رائعة من روائع شكسبير
تدور أحداث مسرحية "ريتشارد الثالث"، عن نزاع اندلع بين عائلتي لانكستر ويورك، في الاخير تنتصر عائلة يورك بالتاج بعد خسائر كبيرة، كما تتناول المسرحية ضغوط وسقوط ملك يورك الاخير، ملك مخادع، اناني، شرير، انتهازي، قذر، قاس، لا يرحم، مشوه، اعرج، يحمل العداوة والكراهية لنفسه وللآخرين. يمارس رغباته ونزواته من أجل الاستحواذ على السلطة، يمضي دون هوادة في القتل، لا يعرف أن الحياة محفوفة بالمخاطر، يقتل الاطفال، النساء، الأبناء، الآباء، والأقارب، يعرف كيف يغوي ويكسب قلوب النساء الأرامل، لا يكترث لموت أحد، قتل اخاه بدم بارد ومن يقف في طريقه، يطمح أن يصبح ملكا، يصعد إلى العرش فوق الجثث، بعد أن يحيك مع أصدقائه مؤامرات في غاية البشاعة.
اعتمد المخرج الهولندي "ماتياس رومكا" في تقديم مسرحية "ريتشارد الثالث" الشهيرة من تأليف شكسبير، لفرقة "اوكاتر" على مسرح "ستاتس خاوبورخ" في أمستردام، على بنية سردية جديدة المسرح الغنائي، باسلوب سحري شاعري مغاير، على التجريب، المغامرة، الجرأة في كسر المألوف والسائد، وتهديم التابوهات، والمقدسات، استفاد من نصوص الانجيل في أكثر من لوحة على شكل أغان، كما اخترع شكلا مسرحيا جديدا اقرب إلى التجريد، فتح المسرح وفضاءه على مصراعيه، كأنه فضاء قصر متهرئ، خال من ادوات الديكور الضخمة، استخدم كراسي حمرا، مقصلة، بيانو وفرقة موسيقية، وجعل القتل بالموسيقى.
في جو مظلم، غامض ومخيف، نسمع ضربات أقدام تتقدم الينا، انهم يتقدمون، يتقدمون، كأنهم اشباح، غناء عزف، ثم اضاءة عامة تنعكس على الوجوه، أول ما نتطلع اليه ننتبه إلى وجود مجموعة من الممثلين يرتدون التنورات يتوسطهم الملك "ريتشارد" الذي يلعب الشخصية الرئيسية الفنان الهولندي المعروف "خايس سخولتن فان اسخات" مبتهجاً مع مرافقيه، يرقص على أنغام موسيقى الروك العنيفة، في مواجهة الجمهور، بهيئة غريبة، لحية، يرتدي ملابس اسكتلندية (تنورة) وسترة عسكرية رثة، مطرزة بالنياشين. يسحب ساقه العرجاء بعنوة، وذراعه المعاقة. يغني بصوته العميق والمؤثر: "حبيبتي سأطلق النار على القمر لأخرجه من السماء". بهذه الجملة العنيفة والدموية يستهل المخرج عمله المسرحي، المفاجئ بأغنية من أغاني الروك باللغة الانكليزية للفنان الموسيقي الاميركي "توم ويتس". هذه العبارة تجعلنا نفكر ملياً عميقا ما بين التأمل، الحيرة، وما بينهما، بمثابة وميض أول لحريق لم ينطفئ، تتوزع الشخصيات بانتظام، يمثلون، يرقصون، يفرحون، يعزفون الموسيقى العنيفة وأغاني الشر، بهيستيرية، وسادية قاسية لحماقات الملك الجديد "ريتشارد الثالث".
