مظاهر وظواهر نوعية في الشعر العربي ــ القسم الثاني ــ
January 27, 2012 at 7:49pm
ومن ناحية أخرى فإن ولادة جماعة " أبولو " في الثلاثينات من القرن الماضي في مصر بزعامة " أحمد زكي أبي شادي
" بعد مجيئه من إنكلترا وإطلاعه الواسع على الشعر العالمي ، وإصداره لمجلة " أبولو " . ومن ثم تكوين جماعة تضم " إبراهيم ناجي ، وعلي محمود طه المهندس ، وخليل شيبوب ، ومحمود أبو الوفا و آخرين " . عززت و الى حد كبير من الإتجاه الرومانتيكي في الشعر العربي وتكامله بنفس الوقت ، وخاصة في ديوان " الشفق الباكي " لأبي شادي ، و " أرواح وأشباح " لعلي محمود طه ، ودواوين إبراهيم ناجي .. الخ . هذا الشعر الذي أخذ يطرق تلك الموضوعات الوجدانية المعروفة عند الرومانسيين من مناجاة الطبيعة الى الحرمان والحب الضائع ، الى القلق والحيرة والإضطراب . ولا يفوتنا أن نذكر هنا محاولة أبي شادي ودعوته للشعر الحر التي لم تثمر وقتئذ ، وكتابته مع زملائه بالشعر المرسل القافية .. وعلى صعيد تحديث وتجديد الشعر فنياً فقد ولدت محاولة مهمة في على يد " الزهاوي والرصافي " مما سمي ب " الشعر العصري " وإطلاق القافية . ألا أن هذه المحاولة لم تفلح أيضاً بسبب إنسحاب الشاعرين عنها . كما ظهرت بعض الملامح الرومانسية في الشعر في العراق . والدعوة لهذه المدرسة على صفحات مجلتي " الوميض " و " الحرية " . لقد أخذت المدرسة الرومانتيكية في الشعر العربي عموماً تضعف وتهمل تدريجياً وتنتهي الى النسيان ــ إلا قليلاً ــ بعد الحرب العالمية الثانية لأسباب منها : وصولها بشكل متأخر بداية القرن العشرين . أو ل " غياب الفنان العظيم " ـ كما يرى أحد النقاد ــ . وعجز " النقد العربي " من مجاراتها بالدراسات وملاحقتها بالتعريف والنقد . هذا إضافة الى عدم وجود تقليد عربي بالتسميات المدرسية ، وحلول إتجاهات أدبية أخرى محلها ... أما ما يشير إليه المستشرق الأنكليزي " جب " بأن الرومانتيكية ما هي إلا " مزاج عربي " فأمر يعزل الأهمية الكبرى للتطور الإجتماعي والزمني ، ويضع الصورة وكأنها عملية أهواء وتقلبات في " الذات " العربية . فالرومانتيكية في الشعر العربي رغم إختلافها بحدود ما عن الرومانتيكية في أوربا بسبب الإختلاف بين نشأة البرجوازية العربية والأوربية وظروف تطورهما ، إلا أن مسلمة التطور الحضاري والإجتماعي والتفاعل بين ثقافات العالم لا بد أن يفرز بالضرورة توجهاً وإتجاهات وآفاقاً جديدة على العملية الشعرية برمتها ، ويجعلها متحولة ومتعايشة مع هذا التطور .. انَّ شاعر القرن العشرين الذي أراد أن يظفر بأمرين " القوة والحداثة " ـ كما جاء في بعض الدراسات النقدية ــ وغلب على شعره الجانب السياسي مع عوامل أخرى إجتماعية إقتصادية وسلوكية ونفسية ، كان للإنكسارات العديدة على الساحة العربية مع ما رافقها من إنتصارات ــ على قلتها ــ والموروث الذي وراءه ومدارس التحديث والرفد والترافد الثقافي ، ودورها في الإضافات الجديدة ، والنقلات الكثيرة في تفكيره وفي مواصفات القصيدة العربية ، بحيث تعددت أشكالها وتنوعت مضامينها .. ولعل التحولات العميقة بعد الحرب العالمية الثانية والإنتصار على النازية ، وإنتشار الأفكار الإشتراكية العلمية ، والإنتفاضات ، والهبات الداخلية ، والكفاح من أجل الخلاص من الإستعمار ، ومن أجل الحرية والإستقلال والإنعتاق الوطني ، ثم المحاولات المبكرة الأخرى لتجديد اشكال القصيدة العربية ، كمحاولات " لويس عوض " و " علي أحمد " في ترجماتهما ، وقصائد مثل " الناي " لبشر بن فارس ، و " الحديقة الميتة والقصر البالي " لإبراهيم العريض ، فحركات التحديث السابقة ، أقول كل ذلك شكل إرهاصاً كبيراً لولادة الشعر الحر لاحقاً وظهور الواقعية في الشعر العربي . إن انجازات الشعر العربي أخذت وتأخذ طابع النضوج عام 1948 فهذا العام هو عام النكبة في فلسطين ، وعام الهبات والغضب ومواجهة الإستعمار ، والصراع وتجذر الأفكار الثورية ، فلا بد للشعر أن يكون في وسط تلك المعارك ، فالحاجة للتغيير في كل شيء كانت ترافقها الحاجة للتغير في الشعر ، وهكذا ولد الشعر الحر على يد السيّاب في " هل كان حباً ؟ " ونازك الملائكة في " الكليرا " ، ثم البياتي ، وصلاح عبد الصبور ، وآخرين بعد ذلك ..
