تجليات الوطن الروحية و تنوعاته عند السَّياب !
March 13, 2012 at 3:27pm
يا ربُّ يا ليتَ آتي لي إلى وطني
عودٌ لتلثمني بالشمس أجواءُ
منها تنفستُ روحي .. طينُها بدني
وماؤها الدمُ في الأعراقِ ينحدرُ
يا ليتني بين مَنْ في تُربها قُبروا
غربة رائد الحداثة الكبير ، " الحياتية " هذه تتجسد حين تضغط إحتمالات الموت وعذابات المرض العضال على جسد السَّياب وتنهض متمردة بإعياء ولاجدوى لأسباب الحياة في روحه ورفسات جسده .. في هذا الفاصل يحضر الوطن أيضاً كمخلِّص إلهي من المرض وحامٍ مضمون من الموت ، ولا أدري من أين تدفق لعقل وحواس السياب هذا الهاجس البدوي والبدائي ، هاجس الإعتقاد أن " القبيلة " ، وعند السياب " المكان " ، لهما قدرة المعجزات في إستنزال البُرء .
فالسياب يهجس أن الوطن بلسم حتى لآلام الجسد ، لسحر ما في هوائه ومائه وتُربه وتقلبات مناخه .. وفي عدة أماكن من قصائده التي كتبها في مشفاه في لندن إشارات الى ظنه أن إبتعاده عن العراق سبب له مضاعفات المرض ، رغم إيمانه علمياً أن لا شفاء من مرضه .
نسيمُ الليل كالآهات من جيكور يأتيني ، فيبكيني
بما نفذثتْهُ أُمي من وجدٍ وأشواق
وكم ناديتُ في أيام سُهدي أو لياليه :
ــ أيا أمي ، تعالي فالمسي ساقي وأشفيني
يا ربُّ لو جُدْتَ على عبدِك بالرُقاد
لعلهُ يحلمُ أنه يسيرُ دونما عصا ولا عِماد
ويذرعُ الدروبَ في السَّحر / حتى تلوح غابةُ النخيل
تنوءُ بالثمر
بالخوخِ ، والرمانِ ، والأعنابِ فيها يَعصرُ الأصيل
رحيقَهُ المشمِشَ أو تألُقَ القمر
ويقطفُ الجَنى / علَّقَ في رمانةِ عصاهُ وانثنى
يأكلُ أو يجمعُ الزَهَر
حتى إذا ما انطلقنا / وراحَ يطوي الطُّرقا
أحسَّ أو ذَكرْ .. بأنه بلا عصا سارَ وما شعَرْ !
إن هذا التعلق المهوس بالمنقذ السحري " الوطن " لم يهن ولم يفتر لهاثه وتشبثه الكلي بالعراق حتى في آخر قصيدة له " كما ينوه عن احتمال ذلك هامش ص 719 / المجلد الأول من أعماله الكامله " التي كتبها في الكويت بعد أن يأس من الأطباء ويأسوا منه الأطباء لقد رضي معشوقته ومعبودته العراق حتى ولو بماهو دون الحد الأدنى من العيش والحياة ..
عدتْني ليالي الصيفِ من ذا يعيدها سوى الوهمِ والذكرى لأسوانَ حائرِ
فيا حبذا جلسةٌ فوق شاطئ ألوذُ به إن مسَّني ظلمُ جائرِ
خيـالُكِ من أهلي الأقربينَ أبرُّ وإن كانَ لا يعُقــل
أبي .. منه قد جردتني النساءُ وأُمي .. طواها الردى المعُجــل
وما لي من الدهرِ إلاّ رضاكِ فرحماكِ ، فالدهرُ لا يعدِِ لــ
وإطلالة السياب ، في هذه المرحلة ، لاتتمثل في الألتفات صوب الماضي وظلاله وأنقاضه بل صوب خلق عالم أرحب من البيت وأرحم منه ، عالم الطبيعة ــ الوطن ، الشعب ــ الأهل وعند هذا المنعطف أخذ ينطلق صوب المكان البديل ساحباً خلفه زمنه الحاضر وظلالاً من زمنه الماضي ومتجهاً صوب الزمن الآتِ الذي أخذ يتجسد عبر الخيال السياسي كزمن عام .