يعرف "ريتشارد" ان العرش يلوح له في الأفق، لكنه حين يتكلم مع نفسه المنولوجات - هذه الطريقة المعروفة في أعمال شكسبير- يرى اوهامه امامه. لا يحرك يده المعاقه ولم يبذل جهدا في تحريكها، الا في مشاهد القتل، ولا سيما في اغواء النساء، وحين يحركها تصدر صوتاً مثيراً عنيفاً ينذر بالشؤم، كأنه على استعداد لخوض المعركة والاستحواذ على العرش. بشكل متوتر، مثير وساخر يغني:"البؤس هو نهر العالم" بهذا الجو الحزين، المخيف، واليائس تستمر المسرحية. لتخلق عالما ساحراً، مجنوناً، غريباً، كل هذه الصفات الصعبة والمركبة والمعقدة استطاع أن يؤديها ويتقنها بقدرة عالية الممثل الهولندي "خايس سخولتن فان اسخات" كان حضور الممثل البطل لافتاً ومميزاً وبذل كل ما في وسعه في تمثيل ريتشارد.
على نغمات موسيقية، في ايقاع سريع مفعم بالاثارة يمضي العرض، نتابع ما يحدث للبطل ومؤامرته الدنيئة، نركض وراءه ونلهث احيانا، نشم رائحة الموت في فضاء القصر، نرى العنف، القسوة، الغضب، السخرية، تتوزع بين التمثيل، الغناء، والرقص العنيف. استخدم المخرج الموسيقى اغواء للقتل، وكأن "ريتشارد" المايسترو، يقود مجموعة من الموسيقيين الشباب كأنهم جنوده يتبعونه يحيطونه، ويرددون ما يقول. من المشاهد التي يمكن التوقف عندها، مشاهد القتل، التي رسمها المخرج بعناية ودقة فائقتين، مع كل ضحية تموت، ينزل كيس شفاف مملوء بالنفايات من الاعلى يرتطم بقوة بالمقصلة - التي هي عبارة عن لوحين من الحديد في وسط عمق المسرح تستخدم لوصف حالة القتل- يحدث جلبة وهلعا، سقوط الكيس علامة الموت، ثم ينفجر الكيس الضخم تخرج منه روح الميت: اوراق بيض، سلاسل حديدية، سجاجيد حمر، احشاء وسائد، اكياس نايلون، نفايات، قنانٍ فارغة، بالونات حمر، كرات، وأحلام ميتة. وثمة كيس اخير يتدلى معلقا في فضاء المسرح ينتظر الملك "ريتشارد الثالث".
على مدى اكثر من ساعتين يستمر العرض دون ملل، سرعان ما يتغير شكل المسرح بأكمله، ويصبح عبارة عن كومة كبيرة وهائلة من النفايات تحيط بالملك، كراسي حمر مقلوبة ومحطمة، نفايات، حطام، خراب، جنون. أخذ المخرج حريته من البداية في تحريك ممثليه اذ استخدم "فرقة الروك" في طريقة السرد، الرقص، الغناء والتمثيل، والموسيقى الحية تعزف على خشبة المسرح تسهم في خلق جو خاص وجديد مبتكر، كما فكك تاريخ شخصية "ريتشارد الثالث" وقدمه لنا بشكل معاصر.
تتوالى الضحايا، الخسائر، ثم موت، يتعامل البطل الملك "ريتشارد" بعدوانية، وسادية عنيفة بشعة مع الجميع، ولعه المزمن في تعذيب وقتل من يقف في طريقه، أمضى ريتشارد حياته متمرداً على اخويه من أجل الاستحواذ على السلطة باية طريقة من الطرق اللاشرعية، مستخدماً جميع أنواع العنف. في نهاية العرض يصرخ "ريتشارد الثالث" مكسورا مهزوما، خائبا، طالباً النجدة، لكن كيس النفايات ينتظره، يسقط كيس كبير ممتلئ بالنفايات من الاعلى، يهوي "ريتشارد" بثقله على الأرض، ويغرق في صمت طويل. كل شيء يفلت منه بلا هوادة، تلتهمه الخسارة والخذلان. يهيم على وجهه، يموت عاجزا عن كل شيء، لا أحد يرافقه، دون أخ، دون صديق، أو حتى جواد ينقذه مقابل مملكته، لا شيء سوى الموت، ويتحول القصر إلى قبر.
للتحميل
http://www.4shared.com/get/noW4Gs-N/___.html