إذا كان كل جديد بحاجة الى موهبة وإضافات وحرية ذات نظام ونسق محدد ، فإن الشعر الحر كان بحق إضافة كبيرة إستفادت بلا شك من حركة التمردات في التراث والأحداث التي زاملته مع هذا السيل من الحركات النوعية مطلع القرن الماضي ، إضافة الى الإحتكاك بآداب الأمم الأخرى . وقد أثار ظهوره حينذاك كثيراً من الجدل والحوارات والنقاشات بين رواده من جهة وأنصار الإتجاه التقليدي من جهة أخرى تذكرنا بذلك الجدل الذي جرى بين شعراء " الحركة " التقليديين و " المجموعة " المحدثين في إنكلترا خلال الخمسينات والسينات من القرن الماضي .. ومن هذه الحوارات والجدل ما دار على صفحات " الآداب " و " حوار " و " شعر " أو من خلال بعض الندوات الأدبية . كما قام رواده بالدفاع عنه والتبشير به ، كدفاع السياب في مؤتمر للشعر في الخمسيات ، أو رد نازك الملائكة على من وصفه بأنه ولد " غير شرعي " ولا علاقة له بالشعر العربي ، فجاء الرد عليه بأنه : " مستمد من عروض الخليل ، و قائم على أساسه " .
ويظهر الشعر الحر ورسوخه كمدرسة قائمة بذاتها والى يومنا هذا . فقد ظهرت المدرسة الواقعية ، والواقعية الإشتراكية ، والرمزية والسريالية ، وكلها في مواجهة الرومانتيكية . ومن القصائد الواقعية للسيّاب في الأربعينات والخمسينات وإستعانته بالرمز والإسطورة قبل أن يتحول قومياً عربياً تحررياً ، فذاتياً لاحقاً الى وفاته ، " إنشودة المطر " و " حفار القبور " و " الأسلحة والأطفال " . أو قصائد البياتي ، وعبد الصبور ، وسعدي يوسف ، و مظفر النواب ، وبلند الحيدري ، وأحمد عبد المعطي حجازي ، ونازك الملائكة ، ونزار قباني ، و د . غادة فؤاد السمّان ، وخليل حاوي وآخرين .. أما القصائد التي برز فيها المذهب الرمزي ، التي وردت في ديوان " أفاعي الفردوس " لإلياس أبي شبكة ــ مع روماننتيكية ــ ، و " المجدلية " لسعيد عقل ..
وفي منتصف السينات وبعد إنطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965 ولد نوع من الشعر القائم على تبني الثورة وإلتزامه بحركة المقاومة ، أخذ يترسخ يوماً بعد يوم وبخصوصيته مع إمتداده للشعر العربي ، وهو شعر المقاومة الفلسطينية وخاصة بعد صدور ديوان " عاشق من فلسطين " لمحمود درويش ، وملحمة سميح القاسم " ارم " ثم ثبات هذا الشعر وغنائيته والتزامه الثوري الوطني والأممي وإثرائه في الشعر العربي ليشكل مدرسة وإتجاهاً بأسماء ورواد آخرين كتوفيق زياد ، وسالم جبران ، ومعين بسيسو وآخرين ..
كما ولدت بعد ذلك أنواع أخرى من الشعر في أواخر الستينات كالشعر المنثور ، وقصيدة النثر ، ومدرسة " أدوننيس " عبر مجلة " مواقف " البيروتية وفلسفتها المتافيزيقية الصوفية في الشعر وأفكار التغريب والإغتراب والتجريد الشكلي في اللغة . وفي موقف أدونيس من قصيدة النثر يرى أنها : " قفزة وتمرد خارج الحدود " ، وقول " أنس الحاج " ــ أحد روادها ــ بأنها : " أرحب ماتوصل إليه الشاعر تكنيكياً " .. ولا ننسى هنا أيضاً ظهور " الحنين السريالي ! " على صفحات مجلة " شعر 69 " في العراق ، و " كاليري 68 " في مصر ..
غير أن نتائج النكسة قبل ذلك وفي عام 1967 شكلت قفزة كبيرة ومهمة في إنقلاب كثير من المفاهيم بعد سقوط برنامج البرجوازية العربية للتحرر الوطني التي قادت الأمة العربية الى الهزيمة ، وولادة لغة التحدي والغضب والمواجهة مع مارافقها من معاناة وآلام قاسية ودفينة
وهكذا إستمرت عجلة التأثيرات والمظاهر في الشعر العربي لتبرز بعد ذلك الى الوجود تجربة بيروت أيام الحرب الأهلية منتصف السبعينات . ووقت الحصار والإجتياح الصهيوني عام 1982 .
منها تجربة كتابة القصائد المشتركة بين محمود درويش ، ومعين بسيسو ، أو تجربة سعدي يوسف في " مريم تأتي " . إضافة الى إنخراط كثير من الشعراء العرب التقدميين ومساهمتهم على صفحات " المعركة " ..
وأخيراً فإذا كان للحداثة إيجابياتها الكثيرة فإن لها سلبياتها أيضاً ، تلك التي يقع فيها شعراؤها كإندفاع البعض منهم للإكثار من التسكين في القوافي والإستعانة بالصور المكررة أو الإفراط بالسهولة والتكرار أو الإيهام والتضمين والتدوير . والمبالغة بالتغييب في النفس والإنكفاء على الذات والهروب الى الوراء ، أو الفوضى التي تهيمن على بعض قصائد الشباب وتسرعهم لإحتراف مبكر وغيرها .
ومن الجانب الآخر فإن السيل الغث من أشعار الإرتزاق والترذل للدكتاتوريات الحاكمة العربية ، ومحاولة تدمير الشعر الوطني وتراثه الكفاحي وما يحمله من لغة إنسانية ، رغم إنه ــ أي شعر الإرتزاق ــ لم يشكل في يوم ما شيئاً يذكر في حركة التغيير والتحديث الشعرية سوى الهبوط والإنحطاط ، فإنه يشكل ردة إساءة وتدمير لكل طموح وطني واعد بالتغيير عبر سموم وزعيق شعائري لا يملك قوة الكلمة أو كرامة الحرفة .
هذا ناهيك عن خوائه في الصراع الدائر الآن بين الكلمة الحقيقية من ناحية ، والترذل الكلامي من ناحية أخرى .. وكثيرا ما ترافق التغيير والحداثة عموماً مواقف متنافرة ومتعارضة من التراث . فنحن رغم تأكيدنا على كل جديد سيحتفظ ــ بلا ريب ــ بأشياء ورواسب من القديم ويطمح الى إضافات جديدة ، فلا ننسى بنفس الوقت وجود أكثر من تيار وموقف من التراث الشعري يتحدد من خلال الخلفية الفكرية والثقافية والسياسية والإجتماعية للناقد أو الشاعر .
منها موقف يدعو الى الإنفصام تماماً عن التراث ، وآخر الى تعصيره وربطه بالحاضر ، والآخر بمبالغة سلفية والدعوة الى " نقائه " من باب " ليس بالإمكان أبدع مما كان !! " .. الخ .
ولكننا إذا ما تجاوزنا الشكل ونظرنا الى القيم الجديدة في التراث فسنجد أن العلاقة تبقى قضية طبيعية وحيوية دون مغالاة أو هيام ، بل من خلال إحياء الجانب النيٍَّر المشرق فيه وتعصيره ، وإضافات أخرى جديدة من أجل أن يقف الجديد على على قدميه بثورته وتحوله الفني والموضوعي . وللتراث بعد ذلك " سيطرة لا يكاد يفلت منها الاّ الشاعر العظيم " كما يقول صلاح عبد الصبور