إن غربة السياب عن البيت فتحت له التواصل مع الوطن عبر تدرجٍ بدأ ، بالقرية ، الريف ، ، المدينة عبر تنامي الهموم الذاتية التي لم ترق بعد الى أفق الوعي والحكمة والتأمل بل ظلت في فلك تصوير الأحلام والأحاسيس التي لاحقت الشاعر وتدخلت في صياغة أعماله وعوالمه ، لقد قاده كل ذلك عبر إنفصام حاد وميلودرامي عن البيت والأهل مما فجَّر فيه شفافية مدت ظلالها على غالبية أشعاره ، لقد ألقت به حسيته المرهفة في أحضان الطبيعة ــ الأمان والملاذ ، ، المرأة ــ المعشوقة والأم ، والحلم ذي التواصل الخفي مع البيت عبر الوطن
أحبتُ فيكِ عراقَ روحي أو حبيتُكِ أنتِ فيه
يا أنتما ، مصباحَ روحي أنتما .. أتى المساء
والليلُ أطبق ، فلتُشعا في دُجاهُ فلا أتيه
لوجئتِ في البلدِ الغريبِ إليّ ما كمُلَ اللقاء
الملتقى بكِ والعراقُ على يديَّ .. هو اللقاء !
الغربة عند السياب تحضر بإلحاح ضاغط و وهم ساخن ينتاب روح الشاعر حين يجد نفسه خارج وطنه . فهي تتأكد شعرياً وبطللية معاصرة وفريدة التجسد شعرياً في الجيَّد من قصائده التي كتبها في الغربة " غريب على الخليج " و " من ليالي السهاد " و " لأني غريب " و " سِفر أيوب " و " سهر " و "منزل الأقنان " و " إرم ذات العماد " و " جيكور أمي " و " يا غربة الروح " وغيرهن من عشرات القصائد التي كتبها ببيروت ، الكويت ،
فالوطن عند السياب طللٌ روحي وحياتي شيَّدته الطفولة التي تشربت بالمكان والذكريات والمعشوقات وحكايات الجدات واليتم المبكر ثم أعلت عمارته ذكريات النضال الثوري الساخن والجوع والتشرد والعذاب والحرمان والصراعات التي أنتهكت السياب وإنتهكها السياب أيضاً ..
أكادُ أسمعُ العراقَ يذخرُ الرعود
ويخزنُ البروقَ في السهولِ والجبال
حتى إذا مافُضَّ عنها ختمُها الرجال
لم تترك الرياحُ من ثمود
في الوادِ من أثر
بسمة النور في ثغورِ الجراحِ ،،،، أنتِ قبلَ الصباحِ نجمُ الصباحِ
كلما لُحتِ هلَلَ الشعبُ أسوان ،،،، يبثُ إبتهاجَه في النواحِ
واستضاءتْ بسمةُ من شهيدِ ،،،، ومشتْ فوق معبرِ من جراحِ
عربدَ الثأرُ فإنهضي يا ضحايا ،،،، وإطرحي عنكِ باردات الصِفاحِ
وأسألي قبرَ جعفَرَ الباردَ المخزونَ ،،،، ما ذنبُ هذهِ الأروحِ
أنتِ مزقتِ ظلمةَ الليلِ بالنورِ،،،، فلا تهُنْ مقلةُ السفّاحِ
فلا بيدرٌ في سهولِ العراق،، ولا صبيةٌ في الضُحى يلعبون
ولا هدهداتٌ ، ولا جلجلٌ ، يرنُ بساقِ الوليد
ولا وسوسَ الشايُ فوق الصلاءِ ، ولا قصةٌ في ليالي الشتاء
عصافيرُ ؟ أم صبيةٌ تمرحُ ؟ أم ماءُ من صخرةِ ينضحُ ؟
علينا لها : إنها الباقية ، وإن الدواليبَ في كل عيد
سترقى بها الريحُ جذلى تدور
ونرقى بها من ظلامِ العصور ، الى عوالمٍ كلُّ ما فيه نور
إن حضور الوطن عند السياب حضوراً يملأ عليه كيانه الروحي والعقلي ، بل من خلال هذه الحقيقة تحدد قاموس السياب الشعري وأضحى بسبب هذا التوحد أقرب الى العامية في نكهة وجزالة وسيولة لغته ، عدا ميله الملحوظ الى توظيف كل ما هو شعبي وفولكلوري في التعابير والشخوص والعوالم والمعتقدات والقصص والأغاني ،، فهو ممتليء بعراقيته الى أسرته والتي منها نبعثَ شموليته وإزدهرت موشومة بجذورها ..
إني لأعجبُ كيفَ يمكنُ أن يخونَ الخائنون
أيخونُ إنسانٌ بلادَه ؟
إن خانَ معنى أن يكونَ ، فكيفُ يمكنُ أن يكون ؟
الشمسُ أجملُ في بلادي من سواها ، والظلامُ
حتى الظلامُ ، هناك أجملُ ، فهو يحتضنُ العراق .
وعبر الوطن تمتد ذات الشاعر الى مديات الأفق القومي التحرري والشمول الإنساني ، فالسياب يحدس حقيقة : إن لم تكن وطنياً حقاً لا يمكنك أن تكون أممياً حقاً والسياب بحسه العراقي المشبع بمحليته العراقية لا يغادر الوطن صوب العالم بل يستحضر العالم في صورة الوطن ..
والوجه الآخر لهذه الحقيقة هو حنينه المتلفت صوب طقس الوطن وتفاصيل الأرض وأناسها حين يجد نفسه خارج جغرافيا العراق .
الموتُ في الشوارعِ ، والعُقمُ في المزارع ،
وكلُ ما تُحبُه يموت
أهذا إنتظارُ السنينِ الطويلة ؟
أهذا صِراخُ الرِجولة ؟ / أهذا أنينُ النساءْ ؟
أدونيسُ ! يا لإندحاِرِ البطولة !
لقد حطم الموتُ فيك الرجاء
وأقبلتَ بالنظرةِ الزائغة / وبالقبضةِ الفارغة
أليس يكفي أيها الآلةْ
تُحيلُني ، بلا ردى ، حُطامْ ؟
سفينةٌ كسيرةٌ تطفو على الحياةْ ؟
هاتِ الردى ، أُريدُ أن أنام
بين قبورِ أهليَ المبعثرة / وراء ليلِ المقبره
رصاصةَ الرحمةِ يا آلهْ !
تلك هي غربة السياب الثلاثية التي تشكلت منها غرية المكان عن الوطن حيث تقاذفته تضاريس الأرض من الكويت الى لندن ، الى بيروت ، الى باريس ، الى الكويت ، وهو حامل جسده المنهك وروحه الكسيرة بين المستشفيات والمطارات والكوابيس ،، وغربة روحية ناجمة عن أختيار العمر الذي تألقت به روح السَّياب صدقاً وفعلاً و عطاء ، هذه الغربة التي تمخض عنها إنسحابه عن الحزب الشيوعي الذي دُفع اليه وأكره على الإنحدار في إجترار مر سوداوي للمتغييرات في مواقفه . لقد ظل عائماً في عذابه بين ماضي عجز أن يتخلص منه وحاضر عجز عن أن يخلص حقاً له ،، ثم غربة حياتية ــ إن جاز التعبير ــ حيث عذاب الجسد المغزو بأوجاع وتخريبات مرض عضال دوَّخ الأطباء ، وسخر بالدواء وظل ينتزع الحياة من كيان الشاعر تدريجياً وبقسوة حتى ألقي في العطل بكامل جسده الواهن ، ولف بالعذاب والكوابيس والقلق جسداً مهوساً بحب البقاء متشبثاً بالحياة .
يا ليلُ أين هو العراق ؟
أين الأحبةُ ؟ أين أطفالي ، وزوجي ، والرفاق ؟
أين الهوى مما ألاقي ، والأسى مما ألاقي ؟
يا ليتني طفلٌ يجوعُ ، يئن في ليلِ العراق ؟
هذا هو الوطن عند السياب ، حب لوجه الوطن صاغه الجوع والبراءة ودفء البيت وملاعب الصبا والحرمان من آل الوطن ، الأم ، الجدة ، الأب ، الحبيبات ، الزوجة ، الأبناء ، الأصدقاء ، ثم فاجعة خسارة الرفاق .. وعمَّقه الوعي الوطني الثوري والتضحيات والتغرب المتنوع المرير الذي ألقى بالسياب في هوة الشعور أنه لا يملك في هذه الدنيا سوى الوطن .. فلا غرابة في هكذا ذوبان في ذات الوطن ، وهكذا لجوء مرتعش لحماه .. فالوطن ملك من لا ملك له .