـ(أربعة كيلو مترات)، ومن المعلوم ان مثل هذه المناطق الخالية تكون مرتعاً للصوص وقطاع الطرق فكان الزائرون لمرقده الشريف يشاهدون سبعاً -اسداً- ضارياً يجوب الارض حول القبر وهو لا يدع أحداً من اللصوص يصل الى زوّاره بسوء حتى قال الشاعر في ذلك:
ينام قريراً عندك الوفد انه يهابُ فلا يدنو الى ضيفك اللصُ
لعمرك قد خافوك حياً وميتاً وهل قبل هذا خيف في رمسه شخصُ
ومن ألقابه أيضاً سبع الجزيرة والبعّاج وابو جاسم وابو البرهان لوضوح كراماته ودلالة قربه من الله تعالى وابو الشارة واخو العباس لكراماته التي حباه الله بها فكلاهما باب الحوائج.هو السيد ابو جعفر محمد بن الإمام علي الهادي بن الإمام محمد الجواد بن الإمام علي الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب(ع) سليل الإمامة وربيب بيت الوحي ومعدن الرسالة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ولد في قرية يقال لها(صريا) في المدينة المنورة عام(212هـ) وهذه القرية أسسها الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، على بعد ثلاثة أميال من المدينة المنورة وقد ولد فيها ثلاثة من الأئمة المعصومين هم الإمام علي بن موسى الرضا والإمام محمد بن علي الهادي والحسن العسكري (عليهم السلام) فضلاً عن عدد من أولادهم (ع) ومن بينهم سيدنا محمد بن علي الهادي(ع). ترعرع السيد محمد في كنف والده الإمام علي الهادي (ع) النور العاشر من سلسلة الأنوار الإلهية المنصوص عليهم بالإمامة فنشأ على التقوى والورع والعلم والعبادة أما أمه فهي السيدة الطاهرة (سليل)، التي عبّر عنها الإمام الهادي (ع) بقوله:(سليل مسلولة من الآفات والنجاس) لعلو منزلتها وسمو مقامها عاش السيد محمد في رعاية أبيه أربعاً وعشرين عاماً وكانت تلك السنوات كافية لأن تجعل منه الصورة الواضحة لشخصية أبيه وأخيه (ع)، والاكتساب منهما مكارم الأخلاق والصفات الحميدة وقد عاصر السيد محمد خمسة من الخلفاء العباسيين هم الواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز الذي توفي السيد محمد في خلافته كما عاصر سيدنا الكثير من الاحداث الأليمة التي جرت على الائمة الطاهرين (ع) وما جرى على اهل بيته من فجائع وآلام ومآسٍ منها خروج يحيى بن عمر بن يحيى بن عبد الله بن جعفر الطيار بالكوفة سنة (248هـ)، الذي قُتل وحُمل رأسه الى بغداد وصُلب وكان يحيى هذا متديناً ورعاً شديد العطف على أهل بيته من العلويين باراً بالناس ومضرب الامثال في الجود والكرم كما عاصر السيد محمد خروج الحسن بن زيد العلوي في طبرستان سنة (250هـ)، وقد جاءت هذه الثورات العلوية وغيرها نتيجة طبيعية لجور السلطة العباسية وطغيانها وقمعها فكان السيد محمد يرى ما يجري على ابناء عمومته من العلويين من قتل وصلب وتشريد وسجن وتعذيب فكان يتلقى تلك الصدمات بقلب المؤمن الصابر المفوّض امره الى الله وفضلاً عن كل هذه الصدمات والنكبات فقد كان سيدنا يشارك أباه وأخاه في محنتيهما وما جرى عليهما من الترحيل عندما حملهما يحيى بن هرثمة القائد العسكري في عهد المتوكل من المدينة المنورة الى سامراء وما قاسياه من الخلفاء العباسيين وإضافة الى هذا الضغط السياسي الذي مارسه العباسيون ضد الأئمة من أهل البيت (ع) وأتباعهم، فقد كانت هناك محنة أخرى وهي ظهور التيارات الضالة التي ابتدعت الآراء المنحرفة وإفشاء الشذوذ الفكري فظهرت فرق شذّت وانحرفت عن الإسلام الصحيح المتمثل بأهل البيت المعصومين (ع) فكانت معاناة سيدنا تتفاقم وهو يحس بأنه من المكلّفين بحفظ شريعة جده (ص) من الضلالة والبدع فلم تمنعه النكبات والمآسي التي تعرّض لها من أن يبسط أشعة علمه الالهي على الناس وارشادهم الى الصراط المستقيم وإرجاعهم الى جادة الصواب فكان من علماء آل محمد وفضلائهم ومما يدل على فضله وعلمه ان من الشيعة كانت تعتقد ان الإمامة فيه بعد أبيه الهادي (ع)، إلا ان هذه الفرقة اضمحل ورجعت الى أخيه الحسن العسكري (ع)، بعد أن عرّفهم الإمام الهادي بالإمام المنصوص عليه من بعده وبخاصة بعد وفاة السيد محمد في حياة أبيه الهادي (ع) كان سيدنا ملازماً لأبيه وأخيه ويحدثنا العمري في (المجدي في النسب/ص131) عن علّانا لكلابي أحد معاصري السيد محمد على فضل سيدنا ومكانته السامية فيقول:(صحبت أبا جعفر محمد بن علي الهادي (ع)، وهو حدث السن فما رأيت أوقر ولا أزكى ولا أجل منه وان خلّفه أبو الحسن بالحجاز طفلاً فقد عليه مشيداً وكان ملازماً لأخيه أبي محمد لا يفارقه)، وقال السيد محمد الأمين في أعيان الشيعة عن سيدنا:(جليل القدر عظيم الشأن كانت الشيعة تظن أنه الإمام بعد أبه فلما توفي نص أبوه على أخيه أبي محمد الحسن الزكي)، وقال الشيخ عباس القمي في منتهى الآمال:(وأما السيد محمد المكنى بأبي جعفر فهو المعروف بجلالة القدر وعظم الشأن وكفى في فضله قابليته وصلاحه للإمامة وكونه أكبر ولد الإمام علي الهادي (ع) وزعم الشيعة أنه الإمام بعد أبيه لكنه توفي قبل أبيه) وقال محمد رضا سيبويه في كتابه (لمحات من حياة الإمام الهادي) عن سيدنا: (جلالته وعظم شأنه اكثر من أن يذكر وقد ذكروا في باب النصوص على إمامة أبي محمد (ع)، ما ينبئ عن علو مقامه وترشيحه لمقام الامامة وقبره مزار معروف في بلد والعامة والخاصة يعظّمون مشهده الشريف)، وقال محمد رضا عباس الدبّاغ: (وكان فقيهاً عالماً عابداً زكياً أراد النهضة الى الحجاز فسافر في حياة أخيه حتى بلغ (بلد) فمات بالسواد فدفن هناك وعليه مشهد وهو الذي يُعرف بالسيد وسبع الدجيل).
توفي سيدنا الجليل محمد بن علي الهادي ينة (254هـ) فحزن عليه أبوه وأخوه (عليهما السلام) حزناً شديداً وروي ان سبب موته في المكان المعروف الآن وهي المنطقة المعروفة بالدجيل نسبة الى نهر الدجيل المشهور انه كان للإمام الهادي (ع) صدقات ووقوفاً من ضياع وأراض بمقربة من بلد وكان الذي يتولى أمرها ابنه ابو جعفر محمد وفي احدى وفداته للنظر في شؤونها فجأة المرض واشتد به الحال)، غير ان هناك دلائل تشير الى ان السلطة العباسية كان لها يد في موته وهو أمر ليس ببعيد على الخلفاء العباسيين فتاريخهم الدموي شاهد على جرائمهم بحق العلويين وشخصية عظيمة مثل شخصية السيد محمد بما تمتلك من جلالة وقدر وسمو إضافة الى نسبها الرفيع وشيوع انه الإمام بعد أبيه من الطبيعي أن تكون في رأس قائمة العباسيين ممن يخططون لتصفيته جسدياً وقد اعتمد هذا الرأي الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه (حياة الإمام الحسن العسكري/ص24-25)، فقال:(ومرض ابو جعفر -أي السيد محمد- مرضاً شديداً واشتدتْ به العلة ولا نعلم سبب مرضه هل انه سُقي سماً من قبل أعدائه وحسّاده من العباسيين الذين عزّ عليهم أن يروا تعظيم الجماهير وإكبارهم إيّاه)، كما رجّح عدم كون وفاة السيد محمد أن تكون طبيعية السيد محمد كاظم القزويني في كتابه (الإمام العسكري من المهد إلى اللحد/ ص23)، حيث قال: (لا نعلم سبب وفاة السيد محمد في تلك السن ونعتبر موته حتف أنفه مشكوكاً فيه لأن الأعداء كانوا ينتهزون كل فرصة لقطع خط الإمامة في أهل البيت (ع)، فلعلهم لما عرفوا ان السيد محمد هو أكبر أولاد أبيه وهو المرشّح للإمامة بعد أبيه قتلوه كما قتلوا أسلافه من قبل) إضافة إلى ذلك فإن الروايات التي تواترتْ عن الأئمة عليهم السلام والتي تؤكد أنهم (ع) يموتون اما قتلاً أو سماً منها قول الإمام الصادق(ع):(ما مِنا إلا مقتول او مسموم) وروى الطوسي في(الغيبة/ص388) : (ان النبي والأئمة ما ماتوا إلا بالسيف او السم وقد ذكر عن الرضا (ع) انه سُمّ وكذلك ولده وولد ولده).
وبناءاً على هذا الرأي فإن سيدنا قد رزقه الله الشهادة مع الصدّيقين والأبرار وحباه بالكرامات الباهرة والمعجزات الزاهرة التي رواها الخاص والعام وكراماته أكثر من أن تحصى وأوفر أن تستقصى وقد ألّف في حياة سيدنا وكراماته الكثير من الأعلام منهم العلامة محمد علي بن عبد الأئمة البلداوي والشيخ جابر بن الشيخ مهدي آل عبد الغفار البلداوي والشيخ هاشم بن محمد علي البلداوي والعلامة الكبير الميرزا هادي الخرساني والعلامة الحجة الكبير محمد الطهراني ابن العلامة المحقق الشهير الميرزا ابو القاسم الذي كان من أجلاّء تلامذة المجدد الكبير آية الله محمد حسن الشيرازي كما ألّف عن كرامات السيد محمد العلامة الشيخ المحقق الكبير محمد علي الاوردبادي الغروي النجفي والعلامة قاسم بن العلامة السيد علي بن ياسين الحسيني القطيفي والسيد موسى الموسوي الهندي وغيرهم كما كانت السيرة العظيمة لسيدنا الجليل مثار قرائح الشعراء في كل العصور فمدح ورثى وعدد مناقب السيد محمد الكثير من الشعراء منهم محمد علي اليعقوبي ومحمد صادق الصدر وعبد الغني الخضري وعبد الحسين الحويزي والسيد محمد هادي ابن آية الله محمد الحسن الصدر العاملي الكاظمي والسيد علي نقي النهري ومسلم الحلي ومحمد مهدي الصدر الكاظمي وحسن اسد الله الكاظمي ومحمود الخليل والميرزا مهدي الشيرازي والشيخ محمد حسين الاصفهاني والعلامة الشيخ هادي كاشف الغطاء والشيخ علي الجشي القطيفي البحراني والعلامة راضي آل ياسين الكاظمي والشيخ محمد رضا آل ياسين والسيد محمد جمال الدين الهاشمي الكلبايكاني والسيد علي نقي الهندي والسيد محمد باقر الشخص الاحسائي والشيخ عبد المهدي مطر النجفي والشيخ محمد حسن بن الشيخ علي الطريحي والسيد صادق الموسوي الهندي والسيد مير علي أبو طبيخ النجفي والشيخ محمد رضا الغرّاوي والشيخ محمد رضا الزين العاملي والشيخ جابر الكاظمي مخمس الأزرية والسيد محمد بحر العلوم والسيد هاشم الهاشمي والسيد مسلم حمود الحلي والسيد محمد رضا الهندي وغيرهم من العلماء الأعلام والشعراء الأفذاذ الذين جادت قرائحهم بذكر هذا السيد الجليل بأروع التآليف والأشعار ومن هذه الروائع قول السيد محمد مهدي الصدر الكاظمي بحق السيد محمد(ع):
ان الإمامة ان عدتك فلم تكن تعدوك كلا رفعةً ومقاما
يكفي مقامك انه في رتبةٍ لولا(البدا)لأخيك كنتَ إماما
وقال آية الله السيد ميرزا مهدي الشيرازي في حق السيد محمد:
بقعة لا يحام حول حماها بسوى طوفها ولثم ثراها
ربوة ذات روضة ومعين بوركت في بقاعها ورُباها
وعراص لشبل احمد فيها مستناخ يهاب فيه فتاها
هي مثوى لماجد هاشمي ذي فعال فاق السماء علاها
مألف الجود من سراة علي معدن الخير من ذؤابة طاها
هي مثوى محمد بن علي بعلا قدره علتْ غبراها
سيد من بني الكرام كريم وله عنصر به الله باها
حاسر عن ذراعه للأماني ما نخته الآمال إلاّ قضاها
يمّمته الوفاد من كل وجهٍ انثنت عنه بعد نيل مناها
نعم بقيت سيرة هذا السيد الجليل تلهم الأجيال بمعاني العقيدة السامية وبقي مرقده الشريف مفزع اللائذين وملاذ اللاجئين وسطع كالشمس قبلة للزوار من كل مكان وقد مرّ المرقد المقدس بالعديد من التجديدات والبناء في عصور متفاوتة وأول بناء أقيم على القبر الشريف هو بناء عضد الدلولة البويهي من عام (367-373)هـ وفي عام (914)هـ جدّد البناء اسماعيل الصفوي ثم محمد رفيع الخراساني عام1198هـ/1777م. وفي عام1250هـ/1824م جدد البناء محمد صالح بن محمد القزويني كما جدد بناء القبر الشريف السيد المجدد محمد حسن الشيرازي عام1311هـ ثم الميرزا محمد الطهراني عام 1371هـ ثم السيد حسن الصدر ابن السيد هادي الموسوي الكاظمي عام 1355هـ وفي عام 1366هـ جدد البناء السيد محمد بن السيد حسين القمي